لبست أمّ العيال قفازَيْن وأمسكت بفكَيْ القط وغرّت الحليب في حلقه
د. غالب خلايلي
قصّةٌ عجيبة لا تفارقني منذ سنتين، وما زالت (أمّ العيال) ترويها طازجةً في كلّ مناسبة، وتضفي عليها كلَّ مرّةٍ نوعاً فريداً من البهارات، فتضجّ القاعة بالقهقهة، في وقتٍ يعزّ فيه الابتسام، وتغرورق عيون الحاضرين بالدموع.
******
ذلك أن قطّاً مسكيناً (أو يبدو كذلك) وقفَ يوماً بباب بيتنا، وراح يسعلُ بلا هوادة، حتى ظننتُ أنّ حنجرتَه تتصدّع، وأن قصباتِه المهترئةَ سوف تُلفظُ حالاً من قفصه الصدري!، وكانت قطط الحارة قد اعتادت على عطف (ربّة البيت) وسُقياها، بعد أن أصلحتْ مؤسّسة المياه أنبوباً نازفاً لسنوات، فجفّت البُحيرة التي كنّا (نلوص) فيها، وإن أسدت جميلاً عظيماً في سابق الزمان، إذ روّت عطش القطط والطيور وهوائم مختلفة في قيظٍ لا يرحم.
ظهر لي القطُّ وقتَها مسكيناً بحقّ، وقد سُلّ بدنُه وهُزِل، ورقّت (شواربه) وتهدّل ما بقي منها، فبدا وهو يسعل كمحاربٍ قديم خرج لتوّه من مِدخنة بيت محترق، أو كمدخّنٍ عتيقٍ لسجائر رديئة يدخّنها صِبيةُ الحارات المنفلتون كالماعز في الأزقّة، أو كمدمنِ أراجيل لا تشبه بحالٍ من الأحوال أراجيلَ صاحبات (داخليّتنا) الفخمة ومباسمها الناعمة، وإن سعلنَ سعالاً ربويّاً، لكنه سعالٌ موسيقي جميلٌ مشبع بالإستروجين الساحر، ومضمّخةٌ أنفاسُه بالعطر الفاخر، دعك الآن من صعوبة القبض على المباسم، لانتفاخ الشفاه كالبراطم.
لا أدري لماذا راح القطّ يستعرض سعاله الحادّ أمامي كأنه يستعطفني، مع أنني لا أحبّ (افتراضياً أو واقعياً) القططَ النّحاف والسّمان، ولا أشعر مع الحيوانات المنزلية والزِّقاقية بأي تعاطف، ناهيك عن أن أحويَها في منزلي، لكنْ: هل أحسّ ذلك القط البائس باليأس، وعرف أنني طبيبٌ يعالج الرضّع الضعفاء، ومن ثمّ يمكنني أن أقدّمَ له معونةً ما؟
بدا الأمر كذلك!
قالت (حكيمة البيت) بصوتٍ يقطع نياط القلب: القطّ مريض، وقد عفّ منذ يومين عن الماء والسردين مع أنه (يموت) به. عرفتُ أين يختفي السردين! ولكنّني تعاطفتُ وزوجتي الولوعة بالقطط، وظننتُ أنه يمكنني أن أسدي لها جميلاً (قِطّياً) تذكره هِررُ الحارات وهوارينُها على مرّ الواي فاي! ولمعت الفكرة: أنا أعالج أطفالاً كزُغْب القَطا يعانون سعالاً مرعباً أحياناً (من خانوقٍ وربو وذات قصبات) فَلِمَ لا أجرّب مهارتي مع القطّ، وهو بحجم رضيع صغير؟
كانت (ملهمةُ عمري) بانتظار جواب عبر البحار من صديقةٍ يعمل أبوها بيطرياً في عدة مراكز فاخرة، فجاء الردّ: “رئة القطّ ملتهبةٌ على الأغلب بكوفيد الخامس والخمسين! وربما بجراثيم عاتية، والحلّ الحكيم هو جلبُ القطّ إلى العيادة يومياً لمدة ثلاثة أيام، يعطى خلالها زرقاتٍ عضلية، فيتحسّن بعدها، إن شاء الله”.
كانت فكرةُ نقل القط مستحيلة، خاصة أنه عصبيّ نزِقٌ عند محاولة الإمساك به، والأهمّ أنه بلا (تأمين)، ناهيك عن أنّ تسعةً وتسعين بالمئة من مرضاي (البشر) لا يأتون أكثر من مرّتين متتاليتين، مهما بلغت شدة مرضهم، ومهما حلفتُ لهم الأيمان أن يرجعوا أو حلفوا هم بالعودة، فاقترحتُ على زوجتي اتّباع داء العصر (التطنيش)، وأن تزجّ بدواءين في حليب القط أحدهما مضاد حيوي، والثاني مضادّ التهاب، فرّحبتْ بالفكرة أيّما ترحيب، خاصة أنها لا تكلّفنا كثيراً (فبيت السّبع لا يخلو من العظام)، لكن كيف التنفيذ، والقطّ مدنفٌ قَمِهٌ (أو قَهِم: بلا شهية)؟
وسرعان ما خلطت أم العيال الدواءين، ثم لبست قفّازين، وأمسكت بفكّي القط، وفتحت فمه بقوة، وغرّت الحليب في حلقه، فدخل ما دخل، وساحَ على الأرض ما ساح، وعاد كلٌّ إلى قواعده سالماً.
وكم كانت مفاجأةً كبيرةً في المساء وأنا خارج إلى عيادتي: همّة القط صارت عالية، وصوته تحسّن وعاد إلى موائه “المدوزن” المألوف، أحلى من “الميجنا” و”الأوف أوف”، لا بل أكل كلّ ما حوله من طعام!.
نقلت الخبر السعيد إلى (صاحبة السعادة)، فلم تصدّقْ حتى كحّلت عينيها بمرأى القط، وشنّفت أذنيها بموائه، فواظبتْ على العلاج لأيام، صار القطّ معها صحيحاً معافى، وصار (الملعون) يغيب غيباتٍ طويلة بعض الشيء، حتى كانت المفاجأة ذات يومٍ جلب فيه (زميلةً) شعثاء غبراء تعاني الضعف وابتلاء الزمان، وهي تسعل سعالاً حاداً، فكان له ما أراد من علاج زميلته التي لا تملك بطاقة تأمين، ولا (ماستر كارد)، بعد أن رفضت العيادات استقبالها، ورفض (الزملاء) علاجها، مع أن قطتنا (زميلتهم) المتقاعدة، ولها تاريخ حافلٌ بالمساعدة والعطاء.
أما المفاجأة الأكبر، فيوم اتصل بنا (زميلنا المُطَنَّش) طبيب القطط يسأل عن مصير قطّنا المسكين، فلما أخبرناه أنه لم يعد من المساكين، وأنه تحسّن تماماً، أصابته دوخةٌ، وراح يلحّ بالسؤال: بالله عليكم، كيف عالجتموه؟ فنحن نهلك بالحقن، والقطط بالكاد تتحسّن. والحقّ أننا ضحّينا بحقوق المُلكية الفكرية، ولم نبخل على (الزميل) بالجواب، وما بقي عليه سوى تخمين مقدار ما لَحَسَ القط من الحليب الممزوج بالدواء.
حتى الآن.. كل شيء جميل، لولا أن قطَّنا صار أكولاً شرِهاً، لا بل سمِن وتحوّل إلى نمر (غضنفر) يثبُ وثباتٍ للعُلا طائراً في الهواء، فإذا به يجتازُ المسافاتِ بسرعةٍ خيالية، ويعتلي سورَ الحديقة وأشجارَها بأسرعَ من البرق، فرحتُ أقول لأم العيال: سوف تندمين على ساعة علاج القط.
لكنّ (المدام) لا تعدم الحيلة أبداً، وقرّرت على الفور أن تخبرَ (دكّان) الحيوانات السائبة، فأتى موظفوها بسيارة مزدانة بصور حيوانات (شيك)، وأنزلوا منها فخّاً من حديد مشبّك، ووضعوا فيه بعض سمكٍ مقدّد، حتى إذا ما صار القط داخله (كما هو مخطّط له) أغلق الباب عليه!
ولكن هيهات!.. هيهات لقطّنا الذي صار نمراً ذكياً أن تمرّ عليه اللعبة. أسبوع كامل والفشل الذريع رفيقنا، فيما (أخونا المتنمّر) ينظر إلينا نظرات تحدٍّ واستهزاء، وهو طائرٌ في الهواء.
هنا قرّرت (حرمنا المصون) أن تنقل القط في صندوقٍ إلى ملحمةٍ بعيدة، صاحبها كريم ولا يقصّر بوهب (الشّخَط) وبقايا الجرْم والفرْم لهِررةٍ من شتى الأجناس ذات المسغبة. وبحثتْ عن (كرتونة) بسرعة، وحمّلتني إياها في مواجهة القط، وراحت تسايرُه حتى أمسكتْ بجسده (المُربرِب) وهي تلبس قفازين سميكين، فما إن أحسّ (النمر) بالمكيدة داخلَ العلبة حتى وثب كالشبح خارجها، وكم حمدتُ الله وزوجتي أنّ ساعِدَها نجا من جرح غادر لو لم تلبس ذاك القفاز السميك.
وهكذا غادَرَنا القطّ – النمرُ إلى غير رجعة، غير مأسوفٍ على فراقه، فما عاد لي سوى أن أعلنَ توبتي النصوح عن البيطرة!.
وإذ ذاك راح منبّه الهاتف يرنّ بحماقة، لأصحوَ من نوم عميق، فأهرع إلى إبريق ماء أشرب منه حتى الارتواء، وأنا أمسح بنظري ما حولي باحثاً عن نمرٍ ما، ولو من ورق، لكن دون جدوى.
العين في 1 نيسان 2024