الخدمات الإداريّة… الكترونيًا
إعداد الدكتور الياس ميشال الشويري
الوعد بإقرار الحكومة الالكترونيّة أُعلن في العام 2002 من قبل وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية فؤاد السعد، وعلى أن يصبح حقيقة بعد سبع سنين. ولكن شيئًا من ذلك لم يحصل. فتبدّد الوعد في العام 2009 في حكومة ترأسها سعد الحريري وبقي في الأدراج. فهل يُصار إلى إقرار أهمّ خطوة يحتاجها لبنان لتنفيذ البرنامج الاصلاحي؟ د. الياس ميشال الشويري يسلّط الضوء في هذا المقال، على أهميّة إطلاق الحكومة الالكترونيّة.
في كانون الأول (دسمبر) من العام 2002، قدَّم مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية فؤاد السعد، وثيقة “إستراتيجيات الحكومة الإلكترونية في لبنان”، وبالتزامن، أشار الوزير إلى دنو موعد وَضْع مخطّط تنفيذي عالي المستوى لإنشاء الحكومة الإلكترونية خلال السنوات السبع المقبلة، أي لغاية العام 2009.
بعد مرور هذه الفترة، وفي بيانها الوزاري، أعلنت حكومة الرئيس سعد الحريري أنها “ستعمل على تحسين خدمات الادارة العامة وتفعيل استخدام تقنيات المعلومات والاتصالات للانتقال الى المعاملات الالكترونيّة واعتماد مشروع الحكومة الالكترونيّة”، مع أنّ هذا المشروع كان من المفترض أن يتمّ الإنتهاء منه في العام 2009، كما أسلفنا.
ومنذ ذلك التاريخ، والمواطن اللبناني، المقيم والمغترب، يعاني مشكلات تتعلق بتدني مستوى الخدمات الحكومية، تمثّلت في التأخُّر الحاصل في إنجاز المعاملات، رسميّة وخاصة أو الاثنتَيْن معًا، بالإضافة إلى البيروقراطية في الإنجاز والتعقيد الذي يُصاحب مثل هذه الإجراءات. وأسباب التأخير واضحة تتوزَّع بين الفساد المُستشري لغياب الرقابة من ناحية، والتنفيذ الاعتباطي غير المسؤول من قِبل الدوائر المعنية، من ناحية ثانية، وكلُّ ذلك نتيجة الواقع المتردي للإدارة العامة اللبنانية على كافة الأصعدة، والذي يتمثل (كما جاء في مقال عن تطوير أداء الخدمات الحكومية في لبنان، بقلم حسن عباس صالح)، بــ:
- إدارة عامة مثقلة بالمهام والمسؤوليات الاجرائية التي لا تعكس أولويات الدولة العصرية.
- عدم ملاءمة تنظيم الإدارة وهيكليتها بسبب المركزية المشددة وعدم الترابط الفعّال بين الإدارات مركزياً ومحلياً (البلديات).
- الضعف في التخطيط وصنع السياسات العامة والقوانين القديمة.
- عدم وجود إدارة فعالة للموارد البشرية تتضمن تخطيطًا واستقطابًا وتعيينًا وتطويرًا للموارد البشرية ووضع تعويضات عادلة.
- تدني فعالية الأنظمة الإدارية وما ينتج عنها من ازدياد في الفساد الإداري.
- انعدام المساءلة بسبب ضعف أنظمة الرقابة.
- عدم الاستفادة من تقنية المعلومات واستخدامها في مصلحة المواطن.
- عدم وضع المواطن في صلب اهتمام الإدارة.
في ضوء هذه المشاكل، لا يمكن النظر إلى تطوير الخدمات الحكومية من دون مراجعة تجارب الإصلاح الإداري، والإصلاحات الإدارية الواجب اتخاذها بهدف تطوير أداء الخدمات الحكومية.
على أي حال، وكما عهدنا وعود الحكومات المتعاقبة في لبنان: كالإصلاح، ومحاربة الفساد، ووقف الهدر، وتقليص العجز في الموازنة، وصَوْن القضاء واستقلاليته والحؤول دون التدخلات في عمله، وقانون انتخابي يعكس حسن التمثيل، والغاء الطائفية، والكهرباء 24/24، وغيرها وغيرها (ومن ضمنها الحكومة الإلكترونية)… تبقى الوعود مجرد وعود في البيانات الوزارية!
لقد شهدت العقود الثلاثة الأخيرة على مستوى العالم ارتفاعاً ملحوظاً في معدلات انتشار تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وطُرق استخدامها، الأمر الذي أدّى إلى تطوير تطبيقات تكنولوجية جديدة واعتمادها في تقديم خدمات إلكترونية متطوّرة، أبرزها الخدمات الحكومية. وعزّز انتشار هذه التكنولوجيا مشاركة الناس فيها، وساعد، بالتالي، في تحديد أولوياتهم وتعريف الحكومات باحتياجاتهم، وذلك من خلال استخدام شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الإلكترونية التي لها أثر مهمّ في إحداث تغييرات إيجابية في حياة المواطن.
ويُجمع علماء الاجتماع على القول أن مشاركة المواطنين والقطاع المدني تُعتبر أساسية لإرساء الحكم الرشيد والحَوْكمة. ويُساهم استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في إشراك المواطنين في عملية الحكم، من خلال توفير منصّة للنقاش والمشاركة والتعبير عن الرأي بسهولة وشفافية، وتمكين المواطنين من المشاركة الحقيقية والفعلية في العملية والإدارية والسياسية، ما يُسهم في توطيد أسس شرعية الحكومات.
ويعرَف هذا المفهوم بالحوكمة الإلكترونية التي هي امتداد للحكومة الإلكترونية، وتهدف إلى تمكين المواطن من المشاركة في عملية الحكم وصنع القرار. وبصرف النظر عن تعدّد التعاريف، يجمع الخبراء على اعتبار مفهوم الحوكمة الإلكترونية أوسع من مفهوم الحكومة الإلكترونية، من حيث إمكانية إحداث تغيير في علاقات المواطنين في ما بينهم ومع الحكومات، وذلك بهدف ضمان مشاركتهم الفاعلة في عملية الحكم.
لقد بدأت غالبية دول العالم، ومنذ زمن بعيد، في تطوير سياساتها بما يتناسب ومتطلبات العصر وبما يكفل أداء وظائفها بأعلى كفاءة ممكنة، وخاصة في القطاع الحكومي الذي اتصف دوماً بالبيروقراطية وتعدّد التعقيدات في الإجراءات المطلوبة، الا في لبنان حيث غابت المسؤولية لدى القيّمين على شؤون البلاد، إضافة الى نهبهم المال العام أو هَدْره. ومع دخول عصر الثورة المعلوماتية، أصبح لزاماً على الدول أن تقوم بإعادة هيكلة مؤسساتها العامة بما يتواكب ومتطلبات الثورة الرقمية للتهيئة للاندماج في الاقتصاد العالمي الذي تتزايد فيه حدة المنافسة، ومن ثم التفكير في التحوّل نحو الحكومة الالكترونية لكي تتحوّل الأساليب التقليدية لأداء العمل الحكومي إلى أساليب مُمَكْنَنَة تُستخدم فيها التقنيات الحديثة التي تتطور دوماً في ظلّ ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات حتى يتمّ تقديم الخدمة الحكومية في أسرع وقت وبأقل تكلفة ممكنة، فأين نحن في لبنان من كلّ ذلك وقد ازدادت حالات الذلّ التي يلقاها المواطن على أبواب الوزارات والإدارات والمؤسسات العامة؟
من هذا المنطلق، جاء هذا المقال للاحاطة بختلف جوانب موضوع الحكومة الالكترونية من خلال طرح الاشكال التالية: ما المقصود بالحكومة الالكترونية وماهي متطلباتها؟ وما هي المبرّرات التي تدفع نحو هذا الشكل من الحكومة؟
- مفهوم الحكومة الإلكترونية. إن مفهوم الحكومة الإلكترونية في أبسط صورة، يعني التعاملات التي يمكن أن يجريها المواطن مع الأجهزة الحكومية من خلال وسائل المعلومات والإتصالات، بحيث تسمح تلك التقنيات الحديثة للمواطنين والجهات الحكومية بتبادل المعلومات وإنجاز الأعمال بصورة متكاملة من خلالها.
إن مشروع الحكومة الإلكترونية ينشأ لكي يقدِّم الخدمات الحكومية للمواطنين بطريقة مرضية تفي باحتياجاتهم بوسائل يسهل الحصول عليها واستخدامها من خلال شبكة الإنترنت أو الهواتف الثابتة والمحمولة، حيث ما وجدوا. ذلك أنّ تقديم الخدمات للمواطن من خلال الحكومة الإلكترونية عبر وسائل المعلومات والإتصالات المختلفة يحقّق الكثير من المزايا والفوائد، من أهمها توفير الوقت وتوفير الجهد، وايضاً توفير التكلفة نتيجة الحدّ من رحلات إنتقال المواطنين إلى الوزارات الخدماتية التي تقع بمعظمها داخل العاصمة.
- الركائز الأساسية لنجاح الحكومة الإلكترونية. ومن أهمّها نورد ما يلي:
- الموظفون الحكوميون، باعتبارهم المورد البشري لدى الحكومة الذي يحتاج إلى تدريب وصَقْل للارتقاء به فنيًا للعمل في بيئة الكترونيّة.
- العمليات الإدارية نفسها ودورة العمل داخل المؤسسات والجهات الحكومية والتي تمثل عصب الحكومة الإلكترونية.
- الأجهزة اللازمة والنظم والبرامج اللازمة لتنفيذ الحكومة الإلكترونية.
ومن المتطلبات الأساسية لقيام مشروع الحكومة الإلكترونية نورد ما يلي:
- تطوير البنى الأساسية للاتصالات في المؤسسات الحكومية.
- تدريب العاملين في المؤسسات الحكومية، وعلى نطاق واسع، للانتقال بها إلى النظام الإلكتروني الكامل .
- إيجاد الوسط الذي يسمح بالاتصال بين إدارات الحكومة بعضها بالبعض الآخر.
ومن الأمثلة للخدمات الحكوميّة، نذكر الآتي: فواتير الكهرباء والهاتف، استخراج الوثائق المدنية، الأنشطة المصرفية، النشاط الاستثماري ، الخدمات الإدارية التعليمية، البطاقة الشخصية والعائلية، الوثائق المرورية وتداول المستندات الإلكترونية بين الأفراد، أو بين الأفراد والحكومة.
3. التفاعلات بين الحكومة الالكترونيّة والمدن. هي عديدة، وفي ما يلي أبرزها:
- إن التطوّر التقني وإقامة مشروع الحكومة الإلكتروني، لن يؤثرا على المدن تأثيراً ذاتياً مباشراً، بل سيؤثران على المدن من خلال استخدام الأفراد لهما. وبقدر تطوّر ونجاح استخدام الأفراد تلك التقنيات الحديثة، بقدر ما سيكون التغيّر في العمران والمدن من حيث الشكل والنسق والمضمون.
- إنّ القرارات التخطيطية هي غالباً قرارات سيادية تصدرها المستويات الإدارية العليا في المناطق كافة، لذا يجب أن تستوعب هذه الإدارات تلك التقنيات، وأن تستطيع التعامل معها بالسرعة المطلوبة وبالتفاعل المتبادل بينها وبين المواطنين. فالأجهزة المرتبطة بالتنمية العمرانية في المدن، مثل البلديات، يمكن أن توفر قاعدة بيانات كاملة عن المدينة والأحياء التابعة لها، وأن تقوم بتحديثها بصفة مستمرة مع ضرورة ارتباط مستوى الوسائل التقنية المستخدمة بطبيعة المشاكل المحلية وقدرة الأجهزة الإدارية على التعامل مع هذه الوسائل بطريقة فعّالة.
- الفضاء الإلكتروني الذي توفرها لحكومة الإلكترونية وغيرها من الخدمات الإلكترونية هو جزء من المدينة مثله مثل الفراغات المادية التقليدية الأخرى حيث يُكمل كلّ منهما الآخر لتشكيل منظومة المدينة الإلكترونية المادية. فالإنسان، أولا وأخيرا، كائن مادي يجب أن يعيش في كيان مادي هو المدينة، يوفر له متطلباته المادية من فراغات عمرانية مختلفة. ومع الإمكانيات المتاحة لتقنيات الاتصالات والمعلومات الحديثة، أصبح متاحا تأدية بعض هذه المتطلبات إلكترونياً، وبذلك أصبح الفضاء الإلكتروني أحد جناحي المدينة الذي لا يستغني أي منهما عن الآخر.
- تأثير الحكومة الالكترونية. إن للتطور التقني المعاصر دورًا كبيرًا في الحفاظ على البيئة من أوجه عديدة، فتغيّر الحاجة للانتقال عن طريق استخدام الأنظمة الإلكترونية في خدمات الحكومة الإلكترونية لن يتبعه مباشرة انخفاض في الطلب على الانتقال بصورة مفاجئة، ولكنه يغيّر من أنماط رحلات الانتقال بالمدينة، من رحلات عمل وتعليم بصورة رئيسة، إلى رحلات خدمات وترفيه في أوقات متنوعة. ولكن اذا أخذنا قطاع النقل والطرقات من ناحية ثانية وعلى سبيل المثال، فإن التكنولوجيا تنتج أيضا المساهمة في التحكّم المروري بصورة أفضل مما يساعد على توفير بيئة سليمة مع انتشار الصناعات المعلوماتية. في هذا الخصوص، يظهر تأثير الحكومة الالكترونية في النقاط التالية:
- تغيّر أنماط الحصول على الخدمات وأنماط أداء الأنشطة الحضرية والاعتماد بشكل كبير على الشبكة الدولية للاتصالات.
- تشجيع هجرة المواقع والطرق المزدحمة داخل المدن والسكن في اماكن أقلّ ازدحامًا خارج المدن.
- التحكّم فى حركة النقل والمرور الكترونياً.
- تخفيف المرور داخل المدن، وتقليل عدد الرحلات المادية المخصصة للوصول الى الخدمات والأنشطة وممارسة الأعمال، كذلك تقليل معدلات استهلاك البنزين.
- تقليل الاحتياجات الى طرق الجديدة، وتقليل المساحات المخصصة لانتظار السيارات.
- حل مشاكل الإختناقات المرورية، وخاصة في أوقات الذروة.
لقد سبقنا العالم بمراحل في هذا الشأن، وليس من المنطق ان نبقى نُحصي الخدمات ارقاماً، ومازلنا نعتمد الأوراق والأخبار لتقديم الخدمات للمواطنين. إن الانجاز الحقيقي يأتي من خلال تقدير محكم بوصف معتمد على واقع حال، يحدد الاهداف وآليات العمل ضمن خطة زمنية محدودة للوصول للغاية. مما لا شك فيه أن افتقاد الدولة اللبنانية للحكومة الإلكترونية، يُكبّد الاقتصاد اللبناني خسائر في الإنتاجية تُقدَّر بحوالي 1،2 مليار دولار أميركي سنوياً، كما جاء في مقال نشر في جريدة “الأخبار” لمحمد علي جعفر. من جهة أخرى يُساهم تطبيق الحكومة الإلكترونية في ردم الفجوة التخطيطية والتنفيذية بين القطاعين العام والخاص، وبين هذه القطاعات والمواطن، حيث تصبح آلية العمل الإجرائي أفضل، وإمكانية تبادل البيانات أكبر.
نتمنى صادقين أن تعمل حكومة الرئيس سعد الحريري المرتقبة على تحسين خدمات الادارة العامة وتفعيل استخدام تقنيات المعلومات والاتصالات للانتقال الى المعاملات الالكترونيّة واعتماد مشروع الحكومة الالكترونيّة، كما وعدت حكومته في العام 2009 ونكثت بهذا الوعد، لما في ذلك من نتائج تتخطّى عوامل الوقت والفعالية لتصل إلى جعل العمل الإداري في لبنان يتماشى مع متطلبات العصر الحديث، خصوصاً في زمنٍ باتت فيه تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وسيلة مُتاحة لدى كافة الأطراف.
فهل سيُبصر مشروع الحكومة الإلكترونية النور قريباً مع الحكومة المرتقبة للحدّ من الفساد الذي أفقد الدولة مقومات بقائها، خاصة وأن الكثير من الدول تطمح إلى الاستفادة من هذا الإنجاز في مجال البيانات، أي تنامي حجمها وتطور أدوات التحليل، والابتكار التكنولوجي المُصاحب كتطبيقات الهواتف المحمولة وأدوات الأدلة الجنائية، في مُعالجة مُشكلات رئيسة تُؤرق المجتمعات والدول وفي صدارتها الفساد. لكن، هذه الأدوات جميعاً لا تضمن بأية حال علاجاً أكيداً للفساد في غياب الإرادة السياسية ومبادئ فاعلة مثل الشفافية والمُساءلة وحرية التعبير والنشر. إنّ “وثائق بنما” التي تناولت مخططات مسؤولين كبار وشخصيات شهيرة للتهرّب الضريبي وغسيل أو تبييض الأموال، وقادت إلى تحقيقات جدية في الكثير من الدول واستقالة مسؤولين، تقدِّم مثالاً على كيفية استفادة الأفراد والمؤسسات من التكنولوجيا الجديدة للحدّ من فرص استشراء الفساد.
ختاماً، ومع أننا نشكك بنية الطبقة السياسية في لبنان بالإصلاح، يبقى الأمل الضئيل والجانب الأهم بتوافر العزم الصادق عند هذه الطبقة،التي تمادت بفسادها على مدى سنوات طوال، أن تبدأ، تحت وطأة الضغوط الخارجية التي نأمل أن تشتد وتتعاظم للحد من سلطتهم، بمحاربة الفساد والمساءلة ورعاية الحقوق، إبتداءً منها ووصولاً الى كلّ تابع لها في هذه الدولة المجبولة بفسادها. لقد حان الوقت أن ينتقل لبنان من إدارة الأزمات المستمرة إلى السياسات المستدامة والمستقرة، وبناء المرونة من خلال إصلاح نظامي واسع وعميق. وكما نعلم جميعاً، القوة في الداخل شرط أساسي للقوة في الخارج.