د. غالب خلايلي (١)
هل تختلف الحال بين يوم وليلة؟ لا بالتأكيد، إلا ما ندر، كما في الحوادث المفجعة، الطبيعية أو المفتعلة، وقانا الله شرّها جميعاً، لكنّه الرقم هو الذي يتغيّر جذرياً وخاصة في ليلة رأس السنة، فننتقل من عام إلى عام، في مناسبة يبرز اهتمام كثير من الناس بها، كلّ على طريقته، الغريبة أحياناً، يحدوهم الأمل جميعاً – وسط التخبّط العالمي والتنبّؤات المرعبة – بأيام أحلى.
آخر مريض في العام الذي مضى 2019. في الواحدة ظهراً، لحظةَ انتهاء عملي في العيادة، اتصل أب بريطاني من فندق قريب، حصل على عنواني من الشابكة (النت)، وسأل إن كان بإمكانه القدوم ورؤيتي دون تأخير، بسبب ورم مفاجئ في خدّ طفله، وأجبتُه مثلما أجيب كل مرضاي دائماً: على الرحب والسعة.
كان مريضان آخران قد اتصلا قبلَه يبحثان عن طبيب في اليوم (العصيب)، وبالفعل حضرا، أحدهما أكله الخوف بسبب ألم في مفصل الفخذ زار معه ثلاثة مستشفيات، وبدا أنه – لسوء التواصل – لم يفهم ما حدث، والثاني وليدٌ يزرقّ إذ يتوقّف نَفَسُه مراتٍ يومياً منذ أسبوع. عندما انتهيت منهما، كان رجل أوربي أشقرُ طويلٌ عريضُ المنكبين، ينتظر وبرفقته طفل بملامحَ زنجيّة غالبةٍ، أخذها من والدته وجدّته الإفريقيّتَيْن الحاضرتَيْن معه. لن أتحدّث عن المرض، ولكني سأتحدث عن ابن أربع السنوات، الذي بادرني بالتحية العربية، دون لكنة: مرحباً. سررتُ جداً، علماً أن الولد لم يقضِ في بلادنا سوى يومين، وتذكّرت أبناء جلدتنا الذين يصرّون على مقولة (Say Hellow to Doctor) لأولادهم. وفي ختام الزيارة سألني الطفل عن عدة كلمات كيف تقال بالعربية، فقلت في نفسي: عجبي!
مساء اليوم الأخير من 2019. لم يأتِ أحدٌ إلى العيادة أو يتّصل. قضيتُ الوقت في إرسال عبارات التهنئة بالعام الجديد لعددٍ وافرٍ من الأهل والأصدقاء. بعضهم ردّ على الفور، وآخر ردّ خلال ساعات، وبعضٌ لم يردّ حتى بعد مضي عشرة أيام على العام الجديد، وهذا الـ (بعض) الأخير هو ذاته تقريباً الذي لا يردّ في أية مناسبة. الحقيقة أنني لا أيأس من استرداد أعزاء وضعوا أنفسهم في خانة القطيعة، خلافاً للذين وضعتُهم بنفسي، أو للمشغولين الذين لا يرون بريدهم، أو أولئك المهملين له، مع أن منهم من هو في قمة الإنسانية، لكنه لا يتفاعل مع الرسائل، ولو مرةً يتيمةً في العمر (بيضة الديك).
لا بد إذاً أن الناس مشغولون بالتحضير للعام الجديد، أو متيقّنون من أن أحداً لن يردّ عليهم!، فقررت قضاء الساعات الأخيرة من العام مع من بقي من أفراد العائلة، إذ إن ثلاثة أرباعهم أقام في ديارٍ بعيدة، حالهم حال كثيرين في الزمن العربي المضطرب، أو ممن أخذهم العمل وشجونه (وأستثني أهل الإسعاف) حتى في ساعة كهذه، إثباتاً للإخلاص الوظيفي (هذا الذي لن يثبت في ظروف الاستغلال، ولا تغرّنك الأضواء)، فيما بقي أصغرُهم يحضّر بجد استثنائي للامتحانات المُداهمة بعد يومين، حيث تفتح المدارس أبواب مِحنِها من جديد.
الدقيقة الأخيرة من السنة. اتصلتُ هاتفياً بعزيزٍ كلّمتهُ مكالمةً قصيرةً مهنّئاً وراجياً الله له الفرج والعافية والشفاء من الأمراض. سمعني وفهمني وكان غير قادر على الجواب، إلا بأصوات ضعيفة خشنة، بقيت تتردّد على مسامعي طيلة الليل، وبقيت أدعو الله لصاحبه بالسلامة والعافية.
الاحتفالات والتنبؤات تملأ الشاشات. يختلف وقت دخول العام الجديد بين بلد وآخر. حشود من المراهقين الصغار والكبار، دفعت مبالغ مالية كبيرة، تنتظر في أماكن عامة الثواني الأخيرة التي تتلوها ألعاب نارية مذهلة. يبتهج هؤلاء ويتهيجون بصورة غير عادية، ويلتقطون صور السلفي مع (الألعاب) تخليداً لهذه اللحظة!. المتنبّئون والمتنبّئات يملؤون الشاشات أيضاً، ولا داعي لأن يتنبؤوا بشيء، فـ (الألعاب النارية الحقيقية) لا تتوقّف حولنا، وتتلوها – مع الأسف – حرائق خانقة لا تشبه أختها الاحتفالية، وإن كانت الأخيرة قد آذت عدداً من المحتفلين في دول العالم المختلفة. لله في خلقه شؤون!
أول مريض في العام الجديد 2020. الناس كلهم نيام، وأنا من القلّة الصاحين مبكّراً كالعادة. رتبت نفسي، حلقتُ وتعطّرت، وفتحتُ هاتفي كي أتصل بزميلٍ أصغر جار عليه الزمان، كي أطمئن عليه. فاجأني كثيراً أنه في العمل، فعادت إلى ذاكرتي ظروف الأطباء، غير العادلة أحياناً، وقد خبرت بعضها خلال عقود. في الوقت ذاته تسلمتُ رسالة قصيرة لأم تقول: “ابنتي متعبة. كلمني”. قمتُ بواجبي كما يفعل فارس نبيل، بغض النظر عن الجدوى. يكفيني ارتواء الروح والاستمتاع بشمسٍ محبّبة نادرة في كانون، واستنشاق الهواء عالليل.
مروحة بلدان. في ديار غريبة، التقى جمع (غفير) من الأبناء والأصدقاء والأحباب، واستقبلوا العام الجديد بعد ساعات من وفادته إلينا، فقاموا بما كنّا نحبّ أن نقوم به كل عام، قبل غياب أسبابه. مروحة البلدان التي توزّع فيها أهلنا واسعة، وصلوها بعد جهد وتعب ونضال وبذل مال، فاحتضنتْهم مثلما لم يحتضنْهم من كان أولى بهم. احتضنتهم بعدما رأت فيهم الشباب والجد والعلم والشهادات الموثوقة، وحتى رؤوس الأموال أحياناً، ليكونوا حاضرَها المشرق، ويكونَ أبناؤهم مستقبلَها، فيما تشتدّ العتمة في بلادنا، لغياب حتى شموعها ومدافئها في البرد والظلام.
مريض آخر المساء. اتصل بي والد يرجوني أن أرى ولده. كنت قريباً من عيادتي لسبب ما، فطلبتُ منه التوجه إليها. الاستثناء اللطيف ذلك المساء هو الموقف المجانيّ، لينحصر التفكير بالعمل، إن طال مكوثُ المريض، أو أحبّ المرء أن يقرأ أو يكتب أو يرتّب أموره، أو يجهّز لمعاملةٍ آتية لا ريب.
حمل ثقيل نزل في 2019. الأحمال كثيرة، وليس جديراً بمثلنا أن يشكو، ولا بطاقته أن تنضب، فما زالت أمامنا أشواط. أحمد الله كثيراً العام المنصرم على خلاصي من حملٍ (وظيفي) ثقيل، بعد طول عناء، لأستنشق هواء صافياً لم يعكّره ضبابٌ أو دخان، متناسياً أن حملا، يعلم الله ما هو، سيأتي بالتأكيد.
وها هي ذي الصباحات والمساءات تتوالى، بإبهارها الطارئ، أو برتابتها وحضورها الباهت أحياناً، مثل طاحونة قديمة تآلف الطحّان مع أصواتها، والسلامة هي أقصى أمانيّه.
بعد عامين (أواخر 2021). تبدّلات كبيرة، بعضها فاجع، حصلت في عامين. فقدتُ الأعزّ أوائل 2020، والدتي رحمها الله، وفقد العالم أعزاء في داء لعين. قمتُ بعمل جراحي كبير ناجح صيف 2021 بحمد لله. كل ما سبق من خواطر هو هو تقريباً في عالم مشتعل. زميل بيروتي كبير كتب لي بمناسبة العام الجديد: (أعاده الله عليك وعلى العائلة بظروف أقل مأساوية على دولنا التي حكم عليها الواقع أن تظلّ أسيرة أوضاع يبدو صعباً الفكاك منها، وإلى حدّ اليأس)
الأمل، الأمل، الأمل، دمتم بخير.