مريضة تغسّل كليَتَيْها
إعداد الصيدلي انطوان مقبل
يتابع الصيدلي انطوان مقبل الكتابة عن الأدوية الجديدة التي تُطرح للبَيْع في الصيدليّات بعد حصولها على موافقة إدارة الدواء والغذاء FDA. ولأنّ شركات الأدوية في لبنان تمتنع، منذ فترة، عن استيراد ما استجدّ من عقاقير علاجيّة جديدة بسبب الأوضاع الاقتصاديّة والمالية المأزومة وانخفاض القدرة الشرائيّة مع الارتفاع الجنوني للدولار، لذا اختار الكاتب لقرّائه دواءً حديثًا يعالج الفشل الكلوي اسمه Kerendia على أمل أن يُستورد من إحدى شركات الأدوية اللبنانيّة لأهميته وحاجة مرضى الكلى إليه. فإلى التفاصيل…
مرّة جديدة أيضًا، وبسبب الظروف المؤسفة التي تمرّ بلبنان وإحجام شركات الأدوية فيه عن استيراد عقاقير جديدة، أراني مضطرًا إلى الكتابة عن جديد عن هذه الصناعة التي تُطرح في صيدليّات الدول الغربية التي كانت مصدرًا للأدوية التي تسوّق في الصيدليّات اللبنانيّة. لذا، سأتناول في هذا المقال دواءً جديدًا لعلاج أمراض الكليتَيْن والقلب المتزامنة مع مرض السكري والناتجة عنه في معظم الأحيان، سواء أكان من النوع الأوّل أو من النوع الثاني. فما هو هذا الدواء، ما هي دوافع استعماله، طريقة عمله، مميّزاته عن الأدوية المشابهة له، وغير ذلك من التفاصيل التي سنوردها في سياق هذا المقال…
يحتوي هذا الدواء الجديد واسمه Kerendia، على مادة “Finerenone” المفيدة في علاج الفشل الكلوي المزمن لأن استمرار هذا الفشل وتطوّره يؤديان إلى القصور الكلوي، وصولاً إلى أضطرار المريض للخضوع لعمليات غسيل الكليَتَيْن وحتى إلى زرعهما أو زرع واحدة منهما، كما قد يؤدّي أيضًا إلى فشَل عمل القلب والشرايين، وصولاً أيضًا إلى القصور القلبي. هذا الخلل في الكليَتَيْن والقلب يترافق في أكثر الأحيان مع وجود مرض السكري ويكون نتيجة له. لكن قبل الحديث عن هذا الدواء، فقد يكون من المستحسن تزويد القارئ ببعض المعلومات عن هذه الأمراض، ولو اضطرّرت إلى التوسّع قليلاً في التفاصيل بغية فَهْم معمّق للدواء.
إن الفشل الكلوي هو وجود خلل في عملية تنقية الدم بالطريقة الصحيحة، والتي هي إحدى وظائف الكليتَيْن الرئيسية، أي تنقيته من بعض المواد الضارة للجسم في حال بقائها فيه لمدة طويلة. وتؤدّي هذه التنقية إلى ايجاد توازن بين بعض المواد والمعادن، وبشكل خاص بين الصوديوم والبوتاسيوم، وهو توازن إذا اختلْ، أدّى إلى مضاعفات خطيرة على صحّة الإنسان، والسكري هو أحد العوامل الرئيسية في التسبّب بهذا الفشل عن طريق الحاقه الضرر بالشرايين الصغيرة الموجودة في الكليتَيْن، ما يؤدّي إلى الخلل في عملية التنقية التي تقومان به.
وتُشير الإحصاءات إلى أن ثلث عدد المصابين بالسكري، سواء من النوع الأوّل أو الثاني، يصابون بالفشل الكلوي. كما أن عدد المصابين بهذا الفشل المزمن في الولايات المتحدة وحدها يبلغ حوالى 37 مليون إنسان سواء كان السبب هو السكري أو غيره، علمًا أن هذا المرض يأتي بالدرجة التاسعة من حيث التسبّب بالوفيات.
هنا لا بد من التطرّق إلى مادة أساسية موجودة في الجسم هي مادة “Aldosterone” ودورها على مستوى الكليّتَيْن هو المحافظة على كمية معيّنة من الصوديوم في الجسم عن طريق إعادة امتصاصها من قبل الدم خلال عملية التنقية حتى لا تنخفض إلى مستويات خطيرة.
هذا في الظروف الصحية الطبيعية. أما في حال وجود خلل في عملية التنقية (أي الفشل الكلوي)، فإن عمل “Aldosterone” يؤدي إلى زيادة كمية الصوديوم في الجسم بشكل يتخطّى المستويات الطبيعية وهو ما يؤدي إلى مضاعفات، في طليعتها ارتفاع في ضغط الدم، وانخفاض في مستوى البوتاسيوم إلى ما دون المستويات الطبيعية وهو ما أشرتُ إليه سابقًا. والبوتاسيوم ضروري ويلعب أدوارًا عديدة في الجسم بينها كهرباء القلب أي إنتظام نبضاته، وغير ذلك من الأدوار. ومن المعروف أن ارتفاع ضغط الدم لفترات طويلة يؤدّي إلى إرهاق القلب، ومن ثم إلى فشل القلب والشرايين، وبعدهما إلى القصور القلبي. كذلك فالخلل في عمل الكليَتَيْن يؤدّي إلى عدم التخلّص من فائض السوائل فيُنتج عن ذلك تورُّم وانتفاخ ووذمة في بعض الأماكن (œdema) وهو ما يشكّل عبئًا كبيرًا على القلب إذ قد يؤدّي إلى إلحاق الأذى به والتسبّب بقصوره وحتى بالوفاة أحيانًا.
ويؤدّي الفشل الكلوي في ما يؤدي إليه، إلى إمكانية الإصابة بالنوبة القلبية، كما إلى الإصابة بالجلطات ولو لم تكن دائمًا قاتلة.
وتقوم مادة “Aldosterone” بوظيفتها عن طريق مستقبلات “receptors”، وتعمل مادة “Finerenone” الموجودة في الدواء على تعطيل هذه المستقبلات، ما يؤدي إلى التخفيف من فعالية “Aldosterone”. وكما قلت، فهذه الأخيرة ضرورية للجسم في الأوضاع الطبيعية، إلاّ أنه في حالات الفشل الكلوي يصبح من الضروري كبح جماحها وهو ما تقوم به “Finerenone”.
يحمل الدواء الجديد إسم “Kerendia” من إنتاج شركة Bayer العالمية، وهو متواجد في الأسواق بشكل أقراص بجرعَتَيْن: 10mg و20mg.
وبالعودة إلى مادة “Finerenone” التي يتألّف منها، فهي تنتمي إلى الأدوية المدرَّة للبول (Diuretic). وبما أن هناك عدة فئات من الأدوية المدرَّة للبول فهي تنتمي إلى عائلة المواد المضادة للـ “Aldosterone” وليس إلى عائلات أخرى من المواد المدرة للبول والتي تعمل بطرق مختلفة. وهناك مادتان من العائلة نفسها، هما “Spironolactone” و”Eplerenone” تعملان بنفس الطريقة، أتيت على ذكرهما لكي أظهر لاحقًا الفروق التي تميّز بين المواد الثلاثة.
وتلعب هذه المادة دورها في إبطاء تطوّر مرض الفشل الكلوي نحو الأسوأ لعدم وجود علاج لهذا المرض يمكن أن يؤدي إلى شفاء المريض بشكل كامل ونهائي، وعودته إلى وضعه الطبيعي. وبما أن هناك خمس مراحل للوصول إلى القصور الكلوي الكامل، فإن هذه المادة تلعب الدور الأكثر فعالية في المرحلتَيْن الثالثة والرابعة.
والجدير بالذكر أن ارتفاع ضغظ الدم يؤدي إلى جانب السكري (وعوامل أخرى أيضًا) إلى الفشل الكلوي، والذي بدوره يرفع ضغط الدم. فهناك، إذن، حلقة مفرغة، ومادة “Finerenone” تقوم بكسر هذه الحلقة بتخفيض ضغط الدم والتخلّص، كذلك، من الوذمة (oedema) وكلاهما، يرهقان القلب ويتسبّبان بقصوره.
هذا المستحضر، حاز على موافقة منظمة الغذاء والدواء FDA في تموز (يونيو) 2021. وبنيت الموافقة، حسب ما جاء في النص، على ما يلي: “لدوره في تخفيض خطر التعقيدات الكلوية والقلبية لدى الأشخاص المصابين بالفشل الكلوي المزمن والمتزامن مع مرض السكري من النوع الثاني”. ولكن هذا لا ينفي امكان حصول الفشل الكلوي نتيجة السكري من النوع الأول أيضًا، وإن كانت الحالات الناتجة من النوع الثاني قد تكون أكثر من حالات النوع الأول، نظرًا لأن النوع الثاني من السكري يصيب كبار السن (بشكل عام)، ولأن هؤلاء هم الأكثر عرضة للأمراض الكلوية.
وجاءت موافقة “FDA” بعد دراسات شملت أحداها 5674 شخصًا وصلت حدود الفشل الكلوي لديهم إلى خسارة أربعين بالمئة من وظائف الكلي وهي خسارة يمكن أن تؤدي إلى القصور الكلوي وحتى إلى الوفاة. كانت النتائج مشجّعة وأثبتت قدرة الدواء على التخفيف من معاناة المرض على مختلف المستويات، سواء على مستوى الكليتَيْن أو على مستوى القلب.
ومادة “Finerenone” هي الأولى بين مثيلاتها من نفس العائلة (والتي ذكرتها سابقًا) التي حازت على موافقة “FDA” على القيام بهذا الدور. وكانت موافقة الـ “FDA” على المادتَيْن الباقيتَيْن من العائلة نفسها، على دورهما في معالجة إرتفاع ضغط الدم، وبالتالي القصور القلبي فقط وليس على كل مشاكل الفشل الكلوي ونتائجه المتعدّدة. وهذا يسلّط الضوء على الأدوار المتعدّدة التي تقوم بها هذه المادة زيادة على المادتَيْن من الفئة ذاتها.
ومن الأسباب التي حدث بإدارة “FDA” إلى اعتمادها دون سواها كونها أكثر فاعلية، وكون المضاعفات السلبية الناتجة عن اتسعمالها هي أقل من غيرها، كمًّا ونوعًا. فالمادتان لا تتمتّعان بفاعلية موازية لفاعليتهما، كما لا تتمتّعان أيضًا بميزة تقبُّل الجسم لهما كما هي الحال بالنسبة لهذه المادة. فإحداهما فعّالة أكثر من الأخرى، إلاّ أنها تؤثّر بشكل سلبي على الهرمونات، الذكرية منها والأنثوية لدى المريض، كانتفاخ وتضخّم الصدر عند الرجال وصولاً إلى الإضرار بالقدرة الجنسية لديهم، كما إلى اضطرابات في العادة الشهرية عند النساء. والمادة الثانية التي لا تؤثّر كثيرًا على هذه الصفات الذكرية والأنثوية، لا تملك الفاعلية الكافية التي تملكها الأولى. فمادة “Finerenone” هي الوحيدة التي تجمع بين الحد المرتجى من الفاعلية وغياب الأضرار الهرمونية وغير الهرمونية.
وفي الحديث عن الأضرار غير الهرمونية تأتي بالدرجة الأولى إمكانية ارتفاع نسبة البوتاسيوم وانخفاض الصوديوم. وبما أن هدف الدواء هو نخفيض الصوديوم وزيادة البوتاسيوم، فقد يحصل في بعض الأوقات أن تتخطّى نسبة الزيادات أو النقصان المستويات المسموح بها لدى المرضى. لذا يُطلب من الذين يتناولون الدواء، إجراء فحوص دورية للبوتاسيوم والصوديوم لديهم حتى إذا ما اختلفت عن المستويات الطبيعية، قد يلجأ الطبيب إلى تخفيف جرعة الدواء. ومع هذا، فإن نسبة الزيادة في البوتاسيوم إذا حصلت هي أقل من النسب التي تحدثها باقي المواد المشابهة. ورغم إمكانية ازدياد البوتاسيوم نتيجة هذه المادة. فهي نادرًا ما تؤدي إلى نتائج خطيرة على مستوى انتظام دقات القلب (كهرباء القلب).
وقد يتساءل البعض: كيف يمكن مادة واحدة أن يكون لها هذه المميّزات من الفاعلية والأمان، والإنتقائية في عدم المس بالهرمونات الجنسية كباقي المواد من الفئة نفسها. والجواب أنها تعمل في مناطق محدّدة من الكليتَيْن والقلب والشرايين. وفي التفاصيل أنه عندما تتواجد في الجسم كميات كبيرة من “Aldosterone” فهذه الأخيرة يمكن أن تتسبّب بالتهابات وتليُّف على مستوى الكلي والقلب والشرايين، ما يؤدي إلى أضرار في هذه الأعضاء. ومادة “Finerenone” تعمل على منع “Aldosterone” في هذه المناطق من القيام بذلك، والنتيجة هي وقف الأضرار أو التخفيف منها على هذه المستويات الثلاثة. وبما أن هناك حلقة مفرغة، كما ذكرت، فإننا نفهم أهمية عمل هذه المادة في حالات الفشل الكليوي المؤدي إلى الأخطار على الكلي والقلب والشرايين وبالعودة إلى الآثار الجانبية، فهي لا تقتصر على الزيادة في البوتاسيوم والانخفاض في الصوديوم، إذ هناك عددًا من الآثار الجانبية هي الأقل حصولاً ولا مجال للخوض في تفاصيلها الآن.
وهناك أيضًا تفاعل مع بعض الأدوية الأخرى التي هي من مسؤولية الطبيب أخذها بعين الاعتبار. إلاّ أن اللافت هو التفاعل مع بعض الأطعمة والنباتات، ومنها على سبيل المثال فاكهة “Grapefruit” وعصيرها اللذان يُمنعان من المريض من تناولهما خلال العلاج، كونهما يزيدان من الآثار الجانبية الناتجة عنه. وكذلك يمنع تناول المكمِّل الغذائي المستخرج من نبات “St-John” الذي يستعمل للمعالجات النفسية، لأنه يؤدي إلى التخفيف من فعالية الدواء.
وثمة موانع للاستعمال أيضًا يأتي في طليعتها وجود نسبة من البوتاسيوم في جسم المريض أعلى من المستوى الطبيعي. وقد يحصل هذا لدى بعض المرضى المصابين بالفشل الكلوي، وكذلك وجود نسبة من الصوديوم أقل من الطبيعي. عند ذلك يُمنع المريض من استعمال الدواء. وكذلك في حال وجود بعض أمراض الكبد الخطرة.
يضاف إلى ما تقدّم، عدم جواز إعطائه لمن هم دون الثامنة عشرة من العمر. كل هذا لا ينفي وجود موانع أخرى لاستعماله يعرفها جيّدًا الأطباء.
يتواجد الدواء في الأسواق بشكل أقراص وبجرعتَيْن: 10mg و20mg، كما سبقت الإشارة. أمّا كيفيّة تناوله فهي قرص واحد يوميًا مع طعام أو بدونه، ولا فرق إذا كانت المأكولات غنية بمواد دهنية أو سكرية أم لا. وأما عن الكمية المستعملة فيعود ذلك إلى وضع المريض الصحي. ويصار إلى تحديدها بعد الأخذ بعين الاعتبار عدة عوامل منها طريقة عمل الكلي، كمية البوتاسيوم والصوديوم لديه قبل تناول الدواء، إلى غير ذلك من العوامل، على ان تُجرى المتابعة بعد الفحوص المخبرية الدورية خلال العلاج، لتعديل الجرعة في حال الضرورة. لكن بشكل عام، يبدأ العلاج بجرعات صغيرة، ثم يصار إلى زيادتها تدريجيًّا إذا لزم الأمر.
كانت هذه أهم التفاصيل المتعلّقة بهذا المستحضر من ناحية دوافع الاستعمال، طريقة عمله، مميّزاته عن الأدوية المشابهة، المحاذير الرئيسية قبل تناوله وخلال تناوله، وأخيرًا طريقة تناوله والجرعات المسموح بها.
وعلى أمل انقشاع غيوم الأزمة المالية والإقتصادية، أتمنّى وصول هذا الدواء إلى لبنان في وقت قريب كما أتمنّى وصول كل الأدوية الجديدة في العالم إلى هذا البلد الذي كان في وقت من الأوقات رائدًا في هذا المجال ومركزً لإطلاق كل جديد في عالم الأدوية، إلى باقي دول المنطقة، راجيًا أن لا يكون ذلك اليوم ببعيد.