الكبد هو المشكلة
إعداد الصيدلي أنطوان مقبل
يتابع الصيدلي أنطوان مقبل الكتابة عن الأدوية الجديدة التي تُطرح في الصيدليات اللبنانية. ولكن بسبب الظروف الحالية وعدم حماسة شركات الأدوية في لبنان، لاستيراد الجديد منها بسبب أزمة الدولار، وتوقّف الدعم، فقد استعان الكاتب في هذه الحلقة الجديدة، بدواء أُنتِجَ حديثًا وبدأ يسجّل انتشارًا في الولايات المتحدة الأميركية وفي دول الاتحاد الأوروبي. والدواء الذي يحمل إسم Bylvay، يُعالج حالة مرضية نادرة هي “الركود الصفراوي العائلي داخل الكبد”. فماذا عن هذَيْن الداء والدواء، ما الآثار الجانبية للعقار، لمن يُعطى، وهل نتائج التجارب التي حصلت عليها الشركة المُنتجة له تكفي لحمل الطمأنينة إلى من يرغب في تناوله؟ هذا ما يُجيب عنه الكاتب في الأسطر التالية…
منذ شرعتُ في تحرير هذه الزاوية، حرصتُ الإضاءة على الأدوية الجديدة التي تدخل السوق اللبنانية، وليس تلك المطروحة في الصيدليات العالمية إلا في ما ندر، أيّ عندما كان يتعذّر عليّ ايجاد دواء جديد في لبنان.
لكن الأوضاع المُزرية التي وصلنا إليها، مع الأسف، جعلتْ من الصعب على الشركات اللبنانية استيراد أدوية جديدة وتسويقها في لبنان، ما دفعني إلى خيار لم أكن اشتهيه: البحث عن أدوية متداولة في السوقَيْن الأميركي والأوروبي، بعد موافقة كلّ من منظمة الغذاء والدواء FDA ووكالة الأدوية الأوروبية EMA.
دواؤنا لهذه الحلقة يُعالج حالة مرضية نادرة هي: “الركود الصفراوي العائلي داخل الكبد”، وهو داء وراثي عائلي قد يُصيب الأطفال والكبار على حد سواء، اسمه مختصرًا: “PFIC” أيّ “Progressive familial intrahepatic cholestasis” وترجمته بالعربية:
cholestasis= ركود صفراوي.
intrahepatic= داخل الكبد.
familial= عائلي.
progressive= متدرّج أيّ يتطوّر.
أما سبب هذا الداء فخلل جيني وراثي.
لكن قبل الحديث عن الدواء الجديد، فمن المناسب إعطاء فكرة عن هذا المرض، من باب التوعية الصحّية. إن الكبد في الأوضاع الطبيعية يُفرز عصارة مُرَّة صفراء (Bile) تقوم بدور أساسي في عمليات الهضم وتنظيف الجسم من السموم. وهذه المادة تختزنها غدة المرارة وتُفرج عنها وقت حاجة الامعاء الدقيق إليها. وتتألّف العصارة المُرّة من مواد عدة، بينها احماض الصفراء (bile acids) وأملاح الصفراء (bile salts). وتتكوّن هذه الأملاح نتيجة تحوَّل قسم من الأحماض التي بدورها هي ناتجة عن التحوّلات الكيميائية للكوليسترول.
ولإسباب مُتعدّدة ومختلفة قد يتوقّف أو ينخفض تدفّق هذه العصارة إلى الجهاز الهضمي، الأمر الذي يؤدّي إلى تراكم أحماض الصفراء (bile acids) في الدورة الدموية وفي الكبد. هذا التراكم يُؤثّر بدوره، بشكل سلبي على تدفّق الصفراء (bile) باتجاه الجهاز الهضمي فتزداد المشكلة تعقيدًا. أيّ أن هناك حلقة مفرغة ينبغي كسرها في مكان ما، لأن تراكم أحماض الصفراء في الكبد من شأنه إلحاق الضرر بخلايا الكبد فلا تعود بمقدورها إفراز العصارة والنتائج، عندها، لا تخلو عندها من الخطورة. فالمرض هو متدرّج، كما تدلّ عليه الكلمة الأولى من اسمه (Progressive)، أيّ أنه يتطوّر نحو الأسوأ، وقد يصل إلى حالة القصور الكبدي التام، فإلى الوفاة.
ويتمظهر المرض بعوارض عديدة من أبرزها حكّة جلدية مزعجة “Pruritus” عصية في أكثر الأوقات على العلاجات، إضافة إلى تداعيات أخرى خطيرة في أنحاء متعدّدة من الجسم. لهذا يقوم الدواء الجديد بكسر هذه الحلقة المُقفلة في مكان معيَّن من الجهاز الهضمي.
فما هو هذا الدواء، ما هي تركيبته، طريقة عمله، وباقي التفاصيل؟ الجواب في الأسطر التالية…
إن هذا الدواء الذي تنتجُه شركة Albireo Pharma الأميركية ويحتوي مادة “odevixibat“، يُسوّق في العالم باسم “Bylvay“. وهو معروف عند البعض بأنه لمعالجة حالة الحكاك الجلدي (Prutitus) لدى المرضى الذين يعانون الركود الصفراوي العائلي المتدرِّج داخل الكبد. كذلك هو معروف عند البعض الآخر بمداواته حالة الركود الصفراوي المتدرّج داخل الكبد. أما لماذا التركيز من قبل البعض على حالة الحكّة الجلدية أو الهرش، على رغم العديد من الأمراض الأخرى التي يساهم الدواء في التخفيف منها، فلأن احماض الصفراء عندما تتكاثر في الدورة الدموية تحرّر المادة المسبّبة للحساسيةHistamine ، ومنها الحساسية الجلدية. لكن عندما تنخفض كمية هذه الأحماض (وهو ما يحقّقه الدواء)، تتراجع كمية الهيستامين فيتقلّص الحكاك.
إن هذا الدواء يُعطى للكبار والصغار بمن فيهم الرضّع الذين لم يبلغوا بعد العام الأول. وهنا يبرز فرق بسيط في استعمال الدواء بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ففي حين ينصح الأميركيون باستعماله اعتبارًا من عمر الثلاثة أشهر، ينصح الأوروبيون بتناوله بدءًا من عمر الستة أشهر.
ما يجب معرفته أن هذا الدواء يعمل في منطقة من الجهاز الهضمي تسمّى “ileum” أيّ قسم من الإمعاء الغليظ حيث يعمل الدواء على التخفيف أو منع امتصاص أحماض الصفراء من قبل الدم، وبالتالي الحؤول دون مرورها في الدورة الدموية، أو على الأقل التخفيف من وجودها في الدورة الدموية وفي الكبد، أيّ كسر الحلقة المفرغة، ما ينعكس تراجعًا في الحكّة الجلدية التي هي أول المظاهر الخارجية لهذا المرض، وكذلك في الإصابة باليرقان والتعب والكآبة، وغير ذلك، علمًا أن هذا الدواء يُعالج سبب هذه الحكّة، وبذلك، يتحسّن الوضع برمّته، بما في ذلك سائر الأعراض.
ثمة ناحية ثانية يجب التوقّف عندها، هي الركود الصفراوي خلال الحمل والذي يختلف عن الركود الصفراوي العائلي المتدرّج، موضوع هذا المقال، على رغم التشابه في الأعراض. إن هذه الأعراض تزول تلقائيًّا بعد الولادة ومن دون أن تشكّل خطرًا على الحياة، كما في الموضوع الذي تناولناه في هذه الحلقة، فاقتضى التوضيح.
بالعودة إلى الدواء، فهو الأول من نوعه لمعالجة هذا المرض العائلي المتدرّج، وابتكاره يُعدّ إنجازًا كبيرًا، لأن الطريقة الوحيدة للانقاذ كانت، حتى الأمس القريب، اللجوء إلى عملية جراحية تحسِّن تدفّق العصارة الصفراوية Bile، علمًا أنه في حال حصل القصور الكبدي الناتج عن تطوّر المرض، فإن الحلّ، على صعوبته، يكمن في إجراء زرع كبد بديل، والحالتان لا تخلوان من المخاطر. من هنا أهمية هذا الدواء الذي خضع لدراسات وتجارب عدة أثبتت فعاليته، ومن ذلك دراسة شملت إثنَيْن وستين شخصًا تراوحت أعمارهم بين ستة أشهر وثمانية عشر عامًا يعانون هذا المرض، وقد بيّنت النتائج، أنه بعد 24 أسبوعًا على تناولهم العقار، لوحظ انخفاض ملحوظ في نسبة احماض الصفراء في الدورة الدموية. وكما أسلفت، فإن أحد أهم إشارات المرض هو ارتفاع نسبة هذه الاحماض، وقد أصبح من الممكن بعد فترة الأشهر الستة، خفض الجرعات دليلاً على فعالية الدواء. إلى ذلك، لوحظ أيضًا تراجع الحكاك الجلدي والهرش وعدد آخر من الأعراض. وفي دراسة أخرى شملت 79 شخصًا تتراوح أعمارهم بين أربعة أشهر وخمسة وعشرين عامًا تناولوا هذا الدواء لمدة سنة، لوحظ انخفاض في نسبة احماض الصفراء في الدم وتحسّنٌ كبير في الحكة الجلدية واستئناف العمل في وظائف الكبد. وفي هذه الدراسة تبيَّن أيضًا تقبُّل الدواء من قبل أجسام هؤلاء المرض إذ أن الآثار الجانبية الناتجة عنه اقتصرت على بعض حالات الأسهال وبنسب معقولة. إلاّ أن هناك نقطة وَجُب التركيز عليها، وهي أن مرض الركود الصفراوي العائلي داخل الكبد هو مرض نادر، لذلك فالدراسات عنه قليلة، ولكن المعلومات المتوافرة على ندرتها دلّت على أن الدواء الجديد يستطيع إبطاء تطوّر المرض نحو الأسوأ وتأجيل العمل الجراحي إذا كان لا بد منه. يُضاف إلى ذلك، أن الآثار الجانبية الناتجة عن هذا الدواء يمكن السيطرة عليها. ولكن نظرًا لخطورة المرض وعدم وجود دواء له حتى الآن غير الجراحة، فإن “وكالة الأدوية الأوروبية” EMA، اعتبرت أن فوائد هذا الدواء أكبر من مخاطره، ولذا كانت موافقتها على استعماله في دول الاتحاد الأوروبي، ولكن “ضمن ظُروف استثنائية”، كما تقول الوكالة. ولأن دواعي استعماله هي نادرة (لأن المرض نادر)، كان من الصعب الحصول على المعلومات الكاملة عن الدواء. لذلك تقوم الوكالة بمراجعة أية معلومات جديدة تردها لتقوم بتحديث نشراتها عنه بشكل مستمر. إضافة إلى ذلك، فإن الشركة المنتجة تتابع الدراسات للوصول إلى معلومات حول نتائجه البعيدة المدى بُغية التأكُّد من فعاليته في تجنُّب العمل الجراحي أو تأجيله وإلى متى.
وكما بالنسبة لكلّ الأدوية، فإن له آثارًا جانبية وموانع استعمال وتفاعل مع أدوية أخرى، وهناك احتياطات يجب إتخاذها خلال تناوله. وفي طليعة الآثار الجانبية، الاسهال (البراز غير متماسك)، استفراغ، أوجاع في البطن، تأتي بعدها آثار جانبية أخرى تحصل عادة مع بدء العلاج، ثم لا تلبث أن تزول مع استكماله. أما إذا استمرّت، فمن الضروري وقف العلاج. أما الاحتياطات الواجب اتخاذها خلال العلاج فهي إجراء فحوص مخبرية دورية لوظائف الكبد التي يمكن أن تتأثّر بالدواء. كما أنه من الضروري إمداد الجسم ببعض الفيتامينات التي يؤدّي تناول الدواء إلى نقص في كميّتها. وبما أن الدواء ما زال جديدًا في الأسواق، وبما أن الحالة التي يُعالجها هي نادرة، فإن الآثار الجانبية وموانع الاستعمال والتفاعل مع أدوية أخرى، يُمكن أن يطرأ عليها، كلُّها، تعديلات مع مرور الوقت ومع تكاثر الأشخاص الذَيْن يتناولونه. كذلك قد تتعدّل الاحتياطات الواجب اتخاذها خلال العلاج، وهو ما قلته سابقًا.
والعقار موجود في الصيدليات (الأميركية والأوروبية) بشكل حبوب وكبسولات. ولأن طريقة تناوله والكمية المُفترض أخذها، يرتبطان بوزنه المريض، فإن الحبوب مخصّصة لمن يقلّ وزنهم عن العشرين كيلوغرامًا. أما الكبسولات فللذين تخطى وزنهم العشرين كيلوغرامًا. والحبوب نوعان: بجرعة 20mg وأخرى 60mg، أما الكبسولات فمتواجدة أيضًا بجرعتَيْن: 40mg و120mg، علمًا أن الدواء يؤخذ مرّة واحدة يوميًا في الصباح ومع الطعام، وبمعدّل حبّة 20mg لكلّ كيلوغرام واحد من وزن الطفل، ويمكن زيادتها حتى 60mg لكلّ كيلوغرام في حال لم تكن فعّالة، مع الأخذ بعين الاعتبار مدى تقبُّل المريض للدواء. وأما بالنسبة للكبسولات (أيّ للكبار) فيتمّ البدء بكبسولة تتضمّن جرعة 40mg لكلّ كيلوغرام من الوزن وزيادتها حتى 120mg في حال عدم بلوغ النتيجة المرجوة، على أن يؤخذ بعين الإعتبار أيضًا تقبُّل المريض العلاج. ويتمّ إفراغها من غلافاتها الخارجية ثم مزجها بالطعام قبل تناولها.
ومع هذه المعلومات عن طريقة تناوله هذا الدواء، أكون قد أوردت كلّ ما يمكن معرفته عن هذا العقار الجديد. ولا بدّ من القول أن ما ذكرته عن الآثار الجانبية هو جزء قد يكون الأكثر إمكانية للحدوث، إذ هناك إمكانية لحصول آثار جانبية أخرى، وخاصة مع تزايد المرضى الذين قد يُقدمون على تناوله. وهذا يشمل كلّ المعلومات المتعلّقة به. لذلك فالحذر واجب في طريقة استعماله. وإذا كانت الأدوية كلّها يتمّ تناولها بإشراف أطباء اختصاصيين، فإن هذا الدواء هو من أكثر الأدوية حاجة إلى إرشادات طبيب اختصاصي، وهو ما تُشير إليه كلّ التوصيات، سواء في الولايات المتحدة أو في الاتحاد الأوروبي، وذلك بُغية الوصول إلى النتائج المرجوة بأقلّ ما يمكن من الأضرار والخسائر.