هاتف زمان.. لاحظ ايضا جريدة ومجلة جانباً
د. غالب خلايلي
لو أراد الدارسون معرفة أكثر الكارهين لأجهزة الاتصال لوجدوني أبرزَهم. والأمر ليس حديثَ خُرافة، ولا يرتبط بالتطوّرات، حديث البشرية، وإنما هو قصّة أربعة عقود من (الخبرة- الألم) في هذا المجال.
أول مشاهدة لي لجهاز النداء (البليب أو البيجر) كانت عام 1984 في مستشفى الأطفال بدمشق. كان جهازاً برتقالي اللون جذاباً يقارب في حجمه علبة سجائر فاخرة (وأي فخر!)، “يشكلُه” الطبيب في جيب “الكشكوسير” ويسير، فإذا احتاجه أهل المستشفى نادوه، إذ يبقى يصيح ما دامت بطاريته تعمل. لم تدم نلك النعمة -والحمد لله- طويلاً، إذ ألغيت لتداخل أمواجها مع غير أمواج، واستعيض عنها بالنداء المُذاع، كما في المطارات، فكانوا إذا احتاجوا طبيباً أوعزوا لموظف المقسم Operator، هذا الذي يفتح “الميكروفون” بفرح بعد موسيقى مميزة، ليعلم الرائح والغادي بالمنادى، فأنى له أن يختفي ولو لقضاء حاجة ما في ثوانٍ؟
عندما عملت في عيادة نائية بالعين أواخر 1988، رأيتُ ثاني مرّة الهاتفَ المحمول. كان ذا جهاز مِكَرٍّ مفرِّ (مستقبِلٍ مرسِلٍ) بحجم بطارية شاحنة يوضع في السيارة، وكان غالي الثمن جداً لا يستطيع امتلاكه سوى المقتدرين (رأيت أوّل مرّة هاتف السيارة والحاسوب في النرويج صيف 1988).
وما لكم بالطويلة يا سادتي، إذ ابتدأت عملي في مستشفى العين أوائل 1989، وتسلّمت جهاز النداء في مناوباتي التي وصلت إلى نحو 80-90 ساعة أسبوعياً. كان جهازاً كامد اللون بلا شاشة (فالاتصال مع مقسم المستشفى فقط)، ذا صوت يوقظ أهل الكهوف من سابع نومة، وكان لا يتوقف عن (الزعيق) في أي وقت، وأشده إزعاجاً في الليل حيث يكون خزّانا الصبر والطاقة قد انتهيا تماماً. وكيف يسكت وأنت مطلوب في أقسام متباعدة، أصعبها قسما الولادة والطوارئ، الحُبْليان بالمفاجآت المرعبة أحياناً (وليد مختنق، خديج منهك، قيصرية إسعافية، حمّى عالية، خانوق Croup، ربو شديد، التهاب سحايا، غرق..) ناهيك عن الحالات الموجودة أصلاً في قسمي الأطفال والحواضن (نحو تسعين حالة) لا بد أن لمعظمها حاجة ما. وعندما تلوح بوادر الفجر وأنت في قمّة الإنهاك والعجز، وتشعر أنك قد تظفر بغفوة، فتسترخي في غرفتك المظلمة، وتضع جهاز النداء تحت عدة مخدّات، يصيح من جديد، فتقفز بأربعتك إلى الهاتف تسأل ملهوفاً: ما الذي جرى؟
قد تنهض وتركض في الممرات وتنزل الدرج إلى الطوارئ لتجد مريضاً متعباً أو لا شيء. نعم، لا شيء! أحدهم أتى بطفل مزكوم قليلا، وطبيب (التحويل – طبيب الطوارئ) لا يريد حمل أية مسؤولية إن كان يستطيعها أصلاً. قد تخبرك ممرضة بكل أدب: عذراً لإزعاجك في هذا الوقت! لكن الدم الذي طلبته للطفل فلان وصل، هل نبدأ بنقله؟ أو تقول: بيليروبين الحبل السري للوليد فلان الذي ولد صباح أمس وصلَ الآن وهو كذا (طبيعي)، قلتُ أعلمك به.
وهكذا تشرق شمس الصباح وتسمع ضجيج سيارات الذاهبين إلى عملهم كأن عجلاتها تدوس على تلافيف دماغك، فيما عليك أن تتأنق قليلاً من أجل تقديم حالات الليل إلى أطباء القسم الذين أتَوا من بيوتهم معطّرين مشرقين، بعضهم يسمع، وبعضهم (يتخلّق) إذ لم يتنشّقْ سُمّ سيجارة الصباح، أو يشرب قهوته الداكنة، ولا عجب أن يصيح جهازك في هذا الوقت يريدونك حالاً في ولادة عسرة، فتهرع راكضاً كخيالٍ مسحور عبر الطوابق الثلاثة، لتنعش ذاك الوافد الجديد على الحياة، وأنت أشدّ حاجة للإنعاش منه.
ثلاث سنوات مرّت على هذه الحال، ووثقت بي إدارة المستشفى، فناولتني جهاز نداء آخر، شخصياً هذه المرة باسمي (الآخر كان يُحمل وقت المناوبة فحسب)، وأخبرتني أنه يجب أن يبقى مفتوحا ليل نهار. الحق أنه كان جهازأ أجمل، أي والله، بلونه الأبيض، وحجمه الأصغر (علبة كبريت)، وصوته العفريتي الأرحم قليلا، مع شاشة تظهر الرقم، مما يعطي شعوراً بالأهمية والتميز، فأنت (حامل بليب)!. على أنك تدخل هذه المرة في دوامتين، الأولى عندما تكون مناوباً بجهازَي نداء، لا يستبعد أن يفزعا معا (جواب وقرار أو انهيار)، والثانية عندما تكون في مكان بعيد (شارع، طريق سفر،…) لا يوجد فيه هاتف، إذ لم تكن الهواتف المحمولة قد بُذلت في الأرض، فكان عليك أن تبحث عن هاتف عام في الطريق وتضع فيه القطع المعدنية، أو تتصل من محلّ في سوق إذا سمح لك صاحبه بفتح الصفر! قصة.
وبقيت على هذه الحال سبع سنوات، حتى قررت الاستقالة أيّاً تكن النتائج. عشر سنوات كبّرتني عشرين أو ثلاثين فوقها، حتى شعرتُ وأنا أعيد الدورة على المكاتب التي بدأت بها عملي (هذه المرة لبراءة الذمة) أنني أكبر من كل من كانوا أصغر مني قبل عقد.
فكرة أكمل بها مسعى النداء، وهي أنني عندما استقلتُ (بمعجزة الموافقة) سلّمتُ الجهاز، وكم زعل مني كثيرون لأنني لم أعد أستجيب لندائهم، فالجهاز يصيح عندهم (حتى لو كان مطفأ)، لكنه هذه المرة لا يصيح في دماغي، وهؤلاء الذين لبّيتهم سنين زعلوا إذ لم يقدّروا أنني بلا جهاز الآن، ولم يغفر لي بعضهم حتى اليوم، ربما لأن السبب كان وقتها ملحّاً جداً، ووجدوا أنني خذلتهم. هذا أحد دروس الحياة المهمة.
في هذا الوقت (1998) كانت الهواتف المتحرّكة قد بذلت في الأرض، حتى سامها كل مفلس، ولم تعد تَعْجَب أن ترى جهازاً صغيراً محمولاً أو أكثر حتى في جيب خادمة أو عامل لجمع القُمامة. كل أحد امتلك تلك النعم إلا أنا. رفضتها من كل قلبي وعقلي.
وكان أن افتتحتُ عيادة (يوم 14 نوفمبر 1998)، وأشار المقربون أن لا بد لي من هاتف محمول: ما بصير دكتور، أنت الآن شخص مختلف، ولا بد من هاتف لتلبية الحاجات. وهذا ما كان. اشتريت جهاز (الكاتل!) الفرنسي من الاتصالات، وصرت أردّ على المكالمات التي (كتلتني) وأوجعت رأسي بحق: ألم حاد في الجانب الصدغي، حتى بتّ عصبياً جداً بلا مبرّر قوي. حقاً إن بعض المرضى مستفزّون جداً ولا يرحمون بأسئلتهم، فكثير منها بلا داعٍ، لكن لماذا أنا متألم ومتوتر إلى هذه الدرجة؟
ذات مساء، أو قل ذات ليل، فالمساء كان عندي دائما للعمل، كنا بصحبة عائلة صديقة في حديقة جميلة من حدائق العين، مع فلافل وتوابعها وشاي، فإذا بهاتفي يرنّ. وعندما وضعتُه على أذني شعرتُ بطعنة عميقة في الرأس. آه، هو السبب إذن (يبدو أن تأثير الهاتف المحمول مختلف على أدمغة البشر). وكان أن أغلقت هاتفي أشهراً حتى زال الوجع، وحتى اعتقد كثيرون أنني أغلقت عيادتي، مع أن بها خطوطا أرضية ثلاثة، لكن بعض من يأخذون رقمك المتحرك يشعرون أنهم امتلكوك في كل زمان ومكان، ولا يعودون يفكّرون بالاتصال الأرضي، وكثيراً ما يتركونك لذلك السبب. درس آخر مهم.
بقيت سنوات طوالاً لا أفتح هاتفي إلا للضرورة القصوى، حتى اعتاد أغلب معارفي وزبائني على ذلك، ولم أكن أعرف من اتصل بي (إذ لم أطلب ميزة كشف المتصل حتى أتيحت وحدها) فصرتُ إذا فتحته لا يرنّ، والحمد لله. بعضهم اقترح أن يهديني هاتفاً ورقماً كي أردّ عليه، فشكرته بأدب جم، لأن اقتراحه سيلغي فكرة استقلالي تماماً. هنا أستدرك أنني لم أبقَ على (الكاتل الفرنسي) بل تحوّلت إلى (النوكيا السويدي) بأشكاله المختلفة عبر السنين، وبقيت عليه حتى 2020، إذ اضطررتُ للتحول إلى الهاتف (الذكي!!) في عصر كوفيد لا أعاده الله، إذ لم تعد الحركة ممكنة بدونه، مع وجود تطبيقات السلامة وغير تطبيقات كالهوية.
يدرك معظم الناس اليوم مخاطر “الواي فاي” وموجات الهاتف والتلصص وغيرها، ومع ذلك يعشقونه في النهار ويحتضنونه في الليل، وينامون وهو قرب رؤوسهم أو تحت المخدة.
صار الهاتف توأم الروح، ويا له من سياميّ مؤذٍ مقيتٍ.
العين في 17 تشرين الثاني 2024