العلاج بالموسيقى قديم متجدد
الطب والموسيقى وجهان لعملة واحدة بالنسبة للكثير من الأطباء، والدكتور غالب خلايلي واحد من هؤلاء بل أكثرهم، ربما تعلّقاً بالمقطوعات الكلاسيكية الخالدة وبالأدب والشعر طبعاً. وكان طبيعياً أن يمضي في دار الأسد للثقافة والفنون وهو في دمشق، سهرة موسيقية قال أنها “حلّقت به من النمسا الى إسبانيا” بفضل المؤلف المعروف عالمياً غزوان المبدع الموسيقي… فماذا عن هذه السهرة؟ ..
موسيقى غزوان زركلي تحلّق بنا من النمسا إلى إسبانيا
كان ذلك مساء الخميس الرابع من تموز 2024 في دار الأسد للثقافة والفنون، بعد رحلةٍ طويلةٍ من تعب يومي معتاد.
وغزوان، الموسيقي المبدع، والأستاذ الدكتور، والمؤلف المعروف عالمياً، وطائر الفينيق الدمشقي ابن السبعين، استطاع أن يحلّق بنا في أجواء ساحرة، وأن يعلّق قلوبنا بأنامله الحساسة المنسجمة كلياً وبَنان بيانِه، حتى تماهيا (غزوان والبيانو) كعاشقين ذوّبتهما الصبابة والوجد، فإذا بنا ننتقل من حلم جميل إلى حلم أجمل، بدءا من “ضوء القمر” لبتهوفن التي ابتدأ بها حفلته، ومروراً بمقطوعات لموزارت وشوبرت وغيرهما من كبار مبدعي الموسيقى الكلاسيكية، ثم لنجوب الأرجاء، وننتقل من سحرٍ إلى سحر، ومن إبداع إلى إبداع، يكتنفنا جوّ من الحب الصافي والسكون والطمأنينة، حتى إذا أنِسنا بالهدوء فوجئنا بجوّ من حماسة يرقص معها القلب، فتنفرغ كل الشحنات السالبة من النفس، ويخرج كل ما يكدّرها من أهوال الحياة، فإذا بغزوان الموسيقي أعظم طبيب نفسي!.
ولا عجب يا سادتي، فموجات موسيقاه الساحرة تلامس أهداب خلايانا، ثم تغوص في تلافيف أدمغتنا، لتفرز كل هرمونات السعادة والاسترخاء من مورفين داخلي وغيره.
هنا تعود بي الذاكرة إلى أيام سعيدة عرّفتني إلى اثنين من أساتذة الطب في هذا المكان وصنوه في الطرف الآخر من ساحة الأمويين وأعني مكتبة الأسد:
أولهما المرحوم الأستاذ الدكتور سامي القباني، جراح القلب الشهير، وكان يجلس خلفي تماما في مصادفة جميلة، في ذات حفلة عام 1987، فمع أنه نشر لي عدة مقالات في مجلة (طبيبك) الغراء، إلا أنه لم يرني قبلها ولم يعرفني، مكتفياً بقراءته المادة المرسلة بالبريد وتقييمه لها، ومدير التحرير فضلو هدايا، مما يصعب تكرار هذا النموذج المثالي في غير زمان ومكان.
وثانيهما المرحوم الأستاذ الدكتور صادق فرعون طبيب النساء البارع المتواضع وعازف الكمان المبدع العارف بأصول الموسيقى (حتى إنه ألف معجماً موسيقيا)، ولم يكن يعرفني رغم تجاورنا المتأخّر في صفحات طبيبك (وكانت كتاباته متعة خالصة، كما كتابات الأستاذ قباني) لتبدأ معه رحلة فكرية ممتعة.
التوافق بين الطب والموسيقى
يقول مثل شهير: “يحتاج الجراح الماهر إلى عيني صقر، وقلب أسد، وأنامل سيدة رقيقة”. وأضيف: يحتاج أيضاً إلى التواضع والتفكّر والهدوء والرحمة بالمرضى، ناهيك عن العلم والخبرة، مثل كل طبيب.
ليست سراً تلك العلاقة الوثيقة بين الطب والموسيقى، فقد كان أغلب الأطباء العرب القدماء ذوي معرفة عميقة بالموسيقى والعلوم المختلفة كالفلسفة والأدب. وقد اتفق عظيما الطب أبو بكر الرازي وعلي بن سينا على فوائد الموسيقى والغناء الشجي عند جمهور المرضى لاسيما المتألمين منهم أو الذين يعانون من أمراض نفسية. ولهذا عالج الأطباء العرب مرضاهم بالموسيقى التي تهذب الروح وتشفي النفس العليلة، منوهين هنا إلى بيمارستان النوري بدمشق، المستشفى الأول قبل نحو ألف عام، حتى إن المرء ليظن نفسه في حلم عندما يقرأ كيف كان المرضى يعالجون به.
إن إنكار فضل الموسيقى (وكل جميل) جعل الإمام أبا حامد الغزالي يقول: “من لم يُحرّكه الربيع وأزهاره والعود وأوتاره فهو فاسد المزاج ليس له علاج”.
المؤسف اليوم أن كثيراً من الأطباء بعيدون جبرا أو طوعا عن اهتمامات معلّمي الماضي، حتى إن بعضهم لا يجيد كتابة تقرير طبي مختصر، ناهيك عن أن يعرف كيف يترنم ببيت شعر أو قصيدة، أو أن يجد وقتا لحضور حفل موسيقي، في جدول أعماله الحاشد، ربما من صياح الديكة (التي اختلّت ساعتها البيولوجية هي أيضا) حتى ساعة متأخرة من الليل، دون راحة حتى في العطل، ما دامت رياح الشهرة قد هبت وفتحت لهم مغارة علي بابا. إذن لا بد من اغتنام كل فرصة دون إعطاء وقت لراحة الجسم والروح، لتقرأ كل معاني الجفاء وقلة التواضع (للزميل قبل المريض)، وقلة الاحتفاء بالعام على حساب الخاص أمام سطوة المال.
ولهؤلاء المقبلين بنهم على الدنيا نقول: “ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء”، و “ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟”.
هنا لا بد من تنويه بسيط إلى جمهور المكافحين من الأطباء الذين حافظوا على شرف المهنة الطبية ومبادئهم الإنسانية، خبزهم كفاف يومهم، فعاشوا عيشة راضية.
***
مثل أهم طبيب في العالم وأكثرهم أناقة روحية، كان الحديث (بعد انتهاء الحفل) مع غزوان زركلي العاشق لفنه ووطنه بالقدر ذاته، فلا تعجب أن طوّقه المعجبون والمعجبات، يبادلهم مشاعر المحبة الخالصة.
يقول زركلي عن نفسه: “أنا من الجيل الذي تربى على القيم.. والوطن هو المكان الذي نعيش فيه بسعادة من خلال العطاء”.
ولعل أحلى شهادة عنه جاءتني من الأستاذ الدكتور إياد الشطي حين كتب لي بعدما سمع مقطوعات مسجلة من عزفه: “عزفٌ راقٍ. غزوان كان جاري في مخبري، وهو إنسان راقٍ لم يتخلّ عن مبادئه يوما”.
بورك كل المخلصين لمبادئهم وأوطانهم.
***
هامشان
لمزيد من التفاصيل عن العلاج بالموسيقى:
لمزيد من التفاصيل عن حفل زركلي:
https://www.facebook.com/story.php?id=100057196400802&story_fbid=996302635619607