الحكمة من فم ماسح الأحذية
د. غالب خلايلي
ما إن جفّ حبرُ مقاليّ عن (الأحذية وشجونها) (1و2) حتى وصلتني رسائلُ بقيتْ – لعُمق دلالتها وبلاغة تعبيرها – في بالي، منها رسالةٌ كتب صاحبها: “عشنا وما نزال إملاقَ الأرواح، وها أنتَ ذا تربط ما بينها وبين شِسْع النعال”(3). وأعترف بأن هذه الكلمات هزّتني وساقتني إلى التفكير العميق بعالمنا الذي يبدو فيه التناقض صارخاً، ما بين “شرفاء” مهمّشين مسغوبين، و”لاعقي أحذية” واصلين متخمين، مما ألمحتُ له في حديثي، ووعدتُ بالعودة إليه.
إن مصطلح “لعق الأحذية Bootlicking“، على بشاعته، شهير جداً، مما يعطي دلالة على سعة انتشار لاعقي الأحذية والأقدام والمؤخّرات و”مسّيحة الجوخ” والمنافقين المتملّقين المتزلّفين المتصنّعين المداهنين، هؤلاء العبيد ظلام البشر ووسطاء المتحكّمين بالرقاب، من سادة المال والسلطة والإذلال، ولا مانع لديهم من سحق أيّ كان، والدوس على جثته من أجل الوصول.
وإن هذا الاستنتاج ليس حصيلة خبرة (متواضعة بالتأكيد) فحسب، بل نتاج بحث فاجأني إطناب كثيرين فيه، وحتى شكسبير أفرد له حيزاً واسعاً في مسرحية العاصفة The Tempest 1623 م.
الإذلال حالة عالمية:
ليس الإذلال حكراً على أحد، لا في الشرق ولا في الغرب، بل إن الغربَ (اللامع المُشعّ المُهيمِن) تفنّن منذ قرون في إذلال البشر وطحنهم بالمعنَيَين الحرفي والمجازي، وما يزال، وهناك أمثلة لا تعدّ ولا تحصى على إذلال تراتبي متصاعد من عامة الناس، إلى المتسلّقين المُنبطحين، إلى أكابرِهم (سفّاحيهم)، تجده في السياسة والاقتصاد والتعليم والرياضة، ومع الأسف في الثقافة أيضاً، وما أكثر ما نواجه هؤلاء الأقزام في الحياة، ممن يظنون أنفسهم عمالقة.

في ذات احتفال كبير حضر عددٌ من كبار الشخصيات والكتّاب والإعلاميين، فغصّ المدرج الفخم بالحاضرين. جلستُ في الخلف (فأنا لا أحب المقاعد الأمامية، هذا إن أتيح الاقتراب منها) قرب رجل معروف في عالم التأليف، عرّفني إليه ذات يوم شخصٌ عزيز. تناولنا أطراف الحديث بما يسمح به الموقف، وبدا لي “الرجل” مشغولاً عني غير آبهٍ بما أقول. وكم فاجأني “الصديق” عندما تركني وراح يهرول – على يبوسة مفاصله – وراء السيدة التي أسرعت بالخروج بعد كلمتها الافتتاحية، وبيده ملفّ يبدو أنه كان أهمّ من الحفل كله.
وفي لقاءات مختلفة مع مسؤولين متوسطي الحجم، يحدث أن يدخل ضيف فائق الاعتداد بنفسه (ابن أحد الذوات المُلتَمسين) أو ضيفة ذات مكانة أو جمال أو استعراض، ليتحوّل “اللعق” كلياً إليه (أو إليها)، وكأننا باقي الضيوف أشباحٌ في ظلام دامس. والأدهى أننا لا نعدم مثل ذلك التصرف حتى عند بعض الزملاء الذين تكبر رؤوسهم فجأة، وسبحان مقلّب القلوب.

اللعق في عالم الثقافة العالمية والمحلية:
الثقافة عالمياً تكاد تكون محكومة بـ “أجندات” معروفة تُجلّ الثقافة “الاستعمارية” وتبجّلها، ويلحقها معظم المتسلّقين لـ “لعق خلفيتها”، كما سمعت هذه العبارة مراراً من حماي الراحل الأديب وليد مدفعي. وفي الجوائز العالمية تفوز أسماء، لا أدّعي أنها كلّها لا تستحق الفوز، بل أقول: إن هناك أسماء كبيرة جديرة بالجوائز، لكنها لا تدرج حتى في القوائم الأولية، تبعاً لتوجهات أصحابها ومناشئهم الجغرافية.
أما عن الثقافة المحلية فحدّث ولا حرج، عن مثقّفي السلطة وشعرائها وكتّابها، ولاعقي أحذية الأغنياء المتطفلين على الأدب، هؤلاء الذين إذا كتبوا نصّاً بدائياً (أو كُتِب لهم) وجدتَ له ألف مصفّقٍ ومبجّلٍ وناقدٍ متحذلق، تدبّج له قصائد المديح، وتكتب فيه الكتب، وربما دراسات الماجستير والدكتوراة، مما يعكس حالتي الفقر المادي والأخلاقي في عالمنا العربي. أذكر أيضاً أنه في ذات يوم قريب كنا نحضر أمسيةً أدبية حضرها وزيران (يا للتواضع النادر!)، وفي منتصف الجلسة قاما معاً، فلحقتْهما “رموز” الثقافة على عجل، هازّةً أكتافها، ولا أدري ألحقتهما أم أن عجلات كل منهما الأربع كانت أسرع.
ويبدو أن هذا السلوك الشائن قديم، ففي مقال هل النِّفاقُ مِلحُ الشعراءِ؟ كتب توفيق أبو شومر: “استغربَ أحدهُم مِن إعلامِيٍّ بارزٍ يمدح أحد القادة، يكادُ يُخرِجه من بشريّته، فتذكَّرتُ أننا نحن العربَ عمداءُ (سِلك) الفخر والمدح الدبلوماسي في العالم!. كان شعراءُ البلاط إعلاميي العصر السالف، مدحوا الولاة والأمراء، وصاغوا النِّفاق في طرائف خالدة. ومن أبرز أبياتِ النِّفاق بيتٌ شعريٌ نُسبَ خطأً للمتنبي، قاله محمد بن عاصم يمدح كافوراً الإخشيدي بعد حدوثِ زلزال في مصر:
ما زُلزلتْ مِصرُ من كَيدٍ ألمَّ بها لكنها رقصت من عَدلِكم طَرَبا
ووصل الحالُ ببعضِ الشعراءِ أنَّهم انتهكوا المقدسات، كما فعلَ ابن هانئ الأندلسي (ت 973 م)، وهو يمدح الخليفة الفاطمي المعزّ لدين الله:
ما شئتَ، لا ما شاءتْ الأقدارُ فاحكم فأنتَ الواحدُ القهَّار
وكأنمــا أنتَ النبيّ محمّــــــدٌ وكأنما أنصارُك الأنصــارُ
وفي مقال (فن لعق الأحذية حينما يكون صعودك المهني انهياراً لإنسانيتك) كتب الصحفي الجزائري جمال الدين بوشة: “متسلّقو الأكتاف دائماً هم من يتقدّمون الصفوف لتلقي التشكّرات على حساب غيرهم. يحملون الأسفار في كل البدايات، ستجلب خيرا أم شراً، لكنهم ينقلبون على أعقابهم حيال آخر إيقاع. يقولون: إن الفرص تتضاعف كلما انتهزتَها، لكنهم لا يذكرون بأن الفرص لا تراقص إلا من يتفنن في مغازلة القادرين على منحها، ويتودّد بل ويلعق أطرافا ما كان لها ان تُلعق إلا من قبل دودٍ تحت التراب”.
أما الكاتب رياض العطار فيقول: “والمهرول وراء أصحاب النفوذ يسمونه في العراق المتملّق، وفي سورية اللقلوق، وفي لبنان ماسح الجوخ، والفرنسيون – لكثرة احتقارهم لمثل هذه الشخصيات – يطلقون عليه “لاعق الأحذية“، والسياسيون يصفونه بـ (الانتهازي والوصولي)… وبصفتها ممارسة مرفوضة ومكروهة سميت (الثقافة الانتهازية)، هذه الثقافة التي انتشرت بشكل واسع في الكثير من المجتمعات وأوصلت ممارسيها إلى المناصب المرموقة والشهرة، وعلى سبيل المثال الكاتب الكبير (شاتو بريان) الذي رشح نفسه ذات مرة لمنصب رئاسة الجمهورية الفرنسية، والسياسي المخضرم (تاليران) و(بيير بيزار)، الأمين العام لحركة (لاعقي الأحذية) الذي ترأس المؤتمر الأخير للحركة وألقى كلمة جاء فيها: (يتهموننا بأننا عورة في المجتمع الفرنسي، ولكننا ضرورة لا يمكن الاستغناء عنا، ويتعذر أن ينجح أي نظام حاكم دون الاستعانة بنا، والإصغاء إلى نصائحنا. نعم، نحن فخورون بالعمل الذي نقوم به، ولا بد من أن نحتل مكاننا في المجتمع، وكفانا إهانة وازدراء وإهمالاً).
بقي أن أذكر هذه القصة ذات الدلالة عن الأديب الساخر والمفكر السوري المعروف وليد مدفعي (1932-2008) البعيد كل البعد عن النفاق، وتشهد كتبه ومقالاته له، والذي كان سببا في تهميشه وإبعاده عن الأضواء. ففي ذات مرة طلب صحفي مني (بصفتي صهر المدفعي) ترتيب لقاء موسّع معه، وكان اللقاء شاملاً (بالفاكس وقتها)، ومزودا بصور لها قيمة تاريخية عن بدايات المسرح في سورية، وعهد ناظم القدسي وخالد العظم. ومرت سنتان لم ينشر فيهما اللقاء الذي كان سيفرح قلب المدفعي بالتأكيد في آخر عمره، وحدث أن اتصلت بالصحفي (بنيّة إخباره بنبأ وفاة المدفعي)، فقال لي: سوف ينشر اللقاء قريباً، فأجبت: العمر لك. فسألني: وهل له أي صورة مع مسؤول أو وزير ثقافة مثلا؟ ولا أدري أكان عليّ أن أضحك أم أبكي.
من تاريخ لعق الأحذية:
وفقاً لقاموس أوكسفورد الإنجليزي، فإن أقدم استخدام لمصطلحي bootlick، بمعنى المتملّق، وbootlicker، يعود إلى عام 1846. ولاعق الحذاء هو شخص يمدح شخصاً قوياً أو ثرياً أو يعامله بأدبٍ شديد يفوقُ المعهود بطريقة مخادعة، من أجل الحصول على ميزة لنفسه. وفعل اللعق bootlick هو التصرف بخنوع والقيام بمحاولة لكسب الود بطريقة خاضعة أو متذللة، ومنه اشتقاقات bootlicked؛ bootlicking؛ bootlicks.
على أن مصطلح لعق الأقدام سابق للعق الأحذية:
فقد انتشر مصطلح لاعق القدم foot licker منذ عام 1610 م منسوباً إلى الإنسان الذليل الخانع. والقدم من أكثر الأعضاء قذارة في الجسم، تكفي رائحتها النتنة بعد طول انتعال للحذاء، وطول إهمال للنظافة. وكان الشخص الذليل الخانع يلعق (أو يقبل) أقدام شخص أعلى منه مقاماً وسلطة تعبيراً عن الولاء والخضوع. ولهذا فإن تقبيلَها أو لعقَها (أو لحسَها) عملٌ مهين لا يتوانى الأدنياء عن فعله، وإن كان هناك أذلاء أجبروا على الفعل ذاته، ولا نستغرب انتشار مصطلح (أبوس رجليك – أبوس صباطك) بين ظهرانينا وفي “ثقافتنا” المعاصرة، لاسيما من قبل محتاجين أو متهمين أمام رجال السلطة، أو سجناء أمام ضباط التعذيب الذين يمارسون كل الأفعال السادية.
ويذكر أن شكسبير استخدم التعبير ذاته في مسرحية “العاصفة” The Tempest عام 1623م، على لسان أحد شخوص مسرحيته (كاليبان) الأقرب إلى القرد شكلا والشيطان تصرفاً، فقال: “أنا خاصتك كاليبان، لاعق قدميك، لأجلك إلى الأبد”. (Thine own forever, and I, thy Caliban, For aye (forever) thy foot-licker). ومع انتشار الأحذية، نقل الفعل إليها، وصيغ المصطلح عام 1810.
مصطلحات مماثلة للعق الأحذية:
- التملق: التذلل والمداهنة. تَمَلُّق: تذَلُّل أو دَاهَنَ. مَلِقَه: تودّد إليه وليَّن كلامَه وتذلّل وأبدى من الودّ والتضرع ما ليس في قلبه.
- المُدَاهَنَةُ: الْمُلاَيَنَةُ، الْمُدَارَاةُ، ترك إنكار المنكر إجلالا لصاحبه وتقربا منه.
- النِّفَاق: إِظْهَارُ الْمَرْءِ خِلاَفَ مَا يُبْطِنُ، كإخفاء الكفر في الباطن والتَّظاهر بالإيمان
- التزلّف: التقدم، والتقرب والدنو، تَزَلَّفَ: تَقَدَّمَ، دَنا، تَقَرَّبَ، تَمَلَّقَ بِمَهَانَةٍ وَمَذَلَّةٍ
- التصنع: تَصَنَّع (فِي مَلْبَسِهِ وَكَلاَمِهِ): تَكَلَّف فِيما لَيْسَ بِهِ ولا قدرة على فعله، زخرف الكلام ونمّقه بحيث يخرج عن الطَّبع والبساطة.
مسح الجوخ وأصل الكلمة:
يقول الكاتب أحمد عزّت: “في الماضي كان “ماسحو الجوخ” يتقربون ممن يرتدي “الجوخ”، وهو نوعٌ فاخر من الثياب يتزين بها التجار وأصحاب الحظوة من السلاطين والوجهاء. وبالقدر الذي يحتل ذلك الشخص من المكانة، ينتشر حوله “ماسحو الجوخ”، وبعضهم لا يتوانى في سحق زملائه لاستئثار حظوة “لابس الجوخ” كاملة. وهذا الفن لا يفلحُ في أدائه إلا من يمتلك صفات متعددة من أبرزها “امتلاك لسان حاذق، وكرامة مهدورة، ونفس دنيئة تقبل الذل والهوان”. وحين تقابلُ واحداً منهم يبدأ في سياق مبرراته بالمثل الشعبي: “بوس الكلب من تمّه حتى تأخذ حاجتك منه”.
أما أصل التسمية فعائد إلى الجوخ، القماش الصوفي الذي يرتديه المنعّمون، ومنهم المشرفون على ملابس السلطان العثماني إعدادا وتنظيفا وإلباساً بما في ذلك الأحذية، ومن هنا جاءت رتبة (الجوخدار) في البلاط العثماني (واسم العائلة اللاحق)، التي توسّع معناها وشمل من يسدلون الستائر ويفتحونها في السراي وقصور الوزراء، وكان الجوخدارات الذين اشتهروا بالتملق للسلطان محافظة على مناصبهم، يمرون في المواكب والاحتفالات إظهاراً للبهرجة والثراء. وقد التقط المصريون هذا التعبير وصاغوا منه مصطلح (مسح الجوخ) إشارة إلى من ينافق شخصا ذا مكانة مرموقة وحسب ونسب، مثلما صاغوا مفهوم الأونطجي (والأونطة كلمة من أصل تركي Avanta معناها من يحصل على الشيء دون تعب، ثم ينسى الفضل، ومن ثم فإن «الأونطجي» هو الشخص الذي يمتلك أكبر قدر من الحيل التى تساعده على خداع الناس، وفي ذلك قال أحدهم:
مسحتُ جوخاً كثيراً و قدّمتُ الأونطة بصيراً
ثم ندمتُ لأنّنــــــــي قد صرتُ عبداً حقيــــراً
وإلى اللقاء في القسم الثاني.
العين، السبت 1 رمضان 1446 ، 1 آذار 2025
هوامش:
- مقال (مع حذائي العزيز) : https://taminwamasaref.com/dr-ghaleb-khalayli-put-yourself-in-my-shoes/
- مقال التلميع https://taminwamasaref.com/dr-ghaleb-khalayli-shoes/
- الشِّسع هو الرباط أو السير الذي يمسك النعل بأصابع القدم.