مروّجة أدوية … الإقناع ليس سهلاً
الموضوع الذي نشرناه قبل فترة بعنوان “بعض العقاقير تبقى صالحة 15 سنة”، خلاف ما تدّعيه شركات الأدوية بتحديدها للعقار فترة زمنيّة معيّنة لا تتعدّى الثلاث سنوات كي يبقى صالحًا، وعلى أن يُرمى في سلة القمامة بعد انتهاء موعد هذه الصلاحية، (والتفاصيل الكاملة عن هذا البحث يجدها القارئ في العودة إلى المقال المنشور في الموقع)، دفعت د. غالب خلايلي (الاختصاصي في طبّ الأطفال) والأديب الكاتب في عدّة دوريات علميّة وطبيّة وتأمينيّة وأدبيّة، بينها “تأمين ومصارف” و”طبيبك”، إلى تزويدنا بالمقال المُرفق الذي يسرد فيه ذكريات عن بدايات ممارسته الطبّ وما اكتشفه في أثناء هذه الممارسة خلال تعامله مع مندوبي شركات الأدوية..
في ما يلي نصّ المقال..
بقلم د. غالب خلايلي
خلال ممارستي الطبية على مدى ثلاثة عقود ونيف، تعرّفت إلى عدد يصعب إحصاؤه من مروّجي الأدوية (والحليب، بصفتي طبيب أطفال) (وهم من يُسمَّون المندوبين Medical Rep)، وهؤلاء في النهاية، مهما تفانَوا أو تهاونوا، وتعرّضوا للمدح أو للقدح، بشرٌ مثلنا يسعَون وراء رزقهم، كلّ بما وهبه الله من صفات تحبّب به أو تنفّر، وبما في جعبته من أدوية مفيدة مرغوبة (فما أسعده)، أو قليلة الاستعمال غير مطلوبة (فما أتعسه).
تجربتي الأولى معهم كانت خديجة (مبكّرة جداً) حتى قبل أن أقبضَ على سرّ واحد من أسرار المهنة، أو أتلقى درساً واحداً في علم الأدوية الضخم، حيثُ رحت، بدافع شخصي، أتدرّب في صيف سنتي الثانية في مستشفىً غير مخصّص للتدريب، لكنه يتغاضى عن أمثالنا. كنتُ أدهش لكلّ حركة من طبيب الإسعاف الأشيب (مثلي الآن) الذي بدا لي أنه يمارس طقساً من طقوس السحر وهو يقول على السجيّة: هذه انفلونزا، أو تيفوئيد، ونحن (أنا الفتيّ وطالبات التمريض الغضّات) ننظر إليه بإعجاب، فيتركنا ويتوجه إلى مريض آخر، لنلحقه أو نلحق بممرّض عتيق يخيط جرحاً هنا أو يحقن دواء هناك، آملا ألا تنكسرَ الإبرة في عضلة المريض، في العهد السابق لاختراع المحقنة وحيدة الاستخدام.
أعترف أنّنا كنّا صَيْداً سهلاً لبعض مروّجي الأدوية ومروّجاتها (الذين/ اللاتي) (أقنعونا/أقنعننا) بكل يسر أن محافظ (كبسولات) المضاد الحيوي الذي عرّفنا إليه، هو الأحسن والأفضل، لنكتشف (متأخرين جدا) أنه صنف عفا عليه الزمان… وقِسْ على ذلك.
وفي مرحلة أكثرَ تطوراً زارنا في مدرج كلية الطب الكبير (وكنا مئات) موظفو شركات أدوية محلية وعالمية (في العهد الذي سبق حظر كل شيء)، وكانوا بأناقتهم الشكلية واللفظية يخرقون عقولنا الغضّة، إذ نفرح بأكياس الدواء التي حمّلونا إياها، إلى درجة أننا رحنا نسعى بأرجلنا إلى مكاتبهم في الأحياء الدمشقية الراقية (الغالية بالطبع)، كي ننهلَ من (علمهم)، ونحمل أدويتهم في أكياس جميلة ترافقها دعايات جذابة، وهنا لا بدّ من اعتراف بالجميل إلى أننا وسط زحام المعلومات الدعائية تعرّفنا إلى أشياء مفيدة ما زالت تسعفنا حتى اليوم.
بعد تخرجي وعملي في مستشفىً خليجي كبير، استمرّت آلية التعريف بالأدوية والحليب عبر مندوبين، كان دخولهم إلى الأطباء في تسعينيّات القرن العشرين سهلاً (لم يعرف وقتها الترصّد والمنع)، وكان الحصاد وفيراً من أدوية وعلب حليب وهدايا بسيطة (مثل ساعات الحائط أو المفكّرات والأقلام..)، ليتطوّر الأمر إلى الوجبات البسيطة بعد المحاضرات (شاي، قهوة، كرواسان)، ثم إلى الكنافة بالجبن البرتقالية الساخنة مع المشروبات الغازية المثلجة، تلك التي أحدثت حالة مستعصية من إدمان الكنافة والكولا، فصارتا الطلب المفضل عند الأطباء (والرّهط المحيط بهم) في كل محاضرة.
في تلك الأيام المأسوف على شبابها، كانت المؤتمرات الطبية بلا مقابل، فكان من يستطيع الالتحاق (تبعاً لوقت فراغه) يلتحق. كنتُ أذهب بعد انتهاء المناوبة الساخنة، أقود سيارتي مغالباً تعبي ونعاسي إلى مدينة أخرى ناهضة كي ألحقَ بمؤتمر شهيّ، ثم أعود في الليل، إذ لا تُوفَّر (المنامة الفندقية باهظة الكلفة) إلا لكبار (المفيدين) على حساب شركات الدواء. كانت المنبّهات وبعض الطعام الخفيف مجانية، إلى أن أتى وقت صار كل شيء فيه بحساب، وصارت للحضور ساعات لا يجدّد الترخيص من دونها، فنشأ (علمٌ) يدعى “صناعة المؤتمرات”، تلعب شركات الدواء دوراً رئيساً به، فيما يلعب الصنّاع دورهم في استقدام هذا واستبعاد ذاك، تبعاً لمواصفات يعجز عن معرفتها إلا الثقات. صارت بعض المؤتمرات ظواهر كرنفالية أكثر منها علمية، وصار يدعى إليها كل راغب بسياحة محلية أو خارجية، وقضاء وقت ممتع (وعائلته) في فندق فاخر، علماً أن العلم موجود لمن يريد، حتى بعد الظهر الذي يشهد حضوراً قليلاً ينام أغلب من فيه، بعد غداء ثقيلٍ دسِم، ليغفو حتى الصاحي لتوّه غصباً عنه مع محاضر خفيض الصوت رتيب النبرة وكأنه مختصّ بالتنويم المغناطيسي.
أعترف أن قوة الدعاية والدعوات ازدادت أواخر القرن العشرين، بعد افتتاح عيادة خاصة شهدت إقبالاً، حتى بات بإمكاني أن أفتح مخزناً لعلب لحليب، مع صعوبة أن أجد من يقبلها هدية (تخيّلوا الترف والبطر). علب الدواء بأنواعه سدّت كل حاجة. الدعوات إلى المؤتمرات جاهزة دوماً، مع أن ضغط العمل لم يكن يسمح بمثل هذا الرّفاه. وهناك أمور أعفّ عن ذكرها، تعرضُها بعض الشركات، أو يطلبها بعض (إخوتنا) بعين قوية، ليتحول المقياس الرئيس في الدعوات من العلم إلى مقدار الفائدة المتحقّقة أو المرجوّة من هذا أو ذاك. شيء يشبه تصرّف القطط التي تقيس بدقّة ميكرونية (بشواربها) أي فتحة تريد عبورها، فيصبح الهمّ كله في تغذية تلك الشوارب (خشية قصّها على حين غرة).
لم يدم الحال على ما هو عليه، إذ تدهورت الأوضاع (لاسيما في سنة كوفيد 19)، التي خيمت بظلالها الكئيبة على كل شيء (عدا عالم الأونلاين)، حتى صارت رؤية مندوب طبي أو علبة دواء أو حليب أمراً ممكناً، لكن في المنام، فإذا اقتضى الكرم علبةً (يتهافت عليها المحتاجون) بات على الطبيب أن يوقع صك استلام ورقياً أو إلكترونياً، إذ تدهورت الثقة إلى أسفل سافلين.
هل مات العلم والعالم؟ لا، بالتأكيد، وإن حدثت مشاكل وقلاقل، فما زال بعض شركات الأدوية من أكبر الرابحين، بل من أكبر حيتان الاقتصاد التي تبلع بلا هوادة. لكن الذي تدهور بالتأكيد هو الأخلاق، بدليل خفايا ما زالت تحدث هنا وهناك، فترى هزيل فكرٍ ينعم بالعطايا ويسوح، فيما توزّع على بعض الباقين أقلام (لا تصلح للكتابة) وابتسامات اصطناعية، ليترك السواد الأعظم حتى بلا مصاصات أو لهّايات!، ولا زيارات (للاستطلاع) أو زيارات مجاملة تحيي الود القديم، وتستذكر الخبز والملح.
والحال هذه، وإن تقمّص بعض المعنيين الدور وأتقنه أكثر من الأصل (فترشح للصعود)، إلا أننا لا نغمط حقّ كثير من إخوتنا وأخواتنا المعانين والمعانيات بصمتٍ عجيب، عندما يقعون بين فكّين قاسيين مفترسين: الأول من فئة المتطلّبين منا، والثاني من جهة المسوّقين، يحاولون العيش بتوليفةٍ حكيمة تحفظ ماء الوجه، في مفرمة الحياة التي لا ترحم.