الجوع كافر: يْشبع معدته بالنظر إلى صحن الدجاج
د. الياس ميشال الشويري
قال نجيب محفوظ، الكاتب المصري الحائز على جائزة نوبل في الأدب: “عندما يأمن الموظف من العقاب سيقع في الفساد ويسوم الفقراء سوء العذاب“. في هذه العبارة الموجزة، وضع محفوظ يده على واحدة من أكثر القضايا تعقيداً وتأثيراً في المجتمعات، وهي العلاقة بين السلطة، الفساد، والعدالة الاجتماعية. الفساد الإداري، كما هو الحال في لبنان، ليس مجرّد خلل في نظام الإدارة، بل هو سرطان يلتهم الموارد، يضعف المؤسسات، ويزيد من معاناة الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع، وعلى رأسها الفقراء. هذا المقال يتناول هذه العبارة بالتحليل العميق من خلال تسليط الضوء على مفهوم العقاب، دوره في مكافحة الفساد، آثار غيابه على الإدارة العامة، وكيفية تأثير الفساد على الفقراء، مع التركيز على تجارب عربية، وخاصة في لبنان.
1- العقاب كأداة للردع والضبط الاجتماعي.
العقاب ليس مجرد وسيلة لإصلاح الخلل الاجتماعي، بل هو حجر الزاوية في بناء المجتمعات العادلة. في غياب العقاب، تصبح الأنظمة القانونية مجرد هياكل فارغة، ما يؤدي إلى تفشي الفساد وسقوط القيم الأخلاقية. العقاب يقوم على أساسين: الردع والإصلاح. الردع يهدف إلى منع الأفراد من ارتكاب المخالفات بدافع الخوف من العواقب، بينما يهدف الإصلاح إلى تقويم سلوك المخطئ وإعادته إلى المسار الصحيح.
تاريخياً، كان للعقاب دور بارز في تشكيل الحضارات وضمان استقرارها. في القانون الروماني، كان العقاب وسيلة لحماية مصالح الدولة، بينما اعتمدت الشريعة الإسلامية على العقوبات الرادعة التي توازن بين حقوق الفرد والمجتمع. في المجتمعات الحديثة، يشكل غياب العقاب أو تطبيقه بشكل غير عادل تهديداً مباشراً للتماسك الاجتماعي، حيث يشعر المواطنون بأن القانون لا يُطبق إلا على الضعفاء، بينما ينجو الأقوياء بجرائمهم.
2- الفساد في الإدارة العامة وعواقبه على المجتمع.
الفساد الإداري هو استغلال السلطة لتحقيق مكاسب شخصية على حساب المصلحة العامة. إنه يتجسد في أشكال عديدة، مثل الرشوة، المحسوبية، والاختلاس. عندما يغيب العقاب، يتحول النظام الإداري إلى أداة في يد الفاسدين لتكديس الثروات واحتكار الفرص، مما يضعف المؤسسات العامة ويؤدي إلى انهيار الخدمات الأساسية.
في الإدارة العامة، يتسبب الفساد في تقويض مبادئ الكفاءة والنزاهة. فبدلاً من تعيين الكفاءات في المناصب المناسبة، تصبح الوظائف وسيلة لتحقيق الولاءات السياسية أو المصالح الشخصية. كما أن الفساد يؤدي إلى تخصيص الموارد بشكل غير عادل، حيث تُنفذ المشاريع التنموية بناءً على منافع خاصة، وليس على أساس احتياجات المجتمع.
نتيجة لذلك، تتحمل الفئات الأكثر ضعفاً العبء الأكبر. الفقراء، الذين يعتمدون بشكل كبير على الخدمات العامة، يجدون أنفسهم محرومين من التعليم الجيد، الرعاية الصحية، والبنية التحتية الأساسية. في لبنان، على سبيل المثال، أدى الفساد المؤسسي إلى أزمات متتالية في الكهرباء، المياه، والقطاع المالي، مما جعل المواطن اللبناني يعيش تحت ضغوط اقتصادية واجتماعية خانقة.
3- أسباب غياب العقاب في المجتمعات العربية.
غياب العقاب في المجتمعات العربية ليس مسألة عابرة، بل هو نتيجة لعدة عوامل متشابكة. أحد هذه العوامل هو الأنظمة السياسية القائمة على المحاصصة والطائفية، حيث يتم توزيع المناصب بناءً على الولاءات الشخصية أو الطائفية بدلاً من الكفاءة. في هذه الأنظمة، يصبح المسؤول محمياً من المحاسبة لأنه جزء من شبكة مصالح مترابطة.
سبب آخر هو ضعف استقلال القضاء. في العديد من الدول العربية، القضاء خاضع للسلطة التنفيذية، مما يجعله أداة في يد السياسيين بدلاً من أن يكون سلطة مستقلة. عندما يفقد المواطن ثقته في القضاء، يصبح الفساد جزءاً من الثقافة اليومية، حيث يتقبل الأفراد التعامل معه كوسيلة لتيسير أمورهم.
كما أن الثقافة المجتمعية تلعب دوراً في تغذية هذا الوضع. في كثير من الأحيان، يُنظر إلى الفساد على أنه أمر حتمي أو جزء من “فن العيش” في بعض البلدان العربية. هذا القبول المجتمعي يجعل من الصعب تحقيق تغيير جذري في النظام. الإعلام، الذي يمكن أن يكون أداة فعالة في كشف الفساد، غالباً ما يكون مُقيداً أو خاضعاً لرقابة صارمة، مما يمنع تسليط الضوء على المخالفات.
4- الفقراء كضحايا أساسيين للفساد.
عندما يتفشّى الفساد، تكون الفئات الأكثر ضعفاً في المجتمع هي الأكثر تضرراً. الفقراء يعتمدون بشكل كبير على الخدمات العامة، مثل التعليم والصحة، التي تتدهور جودتها بسبب الفساد. في الأنظمة التي يُنظر فيها إلى الفساد كجزء من الواقع اليومي، يصبح الحصول على الحقوق الأساسية مرهوناً بدفع رشاوى أو الانتماء إلى جهات معينة.
على سبيل المثال، يؤدي الفساد في القطاع الصحي إلى نقص الأدوية والمعدات، ما يجبر المرضى على اللجوء إلى العيادات الخاصة بتكاليف مرتفعة لا يستطيعون تحملها. في قطاع التعليم، يؤدي سوء إدارة الموارد إلى مدارس مكتظة ومعلمين غير مؤهلين، ما يحرم الأجيال القادمة من فرصة تحسين أوضاعهم.
في لبنان، تجلت هذه المعاناة في الأزمات المتلاحقة، حيث يعيش المواطنون في حالة من اليأس بسبب تدهور الخدمات الأساسية وانهيار العملة. الفقراء، الذين لا يملكون حسابات مصرفية خارجية أو ممتلكات يمكنهم بيعها، يتحملون العبء الأكبر، بينما يهرب الفاسدون من المحاسبة.
5- الحلول لمواجهة الفساد وتعزيز المساءلة.
مكافحة الفساد تتطلب إرادة سياسية حقيقية وإصلاحاً شاملاً للنظام القضائي والإداري. أولى الخطوات في هذا المسار هي ضمان استقلال القضاء، بحيث يصبح قادراً على محاسبة المسؤولين بغض النظر عن مناصبهم أو انتماءاتهم. يجب أيضاً تعزيز الشفافية من خلال إلزام المسؤولين بالكشف عن أصولهم ومصادر دخلهم، وتفعيل دور الهيئات الرقابية المستقلة.
التكنولوجيا يمكن أن تكون أداة فعالة في هذا المجال. أنظمة الرقابة الإلكترونية، مثل تلك المستخدمة في سنغافورة، تقلل من فرص التلاعب وتزيد من شفافية العمليات الإدارية. الإعلام الحر يجب أن يلعب دوراً محورياً في توعية المواطنين وكشف المخالفات.
المجتمع المدني له دور أساسي أيضاً. من خلال تنظيم حملات توعية ودعوات للإصلاح، يمكن للمواطنين ممارسة الضغط على الحكومات لإحداث تغيير حقيقي. ومع ذلك، فإن هذه الجهود لن تكون فعالة إذا لم تترافق مع تغيير ثقافي يعزز قيم النزاهة والمساءلة ويرفض التسامح مع الفساد.
6- الخاتمة.
في مقولته، قدّم نجيب محفوظ وصفاً دقيقاً لواقع مرير تعاني منه العديد من المجتمعات العربية. غياب العقاب يؤدي إلى تفشي الفساد، الذي لا يضر فقط بالمؤسسات العامة، بل يزيد من معاناة الفئات الأكثر ضعفاً. الحلول ليست مستحيلة، لكنها تحتاج إلى إرادة سياسية وإصلاح شامل يبدأ من القضاء ويمتد إلى كل جوانب النظام. الفساد ليس قدراً حتمياً، بل هو ظاهرة يمكن القضاء عليها إذا توفرت الأدوات المناسبة والإرادة لتحقيق العدالة. يبقى الأمل في أن تستفيد المجتمعات العربية من تجارب الدول التي نجحت في مكافحة الفساد، وأن تُعيد بناء أنظمتها على أساس النزاهة والمساءلة.