ثلاثة جسور تربط العين بجزيرة أبو ظبي
د. غالب خلايلي
مع أنني أعيش في إمارة أبو ظبي العامرة منذ 1988، إلا أنني قلّما كتبتُ عن “المدينة الجميلة التي بناها شاعر” كما تعوّدت أن أقول في مقارناتي لها مع غير مدن. نعم، بناها شاعرٌ فذّ بالمعنى الحقيقي والحضاري، وأعني المغفور له صاحب السموّ الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه، باني دولة الإمارات الحديثة. والحق أنني كتبت عن أبو ظبي في مناسبات خاصة مثل المؤتمرات الطبية التي تعقد في فنادقها الفخمة، والأنشطة الثقافية أو الموسيقية المميزة في المجمع الثقافي (أوبرا عايدة مثلا، حفلة فيروز)، كما كتبت عن مستشفى كليفلاند أبو ظبي يوم عولجتُ به، ناهيك عن كتاباتي التي خصّت مدينة العين (حيث أقيم) في معرض زهورها وأيام البَرَد العجيبة وغيرها.
أما اليوم، وبمناسبة العيد الوطني 53 (2 ديسمبر) فسوف أتحدث عن تحفة فنية بديعة اسمها متحف اللوفر- أبو ظبي.
***
الاستعداد للزيارة. ها قد فتحتُ موقع المتحف، وحجزتُ ثلاث تذاكر، اثنتين بقيمة تقارب 120 درهما، لزوجتي وابنتي ديمة التي تزورنا من مدينة الضباب والمتاحف لندن، لتقضي إجازة عائلية بين أهلها في جو خريفي ظبياني لطيف، وثالثة مجانية لي (كوني تجاوزت الستين)، علماً أنها مجانية أيضا لمن هم دون الثامنة عشرة.
تحرّكنا بسيارتنا ظهيرة الجمعة 29 نوفمبر باتجاه الغرب إلى أبو ظبي. وأبو ظبي أصلاً كلّها جزيرة تتصل بالبر من جهة العين بثلاثة جسور، أجملُها جسر الشيخ زايد المتموّج الذي صمّمته المهندسة العراقية الراحلة (زها حديد).
ها نحن أولئك داخل أبو ظبي الآن، ونتجه شمالاً عبر جسرٍ ثانٍ فوق البحر (جسر الشيخ خليفة) إلى جزيرة عامرة حديثة سامقة البنيان تدعى (الريم) ومنها إلى جزيرة رحبة تدعى (السعديّات) يوصل إليها شارع الرئيس (جاك شيراك) الذي ينتهي إلى المتحف، وسط حدائق خضراء جميلة تجاور البحر.
يدخل المرء بسيارته بكل سلاسةٍ إلى المواقف المجانية وافرة العدد، ويمشي في حدائق غناء (على جوانبها حمّامات بمنتهى النظافة)، وإذا أحبّ تدليل نفسه مؤثراً توفير الجهد للمشي داخل المتحف، فالعربات الكهربائية جاهزة للنقل، كما تتوفر كراسٍ متحركة لذوي الاحتياجات الخاصة وكبار السن المتعبين. وعندما يصبح الضيف في البهو الداخلي، يجدْ تفتيشاً أمنياً يشبه تفتيش المطارات، إلا قليلا، وذلك لتوفير الأمان والاطمئنان لكل زوار المتحف.
متحف اللوفر بدعةٌ في البحر. اللوفر أبوظبي مُتحَفٌ مبتكَرٌ للفنون والحضارة، وهو أكبر متحف في شبه الجزيرة العربية، بمِساحة 24000 متر مربع. افتتح المتحف أبوابه في 11 نوفمبر 2017. وقام بتصميمه الفرنسي جان نوفيل، أهم المعماريين في الخمسين سنة الأخيرة. وضع نوفيل تصوراً لمبنى رائع مستمِدّاً الإلهام من فن العمارة العربية والتقاليد الإماراتية.
أولا- قبة فضية عائمة من نورٍ وظلّ: يرتفع لوفر أبوظبي 40 متراً فوق سطح البحر، وقد كلّله نوفيل بقبة فضية ضخمة تبدو وكأنها تطفو فوق مدينة المتحف، بقاعدة قُطرها 180 متراً. وعلى الرغم من أن القبة تبدو خفيفة الوزن، إلا أنها تزن نحو 7500 طن، أي ما يعادل وزن برج إيفل. تتألف القبة من ثماني طبقات: أربع خارجية مغطاة بالفولاذ المقاوم للصدأ، وأربع داخلية مغطاة بالألمنيوم، وتقوم على أربع دعامات مُدمجة في بنيان المتحف (تبعد كل منها عن الأخرى 110 أمتار) تُعطيها تأثيرها العائم. ترتفع القبة 36 متراً فوق سطح الأرض، وهي مُكوّنة من 7850 نجمة مُكرّرة بمختلف الأحجام والزوايا في ثماني طبقات مختلفة. يبلغ قطر أكبر نجمة 13 متراً وتزن 1.3 طن. وعند مرور الشمس فوقها، تنساب أشعتها الذهبية الملهمة من خلال النجوم داخل المتحف، وتعرف باسم “شعاع النور”. هذا التصميم مستوحى من الطبيعة وأشجار النخيل في أبوظبي، فأوراقها تلتقط أشعة الشمس الساطعة من أعلى بحيث تنساب بقعاً من الضوء على أرض المُتحف، لترى عالماً يجمع بصفائه بين النور والظل والتأمل والهدوء.
ثانياً- المتحف مدينة تتهادى على الأمواج: هو مدينة مصغرة تعانقها المياه، يصل الزائر إليها عبر البر أو البحر. ويُمكن للزوار استكشاف 55 مبنى منفصلاً وكأنه يمشي في حارات ضيقة لمدينة عربية. ويضم 23 مبنى من هذه المباني قاعات العرض، وجميعها مستوحاة من المنازل المحلية المنخفضة، كما تحتضن هذه المدينة المصغّرة عدّة مناطق مخصصة للنشاطات، مثل التجديف بقوارب الكاياك وعروض الأفلام والفعاليات والمحاضرات، إلى جانب الاستمتاع بالطعام، والتأمل وتجاذب أطراف الحديث. كما تُلهم بيئة المتحف الهادئة الزوار للاستمتاع بالعلاقة المُتغيرة باستمرار بين الشمس والبحر والفن والعمارة.
ثالثا- نظام تبريد طبيعي و نظام بيئي مُصغّر: تَخدم القبة عدداً من الأغراض البيئية، فهي مظلة تحمي الساحة الخارجية والمباني الواقعة أسفلها من حرارة الشمس، كما تُوفّر تجربةً مُريحة للزوار، حيث تتيح لهم فرصة التجول بين مباني المتحف وهم يستمتعون بشعاع النور. لقد صُمم المتحف على مستوى المرتبة الفضية في الريادة في تصميمات الطاقة والبيئة، إذ يُنشئ نظاماً بيئياً مُصغراً من خلال تقنيات التصميم وفق معطيات الطاقة الشمسية، وتقنيات تصفية المياه من الرواسب الحديدية والطاقة وأنظمة التكييف عالية الكفاءة والإضاءة والتجهيزات الصحية. وتشمل التقنيات الأخرى استخدام تأثير التظليل الشمسي لسقف القبة والتظليل الذاتي للمباني، ومنافذ السقف للتهوية المحسّنة للسماح بدخول نور النهار من دون زيادة حرارة المبنى أو تدفق الرياح والكتلة الحرارية المكشوفة مثل الأرضيات الحجرية والتغطية التي تسمح بالتبريد الليلي.
أمم من مختلف بقاع الأرض، واستقبال دافئ. ليس المتحف وحده الأعجوبة، بل تلك الأمم التي تؤمّه يوميا، لا سيما في المناسبات، فتجد معرضاً بشرياً جميلاً جذاباً من كل الأعراق والأجناس والألوان والمعتقدات، وكذا أنواع اللباس العجيبة التي لم ترَ مثلها في حياتك، واللغات التي لم تسمع بها من قبل. هذا وحده أمرٌ جديرٌ بالتأمل في ذلك التناغم البشري المحبّب، والسلام الداخلي الهائل الذي تشعر به ويشعرون، والذي يكاد يفتقد في بقاع كثيرة في عالمنا.
ما إن تصل إلى البهو الداخلي للمتحف، حتى يوجهك الموظفون البشوشون الصارمون في الوقت نفسه إلى المداخل، لتجد في استقبالك عدة غرف تعرض كتباً فنية وثقافية قيمة، كما تعرض بضائع مختلفة للبيع، تصلح هدايا للزوار أو تحفا للعرض في المنازل.
بعدها يمكنك أن تدخل إلى أحد المعارض الفنية، أو تكمل جولتك في رحاب التاريخ، في القاعات الضخمة الثابتة لهذا الغرض، قاعات متداخلة توصلك إحداها إلى الأخرى، وأنت بين آثار قديمة وتماثيل في منتهى الروعة، ولوحات فنية بديعة، تنظر وتصوّر إن أحببتَ وتقرأ الشرح، لكن: لا تلمس شيئاً، فرجال أمن القاعات منتشرون في كل مكان، وهم حريصون كل الحرص على انسيابية الحركة، والحفاظ على المقتنيات.
ألوان من المتعة والشراب والطعام. فإذا تعبتَ يمكنك الخروج إلى الساحة الكبرى تحت القبّة، وفي أركانها المختلفة زوايا تبيعك أطيب أنواع القهوة والشاي والمرطّبات والحلويات وشطائر الطعام وما إلى ذلك، أو يمكنك التجوال في جوانب المتحف المحاذية للبحر في جو لطيف. فإن جُعتَ أكثر بعد ساعات من المشي، يمكنك التوجه إلى سوق السمك القريب الضخم والنظيف، الغني بكل ثمار البحر، وبأسعار معقولة، ولك أن تختار ما تشاء، ثم تختار أي مطعم محيط بالسوق، يشويها لك خلال نصف ساعة أو يزيد، ويزودك بالصلصات الحارة والبطاطا المقلية أو الرز، فتستمتع بعشاء صحي شهي في الهواء الخريفي الجميل.
هذا خيار جيد، شعبي إلى حد ما، فإن رُمتَ بيتاً أمكنك أخذ الطعام إليه، أو رمتَ مطعماً فخماً في أبو ظبي، فما أكثرها وأكثر خياراتها.
بعدها يمكنك أن تشدّ الرحال إلى البيت، في شوارع فسيحة مضاءة مشجّرة الجوانب جميلة، راجياً الله ألا ينزل الضباب (عادةً بعد الحادية عشرة ليلا)، وفي رحلة العودة تستذكر كل ما مرّ بك من عجائب الأمم، ماضياً وحاضراً، فترجو الله أن يحلّ السلام والهدوء في كل مكان.
العين في 2 ديسمبر كانون الأول 2024