الدمار يُطاول غزة
تداعيات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، اقتصادياً ومالياً واجتماعياً، وبغض النظر عن الدمار والضحايا، بدأت تنكشف يوماً بعد يوم. فقد أعلنت وكالتا «موديز» و«فيتش» أنهما وضعتا، قيد المراجعة، تصنيف الديون السيادية الإسرائيلية الطويلة الأجل (حاليا A1)، تمهيداً لاحتمال خفضه بسبب الحرب الدائرة بين الدولة العبرية وحركة حماس. وتُعيد الوكالتان احتمال خفض تصنيف الديون الى تزايد خطر اتساع النزاع الحالي في إسرائيل ليشمل اشتباكات عسكرية واسعة مع جهات فاعلة عديدة، لفترة طويلة بينها: حزب الله وجماعات مسلحة إقليمية أخرى وإيران، مع الإشارة هنا الى أن توقّعات «موديز» للديون السيادية الإسرائيلية في السابق كانت مستقرّة. والملاحظ أنها لم تتخذ قراراً في مراجعة التصنيف، بل تريثت وذهبت الى القول أنها “ستراجع تقييم ما إذا كان من الممكن أن يتحرّك النزاع باتجاه حلّ، أو ما إذا كان هناك احتمال لتصعيد كبير ولفترة طويلة، وأنّ هذه “المراجعة” ستركّز على المدّة المحتملة للنزاع ونطاقه، وعلى تقييم آثاره على المؤسّسات الإسرائيلية، لا سيما فاعلية سياساتها وماليّتها العامة واقتصادها، مضيفة «فترة المراجعة يمكن أن تكون أطول من الأشهر الثلاثة المعتادة»، محذرة من أنّه «كلّما كان النزاع العسكري أطول وأكثر حدّة، ازداد تأثيره على فاعلية السياسات والمالية العامة والاقتصاد» في إسرائيل”.
أما وكالة «فيتش» فقالت في تقييمها للوضع “إنه قد لا يتمّ خفض التصنيف إذا جرى خفض للتصعيد، مما يحدّ من مخاطر التأثير المادي طويل الأمد على الاقتصاد والمالية العامة لإسرائيل”.
ولم يكن وَقِعْ هذه الحرب سهلاً على مصر أيضاً، اذ توقّعت وكالة «ستاندرد آند بورز» للتصنيف الائتماني، تأثّر اقتصاد مصر بتداعيات ما يجري بين إسرائيل وغزة، منذ السابع من تشرين الأول (اكتوبر) الجاري، ولذلك خفّضت تصنيفها الائتماني، مع أنها أعلنت أن «السيناريو الأساسي الحالي هو أنه من المرجّح أن يقتصر إلى حدّ كبير على إسرائيل وغزّة»، لكن نظراً لحدود مصر مع غزّة وسيطرتها على معبر رفح، فانها ستتأثر بشكل مباشر! أكثر من ذلك، رجّحت الوكالة أن يؤدي النزاع الراهن إلى تراجع عدد السياح في مصر، ما قد «يمارس ضغطاً إضافياً على الاقتصاد المصري”، مشيرة إلى أن إغلاق منصة «تمار» الإسرائيلية للغاز أدّى، بدوره، إلى خفض واردات مصر من الغاز من 800 مليون قدم مكعّب يومياً إلى 650 مليوناً ما يخفض من قدرة مصر على تلبية طلبات تصدير الغاز الطبيعي المسال. كذلك أبدت ملاحظَتَيْن الأولى أن الإصلاحات الهيكلية تتقدم ببطء، ما أخرّ صرف الأموال لتلبية احتياجات التمويل الخارجي اللازمة للبلد. وخفّضت تصنيفها لمصر من B الى -B، مستندة كذلك إلى «التكاليف المرتفعة جداً لخدمة الدين العام (…) باعتبارها تحدّياً محتملاً أمام القدرة على تحمّل الديون”.
الى ذلك، خفّض «بنك إسرائيل المركزي» توقعاته لنمو الاقتصاد على خلفية الحرب الدائرة مع ابقائه أسعار الفائدة الرئيسة دون تغيير، وكذلك مع دعم الشيقل الذي تراجعت قيمته أمام الدولار إلى أقل مستوياتها منذ 11 عاماً.
ووفق التوقعات المعدلة التي أصدرتها إدارة البحوث في «البنك المركزي الإسرائيلي»، سيسجل الاقتصاد نمواً خلال العامين الحالي والمقبل بمعدل 2.3 و2.8 في المائة على التوالي، مقابل 3 في المائة للعامين، وفقاً للتوقعات السابقة، علماً أن اتساع نطاق الصراع سيؤدي إلى تعديل التقديرات مجدداً.
الى ذلك، ذكرت وكالة «بلومبرغ» للأنباء أن لجنة السياسة النقدية في «البنك المركزي» الإسرائيلي أبقت على سعر الفائدة الرئيسية عند مستوى 4.75 في المائة للاجتماع الثالث على التوالي، وهو ما جاء متفقاً مع توقعات أغلب المحللين الذين استطلعت الوكالة آراءهم. وبعد إعلان قرار تثبيت الفائدة سجل الشيقل تغييراً طفيفاً في سوق الصرف. وأشارت «بلومبرغ» إلى أن الحرب الدائرة في قطاع غزة ألقت بظلالها الكثيفة على مختلف قطاعات الاقتصاد الإسرائيلي من سوق السندات إلى سوق الأسهم؛ حيث خفضت القيمة الإجمالية للأسهم المسجلة على المؤشر الرئيسي لبورصة تل أبيب بنحو 19 مليار دولار. وأدت هذه التداعيات إلى ضخ البنك المركزي نحو 30 مليار دولار لدعم الشيقل تدهور عملته المحلية وفقدانها نحو 98 في المائة من قيمتها، في وقت سجل الناتج المحلي الإجمالي انكماشاً بنسبة فاقت 40 في المائة، ودفع التضخم إلى ثلاثة أرقام واستنزف ثلثي احتياطيات المصرف المركزي من العملات الأجنبية.
وبعدما كان الناتج المحلي الإجمالي يبلغ 51 مليار دولار في العام 2019، وفقاً لبيانات صندوق النقد الدولي، انخفض إلى نحو 16 ملياراً، فيما ارتفع التضخم بشكل جنوني من 7 في المائة في عام 2019 إلى أكثر من 250 في المائة هذا العام، ليكون لبنان واحداً من بين الأعلى عالمياً في معدلات التضخم.
أما احتياطيات المصرف المركزي، ففقدت نحو 25 مليار دولار بفعل محاولات التدخل لمنع تدهور الليرة ونتيجة لسياسة دعم غير مدروسة لتصل اليوم إلى نحو 8.6 مليار دولار من 33.6 مليار في العام 2019.
أما في لبنان، فالوضع أسوأ بكثير مما هو عليه في اسرائيل ومصر، مع تدهور عملته المحلية وفقدانها نحو 98 في المئة من قيمتها في وقت سجّل الناتج المحلي الإجمالي انكماشاً بنسبة فاقت 40 في المئة ودفع التضخّم الى ثلاثة أرقام واستنزف ثلثَيء احتياطات المصرف المركزي من العملات المحلية. يضاف الى هذا كله، أن لبنان يعاني انهياراً في قطاعه الصحي، إذ يعجز عن توفير أدنى مقومات الرعاية الصحية، وإن أعلن وزير الصحة اللبناني فراس الأبيض، منذ أيام عن إجراءات لرفع جاهزية القطاع تحسباً لأي تصعيد عسكري. فموازنة وزارة الصحة لم تتعدَّ 35 مليون دولار فيما كانت تبلغ نحو 400 مليون دولار قبل الأزمة في 2019، في حين يواجه القطاع هجرة كوادر ومشكلات عميقة تتعلق بالأدوية والمستلزمات.
ويفاقم الوضع سوءاً أن لبنان يستضيف نحو مليوني نازح وسط أزمته الاقتصادية الحادة .يعيش اللبنانيون الذين يمرون بإحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية في العالم، حالة قلق عارمة جراء الخوف من اندلاع حرب جديدة مع إسرائيل، خصوصاً أن التداعيات الكارثية لحرب تموز (يوليو) 2006 لا تزال حية في أذهان كثيرين منهم، وسط عدم قدرة لبنان على تحمّل حرب جديدة وهو الغارق في أزمة اقتصادية ونقدية ومالية مركّبة وعميقة تفاقمت بفعل تحلل مؤسساته، وسط فراغ في رئاسة الجمهورية منذ تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي وحكومة شبه مشلولة وفراغ في موقع نقدي حساس هو حاكمية مصرف لبنان.
ويبقى الأخطر: الخوف من قصف مطار بيروت بعد قصف اسرائيل مطارَيْ دمشق وحلب وإخراجهما من الخدمة. لذا قرّرت شركة «طيران الشرق الأوسط» اللبنانية (الميدل إيست) أن تجلي 10 طائرات إلى قبرص وتركيا وعمان وقطر فقط. على أن يوضع العدد الأكبر في قبرص مع إمكان إجلاء بعض الطائرات إلى عمان، على أن يبقى في مطار بيروت 7 طائرات لتأمين الرحلات. وتخفيفاً لهذا الخوف الذي ينتاب الجميع، أكدّ رئيس مجلس إدارة شركة «طيران الشرق الأوسط» محمد الحوت، في حديث تلفزيوني، أنّه «لا توجد لدينا معلومات حول استهداف المطار في لبنان وكل المعطيات التي وصلتنا تؤكد أن التصعيد جنوباً سيبقى ضمن قواعد الاشتباك”. كما أشار الحوت إلى أنه “تلقينا إشارة إلغاء التأمين وبدأ يسري مفعولها أن شركات تأمين سمحت لنا بتسيير رحلات مع خفض التأمين بقيمة 80 في المائة. أطمئن ألا معلومات أمنيّة تشير إلى ضربة للمطار أو للبنان، وسيتمّ إلغاء أكثر من نصف رحلات الشركة، ولكن أولويّتنا أن نؤمّن استمرار التواصل بين لبنان والخارج”.