في الباحة الخلفية لمستشفى الأطفال مع الأستاذ الشعاعي زياد الصواف 1984
د. غالب خلايلي
لم تكن المعاناة التي ذكرت في عنوان الجزء الأول شيئاً فيما سيأتي، فها قد بدأ عهد جديد في حياة خرّيج ذي مخزون نظري ضخم ضخّته فيه جامعة دمشق، يودّع فيه حياة الدّعة والاسترخاء، إلى سنواتٍ لا يكاد يجد فيها مجالا للراحة.
أحببتُ الأطفال ورزقي على الله..
بعد تخرّجي في كلية الطُّب البشري بدمشق عام 1984 وصلتُ إلى مفترق طرق، ووقعتُ في حيص بيص، بسبب كلام الناس والأطباء على جدوى الاختصاصات المختلفة. كان حبّي الكبير هو طبّ الأطفال، مع أنني أنِستُ لغير فروع. علامات التخرّج تؤهّلني لدخول الفرعين المتطلِّبين لأعلى العلامات حسب الرغبات السائدة وقتها، وهي طبّ النساء والأطفال. أستاذي الشعاعي القدير زياد الصواف (رحمه الله) حثّني كثيراً، محبةً خالصةً منه، على اختصاص الأشعّة: “غالب، نريد أن نأكل خبزاً”. آخرون أضافوا: ” دخل مختص بفرع جراحي أهمّ من دُخول عشرين طبيب أطفال”.
كل ذلك لم يغيّر قناعاتي، لا بما أرغب في دراسته، ولا بمفهوم الأرزاق (ومرور الأيام أكّد لي وَهْمَ المادة عند الناس)، ولكنني – قبل اتخاذ قراريَ النهائي – داومتُ يومين في مستشفى التوليد الجديد في البرامكة. ما رأيتُه من مشاكل هناك (وعقلي أصلاً خارجه)، مثل كثرة الدم، وصراخ المتألّمات، والنبرة العالية بين الزملاء، أبعدني عن ذلك الاختصاص إلى الأبد. الواقع أنني كنتُ مغرماً بطبّ الأطفال، وبمستشفى الأطفال الجامعي الضخم (بطوابقه الستة) ونظامه الصارم. كلّ أطباء المستشفى وأساتذته الذين عرفتُهم طالباً نصحوني ألا أدخل هذا الاختصاص المتعب، خاصة أنه بلا فائدة مادّية تذكر مقارنةً مع باقي الاختصاصات (لم يكن للتجميل والجلدية ذاك الشأن المادّي وقتها)، ولكني – مع اعتقادي بلا جدّية نصائح زملائي أو جدواها، وبأن كل ما تخدمه بأمانةٍ يخدمك – كنتُ كمن عشق فتاةً ولم يُرِدْ غيرها رغم كل تحذيرات الأهل، متمثّلاً قول الأمير الشاعر أبي فراس الحَمْداني:
تهون علينا في المعالي نفوسنا ومن يَخطبِ الحسناءَ لم يغلُها المهرُ
أما فكرة السفر خارج البلد (أميركا أو بريطانيا مثلاً) فلم تكن في خاطري، ولا سهلةً مع افتقاد أيّ دعم أو إرشاد.

خطاب منذر لرئيس الأطباء.. وهولٌ قادم..
في العشرين من تشرين الأول 1984 كان يومي الأول مع نحو عشرين زميلاً وزميلةً في طب الأطفال (والغريب أنني اليوم لا أكاد أعرف إلا النزر اليسير عن بعضهم، فيما ذاب معظمهم في غير مجتمعات). قبل ذلك بأسبوع زرنا المستشفى، وعندما رآنا زملاؤنا الأكبر سنةً، نصحونا أن نعودَ إلى بيوتنا وننامَ جيداً، ونتأملَ الشمسَ والقمر والنجوم، قبل أن نلتحقَ بالمستشفى. أصابنا العجب، ولكنّنا اكتشفنا بعد أسبوع بالضبط صدقَ ما يقولون، وأنّ نصيحتَهم في مكانها.
في الساعة الأولى جَمَعَنا رئيس الأطباء الأستاذ الدكتور رشاد العنبري (رحمه الله) وأعطانا بصوته الجَهْوَرِي محاضرةً هي أشبه بإنذارٍ من دولة كبرى لدولةٍ مسكينة. عرفْنا أن الأمور تغيّرت، وأن حياة الطالب المنعّم المرفّه ولّت إلى غير رجعة، وأن علينا أن نتأقلمَ مع الوضع الجديد، فكان كلام الأستاذ – كما رأينا – أصدقَ تعبيرٍ عن الهَول الآتي.. ومن بعضه أن المستشفى أعطانا ثلاثة أطقم من ملابس بيضاء خاصة بالمقيمين (سفاري بنصف كم)، نلبسها أثناء العمل، ذلك العمل المجهد جداً في السنة الأولى بخاصة، والذي يستمر طيلة النهار والليل، فنهار اليوم التالي. وبعد أن ينتهي النصف الأول من اليوم، يغادر كل الأساتذة والموظفين تقريباً، ولا يبقى سوى المناوبين، فيشعر المرء – أول عهده – وكأنه قُبض عليه في هذه المهنة، وحُكِمَ بالمؤبّد، ولم يعدْ له من فكاك.
وكم كان صعباً الاستمرار بلبس الحذاء كلّ الوقت، إذ تعرقُ الأقدام وتتعطّن وتُجهد، ولهذا انتعلتُ خفّاً ناعماً أوّل مرة بعد مغادرة الموظفين، وصادف أن كان الأستاذ عنبري متأخّراً لسببٍ ما، ورآني، فنظر إليّ نظرةً كادت تقطع أوصالي، وكانت كافيةً للتوقّف عن ذلك السلوك، وأحمد الله أن مراقبة الأخ الأكبر (الكاميرات) لم تكن موجودةً وقتها، وإلا كان علينا أن نتخرّج بعللٍ مزمنة في عظام القدمين والعمود الفِقْري. ولا بد ههنا من ذكر أن الملابس الداخلية (الشيّالات والحَفْر) لم تعد مناسبة مع كثرة الحركة والصعود والنزول على الأدراج، فكان لا بد من استبدال الملابس (نصف الكمّ والسراويل القصيرة) بها، نتيجة التسليخ المؤلم في ثنيات الجلد، مع ضرورة الاستحمام والتبديل كلّما سنحت فرصة.
نعم، ابتدأ معي الهول منذ اليوم الأول، في جناح الأمراض السارية. كل ما رأيتُه خلال سنتين كاملتين بصفتي طالباً (مرفّهاً) عشِق مستشفى الأطفال قبل التخرّج، لم يكن شيئاً ذا بال أمام ليلتي الأولى. لقد عمد زملاؤنا الأكبر إلى (نتف) رأس القط ليلة (العرس). كان أحد مرضى تلك الليلة طفلاً التهب كبده التهاباً صاعقاً (Fulminant Hepatitis) وأفلس، وهبط ضغطه وسكّر دمه إلى الصفر. باختصار كان ميْتاً. كانوا يعرفون أنه لا فائدة من أي إنعاش، لكنهم أصرّوا على أن أفحص سكر الدم كل نصف ساعة، وأقيس الضغط كل ربع ساعة طيلة الليل مع إعطائه سكّر العنب (الغلوكوز) والسوائل والدوبامين بالوريد، وهكذا كدتُ أقضي مع مريضي. صادف أيضاً أنني كنتُ في غرفة أحد المقيمين المتقدّمين (ع ط) الذي استضافني مشكوراً (إذ لم تتوفّر لنا غرف بعد) عندما جاء هاتف ممرّضة في الثانية والنصف صباحاً يطلبني، فأعطاني الهاتف، ولما سمعني أقولُ لها اسمي المجرّد، ولم أكن بعدُ قد اعتدتُ على لقب دكتور، نبّهني وطلب أن أضع اللقب قبل الاسم، وإلا سوف تضيع هيبة الطبيب.
استنفار دائم في قسم الإسعاف.. ومواقف طريفة
لم يمضِ وقتٌ طويل حتى صرتُ في قسم الإسعاف، وكان عليّ أن أبقى وحدي، بعد يوم تدريب، حتى الصباح للمرة الأولى. كانت أصعبَ ليالي العمر، لأنني غير معتاد على السهر الطويل، ولأنني سوف أدبّر كل الحالات بأقل إزعاج ممكن للأطباء الأكبر دون الدخول في المحظور. هذا صعبٌ جداً على المبتدئ. شعور رهيب بانقلاب المعدة مع طول السهر وتوافد عدد لا يتوقف من الأطفال المرضى، برفقة أهليهم، وبعض هؤلاء من ذوي مراتب عالية. مستشفانا المتطوّر كان الأهمّ والأكبر في القطر، ويستقبل كل الناس في أي وقت، بالمجّان. هذا بمجمله يستنفر كلّ الأدرينالين، حتى الإفلاس، لأن الأمر يشبه إنقاذ سفينة في بحر غاضب.
والمشكلة أن الدوام في كل الأقسام لا ينتهي في الصباح، بل يمتدّ إلى الساعة الرابعة أو الخامسة مساء من اليوم التالي، حيث يكون المرء قد فقد كل طاقته، ونفد عنده خزان الصبر، وربما نام فوق آخر مريض رآه (لا أدري لماذا كل هذا الضغط حتى عالمياً على الأطباء الصغار، والذي قد يؤدي إلى كوارث).
كنت أذهب إلى البيت أحياناً، فأغطّ في نومٍ عميق حتى الصباح التالي، لأعود إلى المستشفى، فأعمل على المنوال ذاته. أذكر مرّةً أن عمّتي العزيزة جاءت من حلب تزورُنا، وكنت أحبّ صحبتَها، ولكنها أشفقتْ عليّ من كثرة ما كَبَوتُ، فطلبتْ مني أن أذهب إلى فراشي، لـ “أغرقَ في دافئات المنى”.. سباتٍ حتى الصباح. كما أذكر أن أحد زملائنا الأكبر سنةً ذهب إلى بيته بحافلة صغيرة (ميكروباص)، فنام من فرط الإرهاق، ولما استيقظ وجد أنه عاد إلى المستشفى!.
أما أطرف المواقف فهي نومُنا الجماعي (المخجل) طلاباً وطالبات في كلية التربية. في تلك الأيام قرّرت إدارة الجامعة أن نلتحقَ ببرنامج تقويةٍ للغة الإنجليزية، وعدّتْه شرطاً للحصول على شهادة الدراسات العليا. ولما لم يكن لدينا وقت، قرّرت إدارة المستشفى أن ترسلَنا بعد انتهاء دوامنا في المساء. كنا نترنّح من المستشفى في أول المزة القديمة إلى كلية التربية القريبة في أول أوتوستراد المزة الشهير (مسيرة ثلث ساعة). وعندما نصل ونستقر، وكان الوقت شتاء بارداً، نسترخي بسبب الجو المدفّأ بمسخّن الماء (الشوفاج)، ألا سقى الله تلك الأيام، فإذا بأغلبنا يخرّ نائماً، فيما المدرّسة اللطيفة الطيبة تخاطب أشباحاً طبّية نائمة.

حياة أشبه بالعسكرية..
وفي كل صباح بعد الإفطار، نحو الثامنة، يحضر الجمع كاملاً عند أسرّة المرضى: أطباء الدراسات بسنواتهم الثلاث مثل جوقة عسكرية لا تهاون في تراتبيّتها إطلاقاً، وقائد حازم (مشرف) يناقش بشكل صارم كل حالة مع المسؤولين عنها، وقد يحضر بين وقتٍ وآخر أستاذ كبير، لتصبحَ الجولةُ أكبرَ وأغنى، هذا ما عدا الحالات التي تُناقَش في الجلسات العلميّة كل أسبوع بوجود كبار الأساتذة (2).
وتتوالى الأعمال الصعبة في المستشفى، وتتضخم المسؤوليات سنةً بعد سنة: آلاف الأوردة الناعمة فُتحت (ولا يستهينن أحد بصعوبة ذلك لاسيما آخر الليل في مرضى مزمنين ما بقي عندهم رصيدٌ من أوردة، أو مرضى غارت أوردتهم تماماً..)، وبضع مئات من عمليات بزل السائل الدماغي الشوكي من الظهر أو بزل نِقْي العظم تمّت، وكذا أكثر من مئتي تبديل دم لولدان عانَوا يرقاناتٍ انحلالية شديدة. هذا غيضٌ من فيض أعمال كثيرة قمنا بها صنعت منا في النهاية أبطالاً عمليين واقعيين في طب الأطفال، وهذا ما أدركناه لاحقاً عندما استطعنا أن نرى أناساً آخرين في مستشفيات أخرى في كل البلاد العربية والأجنبية، مما لا يعطي مبرراً لتعالي بعض خريجي دول الغرب على زملائهم، إذ لا يتفوقون عليهم بشيء اللهم إلا في الاختصاصات الدقيقة غير المتوفرة في بلادنا، وهذا ليس مدعاةً للتعالي بل للتواضع ولنقل الخبرة إلى من تلزمه.
هذه كانت حياتنا في ثلاث سنوات (صارت لاحقاً أربعاً)، تقبلناها بروح رياضيّ رغم وجود جدار من الهيبة بين سنةٍ وسنة، وبين الأطبّاء والمشرفين، وبين المشرفين والأساتذة، إلا ما ندر، ولهذا كان الأصغر يهاب الأكبر على الدوام، ولم تكن لنا حياة اجتماعية نتباسط فيها مع الأكبر منّا، فلم يحدث يوماً أن جلسنا معاً على غداء أو عشاء أو في عيد، جلسة تكسر تلك الحواجز، لتحدث استثناءات بعد التخرج، قلّل من فرصها غيابي السريع عن الساحة (وكنت أول من سافر)، ولهذا كان معظم صداقاتي في الأيام والسنين التالية خارج اختصاص الأطفال، والسبب الرئيس هو انخراطي في عالم الكتابة مع من كانوا يعيشون العالم ذاته (الأساتذة: عدنان تكريتي، سامي القبّاني، صادق فرعون، إبراهيم حقّي، برهان العابد في وقت متأخر)، فيما استمرت صداقة طالب الطب القديمة مع الأستاذين (زياد الصواف، وهاني مرتضى) رحمهم الله أجمعين، وتجددت علاقة ودّ قديمة (منذ كان معيداً لامعاً 1980 وتنبّأتُ له بمستقبلٍ باهر) وأعني الأستاذ الدكتور عبد الرزاق الشيخ عيسى أطال الله في عمره.
هذا يقودني إلى الدافع الرئيس الذي أشعل شرارة الكتابة عندي (وكانت عندي إرهاصاتها المبكّرة جداً)، ألا وهو مستشفى الأطفال، عقب كتابة تقرير طبي بأسلوب أقربَ إلى الأدبي، كان أن طلبت المشرفة تغييره، فرفضت، مما كاد يذهب بي، ولهذا بقيت (صوفتي حمراء تبيضّ أحياناً) حتى تخرّجي!.
كان العناد أهم صفاتي منذ بواكير الطفولة، ولكنّي غير نادم، وأحمد الله على ذلك، إذ شكّل أهمّ مفاصل حياتي، والتي كنت فقدتُها لو كنتُ قنوعاً خانعاً.

انتقال غير عادي إلى السنة الثانية:
آه ما أجمل أن تنتهي السنة الأولى بقدوم طلاب جدد يلبسون طربوش الهمّ والوجع والسهر الذي لبسناه قبلهم. كان الاحتفال بهم (الذي لم أشارك به) غير ودودٍ برأيي. على أن سنتي على الخصوص لم تنتهِ كيفما كان. كانت مميّزة جداً بحمّى عالية وتعبٍ شديد ووهن وانحطاط وكره شديد لأية رائحة (لاسيما الدخان) أو طعام. كان ذلك التهاب الكبد البائي (الذي أخذته قبل أشهر من رضيع قوي البنية انتفض وأنا أسحب له الدم فوخزتني الإبرة، ولم يكن لذلك تدبير نوعي أيامها). أعراض الالتهاب فاجأتني ليلاً وأنا مناوب، وبقي المرض هاجسي المؤلم طيلة سنوات، إذ لم تتوفّر لدينا التحاليل الدقيقة، والتي أجراها لي بعد سنتين زميل مخبري لبناني كريم (د. مكارم) في مستشفى دبي أثناء زيارتي الاستكشافية بحثاً عن عمل (ووقتها أرسلت إلى ألمانيا). كانت مثل تلك الأمور أسهل بكثير من اليوم، حيث كان الطبيب (يمون) على مكان عمله، ويستطيع تقديم الخدمات إلى زملائه.
والسؤال: هل يفرح الإنسان بالمرض؟ الحقيقة أن المرضَ أهونُ بكثير من عمل طالب السنة الأولى، خاصة وأنني أعطيت إجازةً شهراً، صرتُ بعدها معلّماً في السنة الثانية.
عندما يكبر المرء سنةً ويصبح أعلى مسؤوليةً تتكشّف نفسيّته الحقيقية، فإما أن يقوم بالحدّ الأدنى من عمله أمام المشرفين، أو يكلّف أحداً به، ثم يلفّ رجلاً على رجل، ويعطي الأوامر بالهاتف (وقد يفتح عيادة خاصة بعد الدوام) ليصاب بداء الانتفاخ الوبيل إلى آخر العمر، أو ينزل إلى الميدان لمساعدة زملائه الأصغر، متابعاً معهم كل شاردة وواردة، في عملٍ لا يكاد يتوقف.
طوبى لمن يحترم زملاءه، ويحب الناس ويخدمهم بإخلاص.
وحتى نلتقيكم في الجزء الثالث، أرجو أن تكونوا بخير.
العين في 24 تشرين الأول 2024
هوامش:
-
الجزء الأول: يتذكر معاناة ٤٠ عاما في الطب. نشير هنا إلى أن أستاذ أمراض القلب الدكتور موسى رزق من بلدة صيدنايا وليس من بلودان كما ورد سهوا. http://taminwamasaref.com/dr-ghaleb-khalayli-first-episode/
-
يفيد الموضوع الاطلاع على: مقابلة ثانية تؤرخ طب الأطفال وأعلامه في سورية، مع د. فتحي حمادة، 23 آذار 2023 http://taminwamasaref.com/ghaleb-khalayli-2023/