د. خلايلي في زيارة سابقة للعلاّمة ابراهيم حقّي تبادل كلّ منهما مؤلّفات الآخر
كتب د. غالب خلايلي
تأخرتْ زيارتي إلى مدينة الياسمين، دمشق الفيحاء، سنتين، أولاهما سنة كوفيد ١٩ العصيبة، وثانيتهما سنة الجراحة القلبية التي خضعتُ لها صيف ٢٠٢١.
والحق أنني أكثر ما افتقدتُ في سنوات الغياب هو لقاء أستاذي علاّمة دمشق وحكيمها الأستاذ الدكتور إبراهيم حقي رعاه الله، الذي كان لي (ولكل محيطه) المثل الأعلى لأحلى الصفات وأجملها، من الحكمة والتواضع، والعلم والأدب، والمحبة والإنسانية، والفهم لكل ما يجري في العالم، وتوقّد الذهن وهو يُشعل الشمعة الثانية بعد المئة، أمدّ الله في عمره، وألبسه ثوب العافية. وإن أنسَ لا أنسى متابعته الأبوية لي (وولده الدكتور منقذ) أثناء مرضي التي مسّت شغاف قلبي، وتبقى ما حييت.
مساء الثلاثاء ٣١ أيار (مايو) ٢٠٢٢، تشرفت بزيارة أولى للأستاذ حقي بعد نحو أربع وعشرين ساعة من وصولي إلى دمشق، ترافقني زوجتي التي تعدّ حكيم الشام وفيلسوفها أباها (كانت هناك زيارة ثانية مساء السبت ١١ حزيران (يونيو) ٢٠٢٢، وحضر كلا اللقاءين نجل الأستاذ الدكتور منقذ، وابنته الدكتورة نبل).
وكم سعدتُ بإهدائي كتابين: أولهما (رحلة الشتاء والصيف) الذي يتضمّن كل الرسائل التي كتبها أستاذنا لصديقه في كلية الطب راتب كحالة يوم زار محافظتَيْ الجزيرة ودير الزور صيف ١٩٤٤ وشتاء ١٩٤٥ في رحلة لعلاج الآفات السارية هناك لاسيما البرداء (الملاريا)، وفيها يظهر الأسلوب الأدبي الساخر أقصى حدود السخرية أحيانا، راسماً مظاهر التأخُّر والأسى في تلك المِنطَقة، والتي وثّقها في روايته (الجزيرة الباكية).
أما الكتاب الثاني والأهم والذي يصح أن نطلق عليه اسم الموسوعة، فهو المشار إليه في العنوان (سيرة مواطن دمشقي في القرن العشرين)، المؤلف من ١١٠٠ صفحة من القطع الكبير، في جزأين مجلَدَيْن تجليدا فاخرا، يعرض فيهما الأستاذ كل صغيرة وكبيرة مرّتْ به وعاشها في مسيرة حياته الغنية بالأحداث الجسام، ويوثق كل ذلك بدقة عالية مدهشة، بأسلوبه الرفيع، وصدقه المتناهي الذي لا يتوانى فيه عن قول الحق، مهما بلغ من الألم، وكأن الأستاذ، وهو الجراح النسائي العظيم، يضع مشرطه في مواضع المرض والألم، يبتغي الإصلاح، فينجح دون شك في التشخيص، ومن ثم في العلاج ما كان الأمر بيده واستطاعته، إذ يبقى في النهاية ما أشار إليه المتنبي، وهو أنه (ما كل ما يتمنى المرء يدركه).
* * *
يبدأ الكتاب بالتعريف بالأسرة الدمشقية التي قطنت في حي القنوات العريق، والولادة عام ١٩٢٠، لأب دمشقي وأم حلبية، والمدارس التي درس بها الأستاذ ومنها مدرسة التجهيز في حلب التي توسّعتْ لاحقا وسُميت ثانوية المأمون، ومدرسة التجهيز في الشام التي تحوّلت لاحقا إلى مدرستَيْ ابن خلدون وجودت الهاشمي، وتراه يوثِّق دقائق التعليم في الأيام الغابرة، ويبدو لنا بالمقارنة مع الزمن التالي كم كان التعليم وقتها غنيا وحازما بما لا يُقاس، فخرّج رجالا بحق وحقيق، أثرياء بالعلم والمعرفة.
بعد ذلك يحدثنا عن دراسته الطب في المعهد الطبي العربي في الجامعة السورية وتخرجه عام ١٩٤٦، ثم عن خدمة العلم، ومتابعة الاختصاص في جنيف وباريس عامَيْ ١٩٥٧ و ١٩٥٨، ثم عن عمله في قسم التوليد ورئاسته له، ثم تسلّمه عمادة كلية الطب بجامعة دمشق ١٩٧١، ورئاسته لأطباء مشافي كلية الطب، ثم انتخابه نقيبا لأطباء دمشق، فرئيسا لجمعية المولدين والنسائيين السورية، فرئيسا للمجلس العلمي في اختصاص التوليد وأمراض النساء (البورد العربي)، ورئيسا للرابطة العربية لجمعيات اختصاصيي أمراض النساء والتوليد، وبالروح الناقد ذاته واضعا كل الوثائق والصور أمام عين القارئ، لينتقل بعدها إلى الحديث عن جمعية (السمات الإنسانية للعلم والعمل في بلاد الشام) التي نظم الأستاذ مؤتمراتها وترأسها، ليصف بعد ذلك عمله في العيادة والمشافي الخاصة، ذاكرا فصلا خاصا عن تأسيسه، وعدد من الشركاء، مستشفى دار الشفاء الجديد بدمشق، ورئاسته له، ثم عن عمله في الموسوعة العربية في دمشق، ورئاسته القسم الطبي (بعد وفاة رئيسه الأول الأستاذ الدكتور عدنان تكريتي رحمه الله عام ٢٠١١)، ليبقى رئيسا له حتى ٢٠١٧.
ويفرد الأستاذ بعدئذ فصلاً للحديث عن زوجته رمزية الأميري رحمها الله، والتي أنجبت له خير الأبناء والبنات، وتركته مبكرًا (٢٠٠٩)، مخلّفةً في نفسه أعظم الأثر.
والسؤال الآن: هل يمكن إجمال موسوعة غنية بمقال؟
كم يكون هذا صعبا، لكن يمكن القول: إن الموسوعة هي أصدق تأريخ وأجرؤه لدمشق في القرن العشرين والعقدَيْن الأوّلَيْن من القرن الحادي والعشرين، وإن الأستاذ حقي، متعه الله بالعافية، امتلك مبكرا جدا ناصية الأدب الرفيع وأخص الساخر منه، ناهيك عن الطب، كما كشف لنا موهبة شعرية بقيت مختفية عمرا طويلا، وفيها من السخرية أيضا الشيء الكثير.
ويمكنني القول: إن الله منح الشام إبراهيم حقي واحدا يصعب تكراره، مثلما منح مثلا ابن النفيس، والواضح أن الأستاذ حقي أدرك (بالشعور وربما باللاشعور) منذ نعومة أظفاره أنه مجنّد لهذه المهمة العظيمة، فأنتج لنا علما وأدبا وتاريخا وفلسفة وكتبا في الأخلاق يصعب على أحد آخر أن يُنجزَها.
في نهاية الموسوعة يُعبّر الأستاذ حقي عن ألمه الشديد لما آلت إليه دمشق، في ظروفها العسيرة، ومن إحباط أهلها الذي (لم يسبق له مثيل في التاريخ)، راجيا من المولى عزّ وجل أن يعيدها إلى سابق عهدها منارة للشرق، وبدوري أرجو ذلك، مثلما أرجو للأستاذ وأهله كل خير وصحة وعافية وسؤدد.
(دمشق في ١٩ حزيران ٢٠٢٢)