عادل جبر يقدّم درعًا تكريمية للرئيس الفخري شارل دحداح
الأزمة الاقتصاديّة والاجتماعية (والسياسية طبعًا) التي يعيشها لبنان، وصَلَت إلى جامعة القديس يوسف USJ، مع اتّخاذ الإدارة قرارًا لا رجوع عنه بقفل أبواب المعهد العالي لعلوم الضمان ISSA بعد ما يقارب الـ 45 عامًا من الجهود التعليميّة والتطويريّة التي أثمرت تخرّج العشرات من الاختصاصيّين في التأمين ساهموا، على مدار السنوات الماضية، في تجديد دماء هذا القطاع، ليس في لبنان وحده وإنّما في عددٍ من الدول العربيّة التي كانت بحاجة ماسة إلى كوادر متخصّصة في هذا الميدان.
وعلى ما يبدو، فإنّ قرار قَفل أبواب المعهد، اتُّخذ العام الماضي، عندما تبلّغت مديرة المعهد د. إيرما مجدلاني وبعض القيّمين على ISSA من إداريّين وأساتذة، قرار التوقّف عن قبول طلاّب جُدد للسنة الدراسيّة الأولى هذا العام. وبالفعل، تمنّعت الإدارة عن تسجيل اسماء المتقدّمين لنَيْل الشهادة الجامعيّة في هذا الاختصاص والمُحدّد بثلاث سنوات تدريسيّة يمكن الطالب بعد نَيْله الإجازة، أن يتحضّر لشهادة “الماستر”.
لكنّ المفاجأة حصلت قبل أيّام، عندما تلقّى القيّمون على المعهد قرارًا بضرورة الاستعجال في إنهاء التدريس هذا العام، ومن يرغب في متابعة “الماستر”، فيمكنه ذلك العام المقبل.
إلى هنا بقيت الأمور في نطاقها المقبول لأنّ جامعة كالـ USJ لها الحقّ في أن تقرّر ما تشاء بالنسبة للفروع لا سيما إذا كان هذا الفرع يشكّل عبئًا عليها. ولكن ما لم يكن مقبولاً هو ما حَصَل عندما “غُزِيَ” الطابقان المخصّصان للمعهد، وهما الخامس والسادس من أحد مباني الجامعة، وبدأ من تولّى تنفيذ إخلاء مكاتب وصالات الطبقتَيْن وتفريغها، باعتماد “الغُزاة” أسلوبًا لا يليق بجامعة، أيًّا تكن هذه الجامعة، فكيف إذا كانت جامعة القديس يوسف ذات التاريخ العريق بالثقافة والحضارة والقِيَم والكياسة والصدق في التعامل، إذ أنّ الأسلوب الذي اتّبع شبّهه البعض ب،، “غزوات” القرون الماضية، إذ تمّ نقل الأثاث والطاولات وأجهزة الكمبيوتر وسواها بطريقة عشوائيّة وغير حضاريّة كي لا نقول كلمة أخرى، تحضيرًا لتسليم الطابقَيْن لفرعَيْن آخرَيْن في الجامعة ولو على حساب هذا المعهد الذي كان موضع احترام وتقدير شركات التأمين اللبنانيّة والعربية وحتّى العالميّة، والذي بفضله تمكّن مديران من الذين تناوبوا عليه هما المرحوم شارل دحداح والمحامي نادي جزار بأن يترأّسا منظمة AIEFFA المعنيّة بمعاهد تعليم الضمان الناطقة بالفرنسية، علمًا أنّ أوّل من أسّس هذه المنظمة وترأّسها هو المحامي دحداح، ليخلفَه المحامي جزّار رئيسًا عليها منذ العام 2011 ولا يزال حتى اليوم. ويأتي هذا القرار “التعسّفي”، كما وصفه البعض، في وقتٍ طالب فيه متحاورون في إحدى الندوات التي أقامها الاتحاد العام العربي للتأمين، افتراضيًا، بإنشاء العديد من هذه المعاهد لأنّ الوطن العربي بحاجة ماسة إلى اختصاصيّين كفوئين لتولي المهمّات القياديّة في شركات التأمبن في الدول العربية. وفي تلك الندوة المذكورة، كانت هناك لفتة إلى معهد ISSA والخدمات التي قدّمها في مجال تفعيل العمل التأميني وتعزيزه، علمًا أنّ أمين عام الـ GAIF، السيد شكيب أبو زيد، هو أحد الذين درّسوا في هذا المعهد وساهم في تخريج العديد من الكفاءات.
ومع قرار إقفال إبواب هذا المعهد، تُطوى صفحة مُشرقة عن قطاع التأمين اللبناني الذي توهّج ونما وذاع صيته بفضل هذا المعهد الذي تخرّج منه العشرات والتحقوا بمؤسّسات تأمينيّة تحوّلت من شركات عائليّة إلى شركات تعتمد الحوكمة وتواكب التطوّرات ولا سيما التكنولوجيّة منها، إذ أنّ معهد ISSA كان يُدرّس المادة النظريّة ويركّز على الناحية العملية. ومن هنا نجاحه في الارتقاء والوصول إلى القمّة.
قصّة هذا المعهد تحتاج إلى إعادة تذكير بالبدايات. ففي العام 1977، وبتعاون بين جامعة القديس يوسف وجمعية شركات الضمان ACAL، تمّ تأسيس مركز علوم الضمان CEA الذي ترأّسه، آنذاك، المرحوم المحامي شارل دحداح وبقي على رأسه حنى العام 2000 عندما تحوّل إلى معهدٍ عالٍ لعلوم الضمان ISSA وتسلّمه رفيق درب الدحداح المحامي نادي جزار الذي عَرِف الفقيد عن كثب وخَبِر كفاءته وألمعيّته وبُعد نظره لمادتَيْ القانون والتشريع خصوصًا في الجانب التأميني. وقد تجسّد هذا التعاون بين الاثنَيْن في مركز CEA أوّلاً الذي علّم فيه الثاني ومن تمّ في إنشائهما الجمعية اللبناني لحقوق الضمان ALDA، وصولاً إلى انخراطهما في الجمعية الدولية لمعاهد تعليم الضمان الناطقة بالفرنسيّة AIEFFA، التي أسّسها الأوّل وترأسّها ومن ثمّ خلَفَه الثاني رئيسًا عليها قبل عشر سنوات ولا يزال.
ما يجدر ذكره أن شارل دحداح كان من المجلّين في مهنة المحاماة، ولا سيّما في الجانبَيْن التأميني والنقل، وبسبب ذلك أنشأ في أواخر الستينات مع أخيه الخبير الدولي في التأمين أيضاً جو دحداح، مجلة ناطقة بالفرنسية حملَت إسم “Assurances- Banques- Transports” عُدّت الأرقى مستوى وفائدة في اختصاصها، ليس على المستويَيْن اللبناني والعربي وإنمّا عالمياً أيضاً، بدليل أنها كانت مرجعاً أساسياً لكلّ مَن يريد العودة إلى قوانين الضمان والأحكام القضائية والإجتهادات الصادرة عن وزارة العدل. ولكن مع الأسف توقّفت هذه المجلة عن الصدور مع اندلاع الحرب اللبنانية ليتابع شارل دحداح سعيه إلى إغناء المكتبة التأمينية بإصداره كتاباً، عُدّ هو الآخر مرجعاً في التشريع، عَرَضَ فيه أحدث الإجتهادات في حقل الضمان.
ولأنه عشق العمل التأميني وتابعه بشكل حثيث وجدّي، فقد كان من البديهي أن يتسلّم مركز علوم الضمان CEA، وأن يجعله واحداً من معاهد التعليم الرائدة في هذا المجال، في وقت كان تدريس هذا الإختصاص لا يزال في بداياته. ويشهد خبراء التأمين في لبنان من الجيل المخضرم على الإنجازات الكبيرة التي حقّقها دحداح في هذا المركز، ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر: رئيس أكال الأسبق أسعد ميرزا الذي تلّقى علومه في CEA، وكان من الرعيل الأول، ومنهم أيضاً: الرئيس الأسبق لـLIBS وFMBA ايلي زيادة، رئيس “أكال” السابق ايلي طربيه، رئيس LIBS السابق ايلي حنا والأمين العام لجمعية شركات الضمان جميل حرب، وغيرهم وغيرهم من روّاد هذ القطاع.
أهميّة مركز CEA، إلى جانب الشهادات التي كان يمنحها للمتخرّجين، أنه تعاقد مع شخصيات تأمينيّة رائدة في القطاع، منهم: أنطوان واكيم الذي أدار من بين ما أدار شركة SNA، راشد راشد الخبير الأكتواري في شركة فيكتوار، أنطوان شديد (فجر الخليج)، ريمون طعمة، ماكس زكار (صاحب شركة “كومرشيل”) الذي درّس في هذا المعهد، ثم في ISSA، مدّة عشرين عاماً وكانت المادة التي تناولها هي التأمين البحري.
واستكمالاً لهذا الطموح، تولّى دحداح في نهاية الثمانينات “الأمانة العامة للجمعية اللبنانية لحقوق الضمان” ALDA التي أُنشئت بغرض تطوير قوانين التأمين في لبنان، ليترأسها بعد ذلك في العام 1998 حتى العام 2012، ويسلّم الأمانة إلى عادل جبر، مكتفياً بلقب رئيس فخري لهذه الجمعية.
على أن المحطة الأهم التي يجب التوقّف عندها، هي تأسيس الجمعية الدولية لمعاهد تعليم الضمان الناطقة بالفرنسية AIEFFA. ويُروى في هذا المجال أنّ المحامي نادي جزّار دخل على رفيق دربه دحداح (توفّي عن 88 عامًا)، ذات يوم من العام 1985، ليتباحث معه في شأن يتعلّق بمركز CEA، فإذا بدحداح يدعو نادي جزار للجلوس ويطلب منه الاستماع إليه. قال له: تضجّ في رأسي فكرة رائدة يجب أن ننفذّها، ولم يدعه يستوضح، بل أردف قائلاً: يجب أن ننشئ جمعية لمعاهد تعليم الضمان الناطقة بالفرنسية، على أن تكون قاعدة لتبادل الأفكار والمناهج التعليمية ووسائل التدريس. تفاجأ جزّار بالفكرة، وقال له: لدينا مشاكل آنية عدّة للحلّ قبل أن نبحث بتأسيس جمعية من هذا النوع! نظر إليه بجدّية وقال: “لا بدّ أن ننشئ هذه الجمعية حتى لو تطلب الأمر وقتاً طويلاً”. وبالفعل أكبّ شارل دحداح، منذ ذلك اليوم، على وضع آلية لإنشاء هذه الجمعية، مستعيناً باتصالات أجراها خصوصاً مع المعاهد الفرنسية وجمعية شركات الضمان في باريس FFSA. وفي العام 1995، أي بعد عشر سنوات بالتحديد، أبصرت هذه الجمعية النور وحملَت إسم AIEFFA. وتقديراً للجهود التي بذلها على هذا الصعيد، انتُخب بالإجماع رئيساً لهذه الجمعية التي بقيَ على رأسها خمس سنوات، وليخلفه بعد 11 سنة المحامي نادي جزّار بوصفه مديراً لمعهد ISSA. لقد كان شارل دحداح، وبحسب نادي جزار وعارفيه، صاحب نظرة رؤيوية ومناضلاً عنيداً في تنفيذ الأفكار. وأصدق دليل على هذا الكلام، ذلك الشعار الذي اعتمده ونشره في صدر كتابه وهو للملك الهولندي Guillaume le Taciturne وفيه يقول: “لا لزوم للأمل كي تبادر إلى تنفيذ ما تفكّر به، ولا لزوم، كذلك، للنجاح كي تثابر للوصل إلى ما ترمي إليه”.
مع انتهاء هذا العصر الذهبي لمعهدٍ تأمينيّ لبناني كان الفضل في إنشائه واستنساخه في الخارج لكفاءات حقوقيّة وتأمينيّة لبنانيّة، ثمّة دموع لا بدّ أن تذرف من عيون الذين واكبوا نشأة ومسيرة ونجاحات هذا المعهد الذي تقرّر شطبه ب،، “شحطة قلم”، ولسبب رخيص هو عدم تمكّنه من جني الأرباح الماديّة وكأنّ الجامعة أو أيّ فرعٍ فيها لم تعد رسالة تعليميّة بل شركة تجاريّة!
حقًّا هزُلَتْ!