من الفنانات اللاتي بقين كما هنّ
د.غالب خلايلي
مع تطوّر تقنيّات التصوير والعرض التلفزيوني عالي الدِقّة HD تظهر ملامح الممثّلين والممثّلات (والمُطربات والمذيعات…) بكل ما فيها من تضاريس لا يستحسن ظهورها، كأنها تحت مجهر، فباتت معها مشاهدة المسلسلات، مع ما فيها من تسليةٍ، لا سيما في موسمها السنوي الشهير، وَجَعاً يستفزّ الأعصاب والعيون والقلوب.
****
وليس السبب كما قد يحسب نفرٌ يفكّر عقلانياً (الصدمة المنطقية)، فأنا أجزم بكل ثقة أنّ مُشاهدَنا غير المغيّب مضطرٌّ لأن يعطي عقله إجازة مفتوحة، وأن يغلقَ مجاله الفكري، وإلا اضطرّ إلى دخول مصحّة عقلية (وأين يجدها؟) كي يعود إلى الوضع الذي كان عليه قبل المشاهدة، فكيف يمكن إنهاء مسلسل غاص في مستنقعات عويصة وتعقيدات ضخمة، بسوى قتل كلّ الممثلين في نهاية المسلسل، أو بالوعد بجزء ثانٍ لن يأتي حتماً، وإذا أتى، فعلى الطريقة الهندية؟ وعلى هذا قس، وهنا لا تسلْ عن الدهماء المغيّبة أصلاً ماذا يُرُونها وكيف تفكر، وماذا يصنع عباقرة (الميديا) بعقولها من كوارث لا علاج لها، مما يفسر كل عيب نتحدث عنه، وبالطبع، لا أتدخّل هنا في متاهات الأحداث اليومية وكيفية معالجتها والتعبير عنها، هذا أمرٌ فوق استطاعتي، بل فوق استطاعة معظم المشاهدين.
والجديد الذي أشير إليه اليوم هو حالة (الصدمة البصرية أو الجمالية) التي تصيبنا معشر المشاهدين. والصدمة Shock هي هبوط الضغط الشرياني والشحوب وفقدان الوعي المفاجئ بسبب نقص التروية في الأعضاء الحيوية (الدماغ والقلب والكليَتَيْن..) مما يهدّد الحياة، كما يحدث عند التحسّس من دواء أو لدغة عقرب أو حتى لمس قطّة أو أرنب. هذا قديم معروف، لكن الجديد هو أن تسبّبَها رؤيةُ الممثّلات المتصنّعات، بأشكالٍ غرائبية عجائبية، مما لا علاقة له بفنّ المكياج (الذي له أصوله)، بل بمثالب التجميل (الطبي) الحديث الذي راح (يحرث) بعشوائية شبه مطلقة في جلود الفنانين (والبشر عموما) وأنوفهم وعيونهم وأسنانهم وأعضاء حساسة، وقبل كل ذلك الأدمغة، تلك التي تعاني من خلل بلا شك، وإلا ما رأيت هذا السيل من التشوّهات في معظم البلدان، تندفع لها النساء بخاصة والصبايا كأن اللعب بالبشرة فرضُ عين ودليل رقيّ وأكابرية، والبقاء على جميل ما عرفناه في القديم عيب وعار وفقر.
أنت تنظر فترى مجموعة ممثّلات متشابهات الأنوف (بعد القصّ) والعيون (بالعدسات اللاصقة الزرقاء على الخصوص) والبشرات المحقونة والشفاه المنفوخة، علماً أن عدداً منهن جميلات أصلاً ولسن بحاجة إلا إلى لمسات بسيطة، ومع ذلك يُرِدنَ الظهور بمظاهر بناتهنّ، حيث يصعب على أهمّ النحاتين نحتهن من جديد، فإذا بهن تماثيل شمعية متحركة، بعيون فاقدة البريق، كأنها عواقب التهاب ملتحمة أو قرنية. والشيء بالشيء يذكر، لا نفهم مثلا لماذا تنفخ ممثلة جميلة شفتيها فوق قدرة العين على التحمّل و(التطنيش)، ألأنها فقدت القدرة على امتلاك زمام أمورها بعد اعتمادها على الحقن أم لتصبح (لغو) وسائل التواصل بأي ثمن؟ وهنا لا نملك سوى أن ندعو لصاحبات (الشفاتير) الكبيرة خِلقةً، أن يباركهن الله، كم كنّ مولعاتٍ بتصغيرها في عصرٍ مضى، وكم وفّرن من المال اليوم.
أما أن تقوم ممثلةٌ بلغت من الكبر عِتِيّاً ( إلى أرذله أحيانا) بالتصابي، فأمر يعسر تقبّله خاصة مع مجموعة التشوهات التي يصعب على الأعشى أن يخطئها، فما بالك بمن ينعم ببصر حاد؟ وهنا لا أجد داعياً لذكر اسم معين، يكفي أن تجولوا جولة قصيرة على الشاشات حتى تكتشفوا النكبة التي حلت بعدد كبير من ممثلاتنا الكبيرات، كأن وباء جلدياً أصابهن وعقولهن فراح أهل (التجـ….ـليط) يلعبون بهنّ حقناً ونفخاً وتكبيراً وتصغيراً وتبييضاً وتشقيراً وتضييقاً وتوسيعاً ومطّاً وشدّاً.. الخ، حتى تصبح العجوز (وغير العجوز) مشوّهةً بالفعل، مما لا تحتمله عين المشاهد، المبرمجة على سلامة المشهد، وكان الأَولى بصاحبة القَدر والتاريخ أن تمثل دوراً يناسب عمرها، أو تعطي دورها لمن هي أفتى.
ومن المناظر المؤذية بحقّ هي الأسنان المشوّهة طبياً، وهذه يكاد يتعادل بها الممثّلون الذكور والإناث، دون سبب مقنع في أغلب الأحيان، فترى وجها شاباً عادياً أو جميلاً وقد لعب الأطباء بأسنانه، حتى إذا ما فتح الممثل فمه رأيت مصفوفة بيضاء منتظمة تضيء مثل مصابيح النيون، فتشعر معها بعبء بصري أمام شكل الممثل المضحك وسماكة أسنانه (كأنه طقم أسنان العجائز) مهما تفنّن الطبيب بتخفيف سماكة اللصاقات السنية، وهنا يستوي ممثلون مشاهير مع غيرهم الأقل إقناعاً، كأنّ الشهرة مرضٌ يبدأ بالدماغ، وينتهي بالبشرة والأسنان.
أما الثالثة فهي (الصدمة الموضوعية) وأعني الموضوعات التي تتناولها المسلسلات، والتي أتساءل: هل تشبهنا بحق؟ هل بتنا أمّة مؤامرات ومخدّرات وإجرام واستزلام وطائفية وعُهر؟
انظروا إلى معظم المسلسلات ترَوا ما أشير إليه من إجرام مرعب مروّع (حتى في مسلسلات فانتازية أو خيالية)، ومن أبطال أثرياء شريرين قطّاع للطرق هم وأزلامهم، لا يتورّعون عن فتح حرب أو القيام بمجازر من أجل الحفاظ على مكاسبهم، فلا يقوم المشاهد إلا وقد امتلأ رعباً، تهاجمه الكوابيس في النوم.
إذا كانت هذه هي مشاكلنا، ولكم أن تقدّروا عُري حالتنا وزُريها، فليس أقلّ من طرح علاج لهذه المشاكل بدلاً من إغراق الشاشات بالدم والنار (يكفينا الحقيقي منها)، وبدلاً من أن ينتظر المشاهد من يكمن له ليغتاله أو يسرقه أو يغتصب حلاله، يتفاءل بوجود قيم الحق والخير والجمال والمحبّة، وتجعله يتمسّك بوطنه بدلا من أن يسعى إلى الهجرة والهروب في البحر ولو تشرّد أو غرق.
لقد تحدث كثيرون، في معرض الدفاع، عن تكاليف عالية للأعمال الفنية، وأن يد المموّل هي العليا والتي تقرر ما الذي يجب أن ينتج (وقد طرحت الدراما نفسها هذه المشكلة).
ها قد جهز العمل، ويبقى الترويج والشراء بيت القصيد، حيث تملك جهة الشراء زمام الأمور في المواضيع التي يجب طرحها وتلك التي يجب أن تغيب، فيبقى الممثل الشريف (والكاتب والمخرج… الذين يتراجع حضورهم أمام هجمة الغوغاء) في مواجهة معضلة حياتية أخلاقية كبيرة تترجح بين الجوع والمعاناة وبين قبول أي شيء من أجل العيش.
ويبقى السؤال: بعد مجمل ما طرح، هل نحن بخير؟ وهل لدينا مناعة قوية تجاه الأمراض الاجتماعية وغيرها؟
لا، لا نبدو بخير، بدليل أننا ننجرف مع التيار الخاطئ في كل مجال، وندفع ثمنا غاليا من عقولنا وجيوبنا.
وهل من سبيل إلى الإصلاح؟
لا أريد تبسيط الأمر والقول: إن لدينا البذور التي إذا ما تعبنا في زراعتها وريّها وحمايتها وصلنا إلى المبتغى، فهي لدينا بالفعل، وهناك من يطمرها، والمسألة بحاجة إلى نبش وإخلاص شديد وتعب وتضحية، والاستسهال والهروب لن يوصلا إلى نتيجة.
إن بداية الألف ميل عمل جاد مخلص يكون بمثابة الأدرنالين في علاج الصدمة.
العين 5 نيسان 2024