د. الياس ميشال الشويري
يُحكى أنه كان هناك رجلٌ فاسدٌ أحبّ كلبه حبًّا جمًّا، وعندما مات الكلب، قرّر أن يدفنه في مقابر القرية بين الموتى من أهلها. لم يكن هذا الفعل أمرًا هينًا على سكان القرية، فقد غضبوا جميعًا، واعتبروه إهانة لهم ولتقاليدهم، فذهبوا مسرعين إلى القاضي يشكون إليه ما حدث.
استدعى القاضي الرجل وسأله عن فعلته، فردّ عليه بكل برود: “لماذا كل هذا الغضب؟ إنني لم أفعل سوى تنفيذ وصية كلبي يا سيادة القاضي!” استشاط القاضي غضبًا، وقال: “أتسخر مني أيها المعتوه؟!” ابتسم الرجل ماكرًا وقال: “معاذ الله يا سيادة القاضي، كل ما في الأمر أن كلبي العزيز أوصاني بأن أدفنه في مقابر القرية وأهبك ألف درهم لقاء ذلك!” فجأة، انفرجت أسارير القاضي، وابتسم ابتسامةً عريضةً وقال بصوت هادئ: “كم نظلم كثيرًا بسبب تسرّعنا! رحم الله الكلب الفقير، فقد كان وفيًّا حتى بعد موته!”
لكن، أهل القرية لم يقتنعوا بكلام القاضي، وازدادوا غضبًا، واتهموه بالنفاق، فحاول القاضي تهدئتهم قائلًا: “تمهّلوا قليلًا، ومن أخبركم أنني لم أتحرَّ عن الأمر؟ لقد سألتُ وبحثتُ كثيرًا، واتضح لي أن هذا الكلب ليس كأي كلب، بل هو من سلالة كلاب أصحاب الكهوف!” ساد الصمت للحظات، ثم قال أحد الحاضرين بحسرة: “في أيامنا هذه، لا تبحث عن محامٍ يعرف القانون، بل ابحث عن محامٍ يعرف القاضي!”
تُعبّر هذه القصة الساخرة عن واقع مأساوي يعيشه لبنان منذ عقود، حيث لم يعد القضاء سلطة نزيهة يُعتمد عليها لتحقيق العدالة، بل أصبحت ساحة للمساومات السياسية والمالية، تسيطر عليها المصالح الضيقة بدلًا من القانون. القاضي في القصة يمثّل شريحة لا يستهان بها من القضاة الفاسدين الذين يتلونون وفقًا لمصالحهم، تمامًا كما يحدث في لبنان، حيث يشتري أصحاب النفوذ الأحكام بينما يُترك الفقراء لمصيرهم دون حماية قانونية حقيقية.
- القضاء اللبناني: بين النزاهة المفقودة والضغوط السياسية
أ. فساد القضاء واستغلال النفوذ.في لبنان، لم يعد القضاء سلطة مستقلّة كما يفترض به أن يكون، بل بات خاضعًا لضغوط القوى السياسية والمالية الفاسدة بامتياز. العديد من القضايا الكبرى، مثل ملفات الفساد، الجرائم المالية، والاغتيالات السياسية، تنتهي إلى طريق مسدود لأن المتهمين ينتمون إلى المنظومة الحاكمة الفاسدة أو يتمتعون بغطاء سياسي يمنع محاسبتهم.
القاضي في القصّة يبدأ بموقف صارم، لكنه سرعان ما يغيّر رأيه عندما يُعرض عليه المال، وهذا يعكس ما يجري في لبنان، حيث يمكن لبعض القضاة أن يتأثروا بالضغوط السياسية أو الإغراءات المالية، فيصدرون أحكامًا تخدم المصالح الخاصة بدلًا من العدالة.
ب. القضاء المُسيّس كأداة للانتقام السياسي. في لبنان، تُستخدم المحاكم أحيانًا لتصفية الحسابات السياسية، فيتّم تحريك ملفات ضد خصوم سياسيين، بينما يتّم تجاهل الجرائم التي يرتكبها المتحالفون مع السلطة. وهنا يظهر مفهوم “العدالة الانتقائية“، حيث يُحاسب البعض، بينما يبقى البعض الآخر فوق القانون، كما في القصة، حيث لم يعد الحكم مسألة حق أو باطل، بل أصبح خاضعًا للمساومات.
- استغلال الدين والرموز التاريخية لتبرير الفساد
أ. تسييس الدين لخداع الناس. أحد أكثر الجوانب خطورة في القصة هو استخدام القاضي للدين والتاريخ لتبرير فساده، عندما ادعى أن الكلب ينتمي لسلالة كلاب أصحاب الكهوف، ليُضفي قدسية على قراره الجائر. في لبنان، يُمارَس هذا الأسلوب بكثرة، حيث يتّم توظيف الخطاب الديني لخداع الجماهير وإقناعهم بقبول قرارات غير عادلة، سواء كانت قرارات سياسية أو قضائية.
الأحزاب الطائفية الفاسدة في لبنان تُتقن هذا الأسلوب، حيث تُلبس قراراتها ثوب الدين أو التاريخ لإضفاء شرعية زائفة عليها. بدلًا من الاعتراف بالفساد والعمل على إصلاحه، يتّم استخدام الخطاب الديني لإسكات المعارضين ولإبقاء الناس في حالة استسلام وخضوع.
ب. المتاجرة بالقضايا الوطنية. كما استغل القاضي التاريخ لتبرير موقفه، نجد في لبنان أن بعض القوى السياسية تستخدم القضية الفلسطينية، أو شعارات المقاومة، أو حتى ذكرى الحرب الأهلية، لتبرير وجودها واستمرارها في الحكم، رغم أنها تمارس الفساد ولا تخدم المصلحة الوطنية.
- القبول المجتمعي للفساد: من المسؤول؟
أ. التطبيع مع الفساد. في القصة، كان بإمكان أهل القرية أن يعترضوا على قرار القاضي، لكنهم سكتوا أو حتى اقتنعوا بحججه الواهية. في لبنان، نجد أن الشعب غالبًا ما يستسلم للفساد، إما خوفًا، أو بسبب الإحباط، أو لأنه بات يعتبر الفساد “أمرًا طبيعيًا“.
عندما يتحدّث المواطن اللبناني عن القضاء، يُقال له:
- “ما حدا بيقدر يعمل شي“.
- “إذا ما عندك واسطة، ما بتاخد حقك“.
- “الحق مع يللي معو مصاري“.
هذه العبارات تعكس كيف أصبح الفساد جزءًا من الثقافة اليومية، حتى أن البعض يلجأ إليه كوسيلة لحل مشاكله، بدلًا من مقاومته.
ب. غياب المحاسبة. تُسلّط القصة الضوء على واقع مؤسف في النظام القضائي اللبناني، حيث يُفلت القضاة الفاسدون من المحاسبة، بينما يُضطر أصحاب الضمائر الحيّة إلى الكفاح لنيل الاعتراف المستحّق. يعود ذلك إلى نظام “المحاصصة الطائفية” الذي يُحكِم قبضته على المؤسسات، بما في ذلك القضاء، ممّا يؤدي إلى حماية الفاسدين ضمن طوائفهم وأحزابهم.
- الخاتمة: العدالة الانتقائية والنفوذ في لبنان
في الختام، القصة تلخّص حال لبنان بعبارة: “في أيامنا هذه لا تبحث عن محامٍ يعرف القانون، بل ابحث عن محامٍ يعرف القاضي“. هذه الجملة تنطبق تمامًا على الواقع اللبناني، حيث تُحسم القضايا، ليس بناءً على القوانين، بل بناءً على من يمتلك النفوذ والعلاقات داخل الدولة.
هناك قضايا فساد كبرى في لبنان مثل قضية الأموال المهربة إلى الخارج، أو سرقة أموال المودعين، أو ملف الكهرباء، أو الانهيار المالي، لكن لم يتّم محاسبة المسؤولين عنها. في المقابل، يُحاسَب المواطن العادي على أصغر المخالفات. هذا الواقع يعكس المفارقة نفسها الموجودة في القصة، حيث لم تعد العدالة متاحة للجميع، بل أصبحت امتيازًا لمن يستطيع شراءها.