في رحلة بسيطة من بيروت إلى أوسلو العاصمة النروجيّة، استطعنا التعرّف إلى المدينة الوحيدة التي وصلت فيها نسبة الوفيات، بسبب حوادث السير في العام 2019، إلى شخصٍ واحد فقط، و110 حالات على امتداد تلك الدولة التي تفوق مساحتها مساحة لبنان بأضعاف الاضعاف.
فبغضّ النظر عن بعض أوجه الشبه بين العاصمتَيْن من حيث الطبيعة الخلاّبة وإطلالتهما معًا على المياه والجبال الجميلة التي تُسبِّح باريها، إلاّ أنّ هناك اختلافًا كبيرًا في ما يعيشه شعبا البلدَيْن: لبنان والنروج، خصوصًا في موضوع الطرقات. فبالنسبة لطرقات الأولى، فإنها مفعمة برائحة الموت ويُضطر المواطن فيها إلى أن يتعايش مع إلتواءاتها وخطورتها وسوءِ تصميمها، فيما طرقات الثانية تزهو بشوارعها ونظامها ومواصلاتها المملوءة حياة وأمانًا!
أمام هذا الاختلاف، يقف المرء حائرًا من أمره، متسائلاً عن ماهية الأسباب الرئيسية التي تقف وراء هذه الفروق الشاسعة في الطرقات وفي غير الطرقات طبعًا، ليجد بعد البحث والتدقيق، الكثير الكثير من تلك الفروق، وبخاصة عندما يسمع أنّ عدد الوفيات التي سبّبتها حوادث السير في اوسلو وحدها هو شخص واحد، بينما العدد في بيروت يكاد يصل سنويًا إلى العشرات من الضحايا، من دون احتساب المناطق الأخرى. وإذا كان النروجيون يهتفون مع نهاية كلّ عام “شكرًا للعناية الإلهية”، فإن اللبنانيين يصرخون بأعلى أصواتهم، وهم يؤبنون شهداء السير: “إنه القضاء والقدر!”.
قد يتناسى الانسان أنّ الله، عزّ وجلّ، وإلى جانب عنايتهِ الإنسان، منحه أيضًا حياةً ومنّ عليهِ عقلاً ميّزهُ بهِ عن جميع الكائنات ليُفكِّر ويُقرِّر ويواجه، ويحافظ بهِ على هبة الله له، ألا وهي “نعمة الحياة”، فأعلم أيها المواطن، أن هناك مسؤوليّة تقع عليك، ولا سيّما فيما يتعلّق بوَعْيك والتزامك تطبيق قانون السير، إذْ ما نراه يوميًّا على طرقاتنا من إهمالٍ وهمجية في القيادة ولامبالاة لقانون السير، يجعلنا ندرك مدى مسؤولية سائق المركبة.
وإذا كنّا في زمن الثورة التي ينتفض فيها المواطن على الفساد، فإن ما يجب أن يعلمه الجميع أن في طباعنا وتصرّفاتنا فسادًا، وإذا أردنا أن ننتفض، علينا أن نبدأ أوّلاً بأنفسنا، لأنّ الالتزام بقواعد السيّر والمرور أمرٌ لا يقلّل من الشأن ولا من الهيبة!
وبالطبع، هناك مسؤوليّة تقع على الدولة. فحينما ننظر إلى دولة النروج وما قامت بهِ من وضع خطط وتجهيزات تكفل حماية مواطنيها والحفاظ على سلامتهم من خلال توفير وسائل مواصلات عامة وبناء طرق حديثة، إلى جانب إلتزام المواطنين بقواعد وقوانين السير والمرور إلتزامًا تامًا، نجد أن دولتنا غائبة عن المحاسبة وتطبيق ما شرّعت من قوانين وتجاهلت من بديهيات كإنشاء بنى تحتية، وتحسين الطرقات وتطويرها وتوسيعها وصيانتها وما إلى ذلك، بعدما ورد في إحصاء مختصر نشرته غرفة التحكم المروري التابعة لقوى الامن الداخلي في لبنان، أن الحوادث التي حصلت خلال العام 2019، أدّت إلى وقوع خمسة آلاف حادث نتج عنها 487 قتيلاً و6.101 جريح. ويحتاج هذا الرقم وحده إلى حلول واستراتيجيات ملائمة للحدّ من الوفيات على الطرقات، بل يجب على المنتفضين أن يثوروا على المواطن المستهتر والذي لا يزال غير آبه بالتزام قواعد السير وضمانات السلامة العامة على الطرقات، معرّضًا نفسه وغيره لخسارة حياتهما بطريقة مؤلمة موجعة لهما معًا ولعائلاتهما من بعدهما. وما ينطبق على المواطن ينطبق مثله على سائق الأجرة والتاكسي.
مؤسس جمعية “الثواني للسلامة المرورية” النقيب السابق لخبراء السير في لبنان السيد نجيب شوفاني أطلعني في حديث أجريت معه عبر أثير راديو “أم بي أس”، على الاجراءات الواجب اتخاذها للحدّ من الخسائر البشرية الكبيرة على طرقاتنا خاصة مع وجود عواصف فصل الشتاء ومع ظاهرة إقفال الطرقات وما ينتج عن هذا الإقفال من إلزام السائقين إلى تغيير وجهات السير بشكل مفاجىء ومن دون سابق إنذار.
بداية، لا بدّ من التنويه بالدور الاساسيّ والمفيد الذي تقوم به الجمعيات التي تُعنى بالسلامة على الطرقات ومنها بل أبرزها “جمعية الثواني للسلامة المرورية” التي تميّزت عن غيرها بتخصّصها في حوادث السير، إذْ ضمّت خبراء ومطلّعين على قوانين السير وقواعده، وعلى رأسهم النقيب شوفاني الذي أغنى هذه الجمعية بخبراته الوافية ووضعها في عدة كتب هَدَفَت الى توعية السائق وتنبيهه الى أساسيات القيادة العامة.
من الأرقام التي زوّدنا بها، وقوع 13 ألف جريح خلال العام الماضي، وفق إحصاء تلقاه من الصليب الأحمر اللبناني وألف جريح حسب الدفاع المدني. وبرّر هذا التفاوت بالأرقام إلى أن الصليب الأحمر يقوم بإسعاف الجرحى والمصابين ونقلهم وتدوين أسمائهم، ولذلك تكون أرقامه دقيقة أكثر.
سألته عن جمعية الثواني للسلامة المرورية فروى لي كيف يمكن لثوانٍ معدودة ان تنقذ حياتنا وحياة الاخرين من خلال الالتزام بقواعد ووصايا معينة، أهمها:
– التحقّق من جميع المرايا بحيث تكون رؤية جوانب السيارة وما هو في الخلف واضحة، وهذا لن يتطلّب أكثر من ثوانٍ لتعديلها.
– وضع حزام الامان بإحكام، إذْ إن وجوده يحافظ على حياتنا في حالات الصدم القوية.
– التأكّد من ملاءمة مسند الرأس، لأنه يُعتبر من أدوات الأمان الاساسية فيها، ومهمته حمايه عنق السائق ورأسه في أثناء الصدمات.
– إستعمال المثلث الضوئي ووضعه على بُعد أمتار من السيارة عند حصول الحادث أم عند توقفها، جراء عطل ميكانيكي حيث أن وضعه على الطريق لا يتطلب سوى ثوانٍ فقط، ولكن فعاليته تقدّم لنا حياة كاملة.
– إرتداء السترات الصفر لتنبيه السيارات الأخرى إلى مكان وجودنا وحمايتنا من الاصطدام.
– التزام قانون السير والقيادة ضمن السرعة المسموحة، عدم إستعمال الخليوي بتاتًا، والتقيّد باشارات السيّر. هذه كلّها من الاساسيات لتفادي حوادث السير، وبالتالي التقليل من عدد الاصابات.
وخلال الحديث تطرقنا إلى بعض التنبيهات الواجب إتخاذها خلال فصل الشتاء. وبهذا الصدد، شدّد النقيب شوفاني على ضرورة القيام بفحص إطارات السيارة، والتحقّق من عمل المسّاحات بشكل جيد، واعتماد أقصى اليمين في القيادة في حالة العواصف والثلوج مع ترك مسافة جيدة بين السيارات لتفادي الانزلاق والتزحيط.
سألته عن القيادة عكس وجهة السير خلال التظاهرات بسبب إقفال الطرق، وعما إذا كان الحادث مغطى من شركات التأمين في حال وقوعه نتيجة سلوكنا هذا المسلك، فأجاب: “أنّه في بعض الحالات المعيّنة وإذا كان لا بدّ من سلوك طريق عكس وجهة السير، وخاصةً عندما لا تكون هناك توجيهات من قبل قوى الأمن الداخلي، يمكننا اعتماد هذا الخيار في حال لم يكن هناك خيارٌ آخر أو طريق ثانٍ يمكن سلوكه، شرط إضاءة غمازات الإشارة في سيارتنا لتنبيه السيارات الاخرى المتجهة في طريقها مع إعطائها أفضلية المرور لأنها على مسلكها الصحيح.
وفي نهاية حديثنا، تطرّق النقيب شوفاني إلى وسائد الهواء ونوعيتها داخل سياراتنا، محذّرًا من نوع “تكاتا” الموجودة في عدة سيارات متوافرة في لبنان، والتي تمّ منع استعمالها في الخارج بتاتًا لأنها مضرة وتتسبّب بالوفاة عند فتحها نتيجة الحادث، علمًا أن بعض الشركات في لبنان استدعت زبائنها لتغيِّير أكياس الهواء من هذا النوع، وعلى نفقتها الخاصة. ولهذا علينا التأكّد من نوعية أكياس الهواء في سياراتنا من خلال الذهاب إلى أقرب إختصاصي كهرباء سيارات والعمل على تغيرها إذا لزم الامر.
وإلى ما تقدّم، توجه أيضًا بكلمة الى الهيئات المعنية في لبنان، طالبًا منها العمل على إنشاء مدينة مرورية حديثة، هدفها تعليم القيادة بطرق دقيقة ليتمّ تقديم الامتحانات بشكلٍ شاملٍ أسوةً بالبلدان المتطورة والمتقدمة، لأن كيفية الحصول على إجازة سوق في لبنان
لا تزال تقليدية وتفتقر الى العديد من الضوابط والشروط. كما شدّد على ضرورة إضافة منهج دراسي محدّد يقوم على تنشئة الطلاب وتعليمهم أسس القيادة السليمة، فضلاً عن تلقينهم ثقافة وسلوكيات القيادة المفقودة في وقتنا الحالي، متمنّيًا أخيرًا أن يستعيد لبنان عافيته ويتحوّل بلدًا للسلامة والأمان.