غلاف الكتاب
رحلةٌ طويلةٌ يمرّ بها الكتاب الثمين حتى يخرج من بين يدي مؤلّفه إلى النور.. لكن ما قصة هذا الكتاب في رحلته الطويلة بين دمشق ودبي؟
د. غالب خلايلي
وأخيراً، بعد نحو عامين من التنقّل بين دمشق وبيروت والعين والشارقة، حطّ كتاب الأستاذ الدكتور إبراهيم حقي الأثير (سيرة مواطن دمشقي في القرن العشرين) 1 رحاله في دبي.
وفي هذين العامين جرت أحداثٌ جِسامٌ، فيها القليل من الأمل، والكثير من الألم، حتى لكأنهما دهرٌ ثقيلٌ بأكمله.
مساء الثلاثاء 31 أيار 2022، وعلى سرير المرض في الطابق السادس من مستشفى دار الشفاء في العدوي بدمشق، راح الأستاذ إبراهيم حقي، رحمه الله، يحدّثني وزوجتي بوجود ولديه الدكتور منقذ والدكتورة نبل. كان الأستاذ مرتاحاً جداً لرؤيتنا، بعد سنتيّ غياب (سنة كوفيد 19، وسنة مرضي). أخبرني وقتها الأخ منقذ أن الوالد ينام عادة في مثل هذا الوقت، لكنه منذ أن سمع بوصولنا إلى دمشق الليلة الماضية، وهو ينتظر اللقاء.
كانت الثامنة والنصف ليلاً تقريباً عندما دخلنا الغرفة، وأدخل الأخ منقذ معه (كدسةً) كبيرة من الورق الأبيض، ومعها قلم تخطيط عريض أسود اللون! كان ذلك الخيار الأول كي نكتب لأستاذنا الذي بدأ يعاني ضعفاً في السمع، نتيجة المضادات الحيوية القوية؛ فيما الخيار الثاني هو الحديث بصوتٍ عالٍ قريباً من أذن الأستاذ.
فضّلت – كما أظنّكم تخمّنون – الكتابةَ، إذ إنها طريقتي الأثيرة، على أن (أصرخ) في أذن الأستاذ، فما وجدتُ ذلك لائقاً بمقامه الكبير، ولا بي وأنا خفيض الصوت بالأصل، ناهيك عن نفوري من الأصوات العالية وكرهي لها حتى صوتي عندما يعلو في أوقات عصيبة.
وكان أن جلسنا نحو ساعتين نكتب، والأستاذ يقرأ ويجيب، وهو في قمّة الوعي وصفاء الذهن وقوة الذاكرة والبصيرة ومتابعة الأحداث، رغم الضعف الجسدي والألم.
وفي ختام اللقاء حمّلني الأخ منقذ نسختين ثقيلتين من كتاب الأستاذ المشار إليه، كل نسخة (من جزأين وزنهما نحو ستة كيلوغرامات) في كيسٍ أنيق، الأولى لي، والثانية لشخص عزيز جداً على الأستاذ، هو أحد تلامذته النجباء الذي صار أيضاً علَماً في طب النساء والولادة في سورية ثم في الكويت فدبي (د. سعيد شاكر)، وقد كان الأستاذ يقدّره ويحبّه في الله حبّاً جمّاً، وكم اعتذر الأخ منقذ لثقل الكتب، إلى درجة أنه حملها معنا إلى باب المستشفى، ورافَقنا مشياً في الطريق المعتم دامسِ الظلمة، حتى صادفتنا سيارة أجرة صفراء، ولكم أن تخمّنوا ثانية في هذا المقام أنني لن أرفض طلباً عزيزاً كهذا لأستاذي حتى لو كان بديلاً عن أدوية ضرورية يجب حملُها.
في تلك السنة لم نستطع مغادرة الشام من مطارها قيد الإصلاح المتكرّر بين وقت قريبٍ وآخر، فكان أن عدنا في رحلة شاقّة إلى حدّ ما، لكن جميلة، ابتدأت في البرّ السوري اللبناني أولاً حتى مطار رفيق الحريري في بيروت، ومنه جواً عبر (الإماراتية) إلى دبي؛ ومن ثمّ في البرّ أخيراً نحو العين، نحمل معنا في هذه الرحلة الطويلة ما خفّ من لباسنا، وبعضاً من ملوخية الشام المجففة وحلوياتها المميزة، و… الكتب.
ها هي ذي النسخة الثانية معنا إذاً بعد رحلة طويلة دامت نحو اثنتي عشرة ساعة. ولأن هاتف المرسَل إليه ضاع مني، لم أجد سبيلاً له مع الأسف، فقلتُ: أوصل الكتبَ بعد رحلة إلى الأولاد، استغرقت نحو أربعين يوما، عدنا بعدها شبه مغمىً علينا لأيام، بسبب طول السفر، واختلاف مواقيت الليل والنهار.
ولما صرنا في حالة مقبولة من الصحو، رحت أفتّش ثانية عن الدكتور سعيد، لكني لم أجدْه ولم أعلم عنه شيئاً، حتى زارنا الأخ الدكتور أيمن طحان في ذات زيارة مرضيّة إلى مستشفى توام في العين، وكنت أسعَدُ
جداً بلقائه في بيتنا وهو العَلَم في اللغة والطب والقرآن الكريم، وكم فاجأني عندما سألته عن د. سعيد شاكر…. بخبر وفاته (2)، الأمر الذي اضطررتُ أن أخفيَه عن الأستاذ حقّي ونجله طويلاً، إذ لم أجد ذلك مناسباً والأستاذ على فراش المرض، والمتوفّى عزيز جداً عليه.
ولما كنت أعلم مدى عشق أخي أيمن للكتب الثمينة وحبّه للقراءة ومعرفة الحقيقة، وعلمتُ رغبتَه في الاطلاع على نتاج الأستاذ، سمحتُ لنفسي بأن أعطي الكتاب له، على أن أخبر الأخ منقذ بما حصل (وقد تمّ ذلك في زيارة لاحقة، ففوضني بفعل ما أراه مناسباً).
مؤسف أيضاً أن أخبركم (وقد كتبتُ لكم ذلك سابقا) أن الأخ أيمن طحّان توفاه الله بعد نحو ستة أشهر من ذلك التاريخ (بعد معاناة طويلة مع السرطان) (3)، ودخلتْ زوجتُه المسكينة في حيص بيص مع كمية هائلة من الأوراق والمطبوعات والكتب وهي تحزم أمتعتها كي تغادر بيتَها بل إمارةَ الشارقة نهائياً. وكان أن خيرتني – حفظها الله – باقتناء أيٍّ من كتب الراحل ومتاعه الطبي، فاخترت كتابين، ثانيهما كتاب الأستاذ حقّي.
على أن الكتاب لم يعد بسهولةٍ إليّ؛ فقد طال مكوثه في الشارقة، ريثما تسنّى لولدي الذي يدرس هناك إحضارُه؛ فكان أن زرتُ خلال ذلك الشام ثانية (عبر بيروت هذه المرة)، وزرت الأستاذ حقي صيف 2023 (وكانت زيارة الوداع)، وعدت إلى العين، ثم ذهبت في رحلة طويلة كتبتُ لكم عنها الكثير، لأحطّ الرحال أخيراً في العين، أوائل الشهر التاسع 2023، حيث أتانا مع بالغ الأسى نعيُّ الأستاذ حقي، رحمه الله، مساء 24 أيلول 2023.
عدتُ أقرأ في كتاب الأستاذ كلما حننتُ إلى ذكراه؛ لأعيش لحظاتٍ حميمةً وروحه الطاهر، ورأيت أخيراً أهمية أن يستفيد منه شخص آخر يستأهله، ومن أقربُ من الصديق العزيز الدكتور أيمن الكتبي حفظه الله، صاحب القول الفصيح والقلم السيّال (الذي أرجو أن يخرج نتاجه قريباً إلى النور)، ناهيك عن أنه الطبيب البارع للخدّج والولدان، وصاحب الفضل الكبير في مستشفى الوصل بدبي (مستشفى لطيفة لاحقاً) يوم كانت وحدات العناية في العالم العربي في تسعينيات القرن الماضي بدائية أو باهتة (إذا توفرت) أمام الوحدة الكبيرة المشعّة التي أدارها الصديق (4).
تلك هي قصة الكتاب الأثير التي رأيت أنها تستأهل التوثيق؛ راجياً لأرواح الأساتذة حقّي وشاكر والطحّان الراحة الأبدية، ولأخي الدكتور أيمن الكتبي طول العمر والصحة والعافية، ودوام الصداقة بيننا.
دمتم طيبين.
العين في 25 شباط 2024
هوامش:
1-العلاّمة ابراهيم حقّي في العامَيْن بعد المئة: دوّن سيرته المهنيّة وأرّخ الحقبة الماضية للشام، تأمين ومصارف 20 06 2022 hakki-https://www.taminwamasaref.com/ibrahim
2- د. سعيد أدهم شاكر: استشاري جراحة نسائية وتوليد، من أوائل أطباء اللاذقية المختصين في دمشق فبريطانيا. محاضر في جامعة دمشق 1962-1966 وأستاذ في جامعة (تشرين) 1976-1981 وفي مستشفى جامعة الكويت 1981 إلى 1990، وأستاذ في كلية طب دبي من 1990 حتى وفاته 2022. رئيس وحدة طب النساء في مستشفى الوصل (لطيفة) 1990 إلى 2003. له كتاب في الولادة بدون ألم، ومنشورات في تأثير الصيام على الجنين وفي العقم والإرضاع.
3-قدّ ممشوق وسيم، وروح شفاف فائق الجد لا يخلو من مرح جميل، ودماغ نشط وقّاد لا يهدأ في البحث اللغوي والعلمي. هذا باختصار هو أخونا الفقيد الدكتور أيمن عبد الكريم طحّان (مجلة تأمين ومصارف) 15 حزيران 2022 -ayman-https://taminwamasaref.com/doctortahan/
4-الخدّج جمع خديج Premature baby وهو المولود في الأسبوع ٣٧ أو ما قبله من الحمل. والوليد أو المولود في تمام الحمل (٣٨-٤٢ أسبوع) اصطلح على تسميته في موروثنا (حديث الولادة) ترجمة حرفية ل Newborn وحسب رأي الدكتور الكتبي: ليس منطقيا وجود قديم ولادة وحديث ولادة.