النواب المعتصمون داخل البرلمان
“كل ما يتطلبه الطغيان للوجود هو بقاء ذوي الضمير الحي صامتين! وعندما تخشى الشعوب حكّامها يولد الطغيان، وعندما يخشى الحكّام الشعوب تولد الحرية!” عبارتان زاخرتان بالمعاني لتوماس جيفرسون، أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأميركية والكاتب الرئيسي لإعلان الاستقلال عام 1776 وثالث رئيس للولايات المتحدة الأميركية (1801-1809). ففي هاتَيْن العبارتَيْن كأنه يوجّهنا الى ما يجب علينا فعله مع الذين نهبوا سفينة إسمها … لبنان! بهذه الكلمات، استهل د. الياس الشويري مقالته الشهيرة ليعبّر بحزن وأسى وحرقة عمّا وصلت اليه الأحوال في لبنان الغارق بكل موبئات السلطة عندما تفتقد سلطتها: فإلى الأسطر التالية …
بقلم د. الياس ميشال الشويري
يسرّني أن أبدأ هذا المقال بالإستشهاد بما ذكره حسن خليل غريب في تعليق له عن “القراصنة الذين نهبوا سفينة إسمها لبنان وحولوها إلى دولة فساد لا نظير لها، ومأوى للعجزة والأيتام والعاطلين عن العمل”! نعم، هذه السفينة، سُرقت حمولتها وأُسِر ركابها، ووُضع أبناء البحّارة ونساؤهم في ملاجئ للأيتام والمُعْوَزين، وبدأت جوقة كل طائفة تستجدي المساعدات والتبرّعات تحت يافطات إنسانية تستدّر بها عطف دول العالم وشفقتها.
يا سبحان الله، كم هي واسعة مخيَّلة الاحتيال عند بعض أمراء السلطة الطائفية في لبنان! هذا البعض، هم قراصنة من طراز فريد: يجمعون بين القرصنة واللصوصية والفساد، وبلحظة يتحول الواحد منهم إلى فاعل للخير يؤوي العجزة، ويُطعم الأيتام، ويقدِّم المساعدات للعاطلين عن العمل! يا سبحان الله، أن يتحوَّل العَجَزة والأيتام إلى مسبِّحين بحمد قراصنتهم وسارقيهم! قد لا يكون من الغريب العجيب أن يُسبِّح المسروق بحمد السارق، لأن الأخير فنَّان استخدم عقله الذي حبّاه الله به لتوظيفه في فنون السرقة والنهب والكذب. وأما المسروق فلقد دفن نفسه في مدافن الجهل والسذاجة، لأنه لا يعرف أن يعيش من دون زعيم. ومن هو هذا الزعيم؟ هو ببساطة قرصان فاسد ومجرم وخائن وعميل إستولى على سفينة إسمها لبنان في ظرف قاتم من تاريخ لبنان، وسرق محتوياتها، ونكّل دون شفقة أو رحمة بربانها أو عمّالها من البحارة.
استناداً إلى الوقائع والحقائق تلك، نؤكد ما يلي:
– فلتخرج أحزاب الطائفية السياسية العميلة عن منهج إدارة ملاجئ العجزة والأيتام والعاطلين عن العمل، وتسلك مناهج إدارة دولة لكل مواطن حقوق من عائداتها. وإذا لم تفعلها، وهي لن تفعلها لأنها المستفيد الأول من نهب السفينة ومن عائدات التسوّل على أبواب المحسنين، على الشعب أن يُسقط سلطة اللصوصية والقراصنة، وسلطة متعهدي دور الأيتام والعجزة.
– وإذا كان البعض يائساً من التغيير بحجة أن من يعمل من أجله قليلو العدد، يكفي أن هذه القلة قد حفرت في ضمائر الشعب، حتى تلك المستسلمة لمناهج القرصنة على الطريقة اللبنانية، ألف سؤال وسؤال.
في ما يلي إقتباس من كلام إبن خلدون، وكأنه يتكلّم عن حكّام لبنان الذين يُنعت بعضهم بأبشع الأوصاف وأحقرها:
– فاز المتملّقون. أوَ ليس هذا هو حالنا السائدة مع المرتزقة والقراصنة من السياسيين الفاسدين والمفسدين؟ إن هذه الشلّة من القراصنة الأنذال أبعد ما تكون عن شرف هذه المهنة، بل ليس هؤلاء سوى متسلّقي مواقع، ومتسوّلي أدوار، وغلمان عند مشغليهم في الخارج!
– فساد القضاء يُفضي إلى نهاية الدولة. أوَ ليس هذا هو واقعنا مع بعض القضاة الذين سَخّروا أنفسهم لخدمة الأحزاب والتيّارات والحركات بدلاً من خدمة العدل والوطن!
– إذا تعاطى الحاكم التجارة فَسُدَ الحكم وفَسُدَت التجارة. أوَ ليس هذا هو حالنا مع التجاّر الجشعين من حاملي ألقاب أستاذ وبيك وشيخ وسعادة ومعالي ودولة وفخامة وزعيم و … ممن نهبوا البلد وخدموا مصالحهم على حساب مصلحة الوطن!
– إن الإنسان اذا طال به التهميش يصبح كالبهيمة، لا يهمه سوى الأكل والشرب والغريزة. أوَ ليس هذا هو حال اللبناني (الحر) اليوم الذي يعيش الجحيم ليلاً ونهاراً ويقتات على الفتات والفضلات!
بيقولوا بلد … بئس هكذا بلد يتحكّم فيه أسوأ ما خلق الله، منذ التكوين … وربما للأبد! للأسف، وكما قال إبن خلدون أيضاً:
لا تولوا السفلة والسفهاء القيادةَ والمناصب لأنهم إذا أصبحوا من ذوي المناصب اجتهدوا في ظلم الأبرياء وأبناء الشرفاء وإذلالهم بشكل متعمد نظراً لشعورهم المستمر بعقدة النقص والدونية التي تلازمهم وترفض مغادرة نفوسهم، ما يؤدي في نهاية المطاف إلى سقوط العروش ونهاية الدول.
حقاً، لقد برهنت الأيام أن عدو الداخل هو الأخطر والأشد فتكاً وضرراً بالشعب اللبناني (الحر) ولبنان من عدو الخارج (اذا جاز التعبير)! والواقع اليوم حافل بالأمثلة الحية عن رموز الفساد في هذا الوطن من حاملي الألقاب التي لا تليق بهم، لا في الجوهر ولا في المضمون، الذين باعوا أنفسهم للشيطان وتاجروا بالوطن لأجل جاهٍ أو مال! يطبّق على هؤلاء الأنذال الخونة والعملاء قول الشاعر صالح عبد القدّوس:
لا خير في ودِّ امرئ متملقٍ
حلو اللسان وقلبه يتلهّب
يلقاك يحلف أنه بك واثقٌ
وإِذا توارى عنك فهو العَقْرَبُ
يعطيك من طرف اللسان حلاوة
وَيَرُوغُ مِنْكَ كما يَروغُ الثعلب.
فكيف يمكن هذا الشعب ان يمتدح من يستحق الذمّ، وان يضفي من عظيم الصفات على من لا يستحق من السفلة والسفهاء؟ وكيف يمكنه أن يُضفي قيم الشجاعة على الجبناء، والبطولة على الانذال، والكرم على البخلاء، والعلم على الجهلاء، والحكمة على الحمقى، والذكاء الفذّ على الأغبياء، والخير على الأشرار … من أعداء لبنان، من الأنذال الخونة والعملاء، الذين شوّهوا صورة هذا البلد وأوصلوه، بسرقاتهم وأفعالهم الدنيئة التي مارسوها على مدى أكثر من ثلاثة عقود، الى الإنهيار والإفلاس، وأوصلوا شعبه الى الفقر والعوز؟
صدق دافيد بن غوريون (أول رئيس وزراء لدولة اسرائيل، هذه الدولة التي حمت (وتحمي) ودافعت (وتدافع) عن مصلحة وكرامة شعبها أينما تواجدوا، وليس كدولتنا الفاسدة والفاشلة بامتياز، عندما قال: نجاحنا لا يعتمد على ذكائنا بقدر ما يعتمد على جهل وغباوة الطرف الآخر! أوَ ليس هذا هو واقعنا مع المنظومة الحاكمة الخنوعة، الجاهلة، الغبيّة التي أوصلتنا الى ما نحن عليه اليوم! كما صدق ونستون تشرشل (رئيس وزراء بريطانيا) عندما قال: كل شعب في العالم ينال الحكومة التي يستحقها؛ أوَ ليس هذا هو حالنا عندما ارتضينا برلمانات وحكومات لم تجلب معها سوى الشقاء والعذاب واليأس والبؤس والحزن والفقر والضياع والحرمان، ما عدا البعض من النواب والوزراء الشرفاء، كالدكاترة جوزيف شاوول وحسن شلق وشربل نحّاس وغيرهم من أصحاب الضمائر الحيّة، الذين لم تغرِهم وتغيّرهم المناصب.
لنتذكّر ما قاله يوماً الرئيس البرازيلي الحالي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا (أشهر قادة البرازيل على الإطلاق، كما أنه أحد أشهر القادة في العقود الآخيرة الذين عرفوا بالدهاء والديموقراطية وأنموذج التنمية الإقتصادية، الذي إنتقل بالبرازيل إلى عصر تنمية ونهضة غير مسبوق):
– لا يستطيع أحد أن يحصد الثمار قبل أن يزرع الأشجار. لذلك، لنعمل من أجل أن نتخلّص من أعداء لبنان بشتّى الوسائل المتاحة. لقد برهنت البرلمانات المتعاقبة، خاصة منذ التسعينات، أنها عقيمة ولم تقم بواجباتها في البحث عن حلول لمشاكل الشعب وسن القوانين البنّاءة ومراقبة الحكومات وعملها، وتدقيق القرارات المالية والإقتصادية الصادرة عن ما يسمّى بمجالس الوزراء، والتحقّق من الإنفاق الحكومي والضرائب والموافقة عليها، ومناقشة سياسات الحكومات المتعاقبة والقوانين المُقترحة والقضايا اليومية!
– علينا أن نعمل على استعادة مصداقيتنا الداخلية لأننا نعيش أزمة مصداقية. لذلك، وجب علينا في لبنان أن نتخلّص من المارقين والفاسدين والمفسدين الذين استولوا على السلطة منذ التسعينات، ونضع في المكان المناسب من يستحق من المواطنين الأكفاء الذين خدموا الوطن بضمير في شتّى المراكز ولأعوامٍ طوال من دون أن يمدّوا أياديهم على المال العام أو على أموال المودعين.
– إذا كان لدى شعبي في نهاية فترة ولايتي إمكانية تناول الفطور والغداء والعشاء دون مشكلة في ذلك، فسوف أكون قد أوفيت بمهمة حياتي التي ناضلت من أجلها. لننظر حولنا والى ما آلت إليه أحوالنا في هذا البلد الذي أضحى على شفير الهاوية ولامس الجوع بفضل مجموعة لا يهمها سوى السلطة والمال، وبأي ثمن!
– الشيء الذي نحن بحاجة إليه هو أن يكون لدينا نظام رئاسي دستوري، ويكون هناك برلمان له ثقل كبير في البلد. لننظر الى البرلمانات المتعاقبة في هذا البلد، فهي لم تفلح في إنتاج أي شيء يصّب في مصلحة الوطن والمواطن.
– أنا لست بحاجة إلى أسلحة، ولا أعتقد أن أي شخص آخر بحاجة إلى أسلحة، فعلى أقل تقدير حظر تداول الأسلحة سيحول بين تحوّل الخلافات من معارك عادية إلى معارك دموية. لننظر حولنا إلى المآسي التي جلبها لنا البعض بتصرفاتهم الإنتهازية واللا أخلاقية التي أودت بحياة الآلاف لقاء لا شيء، سوى تدمير لبنان!
– أعظم أمنياتي هو أن أرى ذلك الأمل، الذي تغلّب على الخوف في بلادي، يتغلّب على الخوف أيضاً في جميع بلدان العالم الأخرى التي هي بحاجة لذلك. وهل بقي من أمل لنا في هذا البلد مع شلّة من عصابات تسيطر على البلد من خلال بث الرعب، بفعل:
– أخلاقياتها وتصرفاتها الميليشوية في التعاطي الدموي مع الأمور.
– خطابها الذي يؤجّج الكراهية عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمنابر الاعلامية والسياسية والطائفية والحزبية، نتيجة تداعي مهارات الشطارة والتبسيط والتسطّح التي تتحكّم باداءها وأدواتها الغبيّة التي حطّمت كل محاولات تكوين ارادة وطنية جامعة وقادرة على بلورة اهداف إنمائية إستراتيجية تتلاءم مع الامكانيات وتحاكي مستقبل الأجيال وتساهم في تعزيز السلم الاهلي وبناء الدولة الوطنية الديموقراطية.
نتمنّى صادقين أن يأتي يوم نشهد فيه محاسبة من استفاد وسكت عن الظلم والسرقات طوال أكثر من ثلاثة عقود. وكما قال أرسطو: إذا سحب أحدٌ عين آخر، فليس من العدل أن يكتفى بسحب عينه. فالمذنب يجب أن ينال من الأـذى أكثر مما تسبّب به! وهذا ما يجب أن نطمح إليه مع هؤلاء القراصنة، هؤلاء الذين نهبوا سفينة إسمها لبنان وحولوها إلى دولة فساد تحكم، لا بالقوانين والدساتير، بل بشعارات خاصة بها وخارجة عن إطار الإنتظام العام في العالم أجمع!
في الختام، وكما قال الشاعر الكبير محمود درويش:
– سنصير شعباً حين لا نتلو صلاة الشكر للوطن المقدَّس كلما وجد الفقيرُ عشاءَهُ!
– سنصير شعباً حين نشتم حاجبَ السلطان والسلطان دون محاكمة!
ولنتذكّر أيضاً القول التالي لتوماس جيفرسون:“هل تخافنا الحكومة، أم هل نخاف نحن من الحكومة؟ عندما يخاف الناس من الحكومة، فعندها يوجد الطغيان … الحكومة هي خادمنا وليس سيدنا!”