التأمين متناهي الصغر إلى صعود
التأمين متناهي الصغر هي تغطية تستهدف الأفراد المحرومين ماليًا أو ذوي الدخل المنخفض، فإذا بهذه التغطية تساهم في زيادة النموّ، وفق ما تبيّن في العقد الماضي مع بداية الانطلاقة.
ولكن ما الذي يمكن أن يضيفه هذا الابتكار التأميني الذي شقّ طريقه بثبات؟
لقد أكّدت ابتكارات التأمين الجديدة التي أثارها انتشار جائحة كوفيد19 إمكانيّة وصولها إلى المجتمعات غير المؤمّن عليها. ويقدّم تطوّر نماذج التوزيع في التأمين متناهي الصغر دروسًا مهمّة لجميع شركات التأمين التي تسعى إلى سد فجوة التأمين المستمرة من حيث الحماية وربما زيادة الأقساط.
وتشير التقديرات الأخيرة الصادرة عن شبكة التأمين متناهي الصغرMicroinsurance Network، إلى أن أكثر من 280 مليون شخص على مستوى العالم مشمولون بالتغطية بوثيقة تأمين متناهي صغر واحدة على الأقل. هذا النمو مشجّع ولكنّه لا يزال يمثّل جزءا صغيرًا من تقديرات السوق العالمية البالغة 4 مليارات عميل محتمل.
قد يكون الوصول إلى الأفراد ذوي الدخل المنخفض أمرا صعبا بشكل خاص، نظراً إلى أن معظمهم يعيش في المناطق الريفية، وغالبًا ما يفتقرون إلى فهم التأمين، فضلاً عن أنّ هؤلاء قد يجدون المنتجات معقّدة للغاية أو باهظة الثمن. ومن هنا يستدعي هذا الواقع المعيق، البحث عن ابتكارات جديدة، لا سيما في توزيع المنتجات وإدارتها. ونظرًا لانخفاض هوامش الربح، تحتاج شركات التأمين للدخول في شراكة مع شركات تجميع aggregators أو قنوات ذات بصمة كبيرة في تحقيق وفورات الحجم.
ولمعرفة إلى أين يتّجه التأمين متناهي الصغر وقياس إمكاناته وقدرته على المساعدة في سدّ فجوة الحماية، نحتاج أولا إلى فهم مسار تطوّره، تقول نشرة الاتحاد المصري للتأمين ذات الرقم 278، إن نجاحًا أو تعثّرًا، علمًا أن هذا التأمين مرّ في ثلاث مراحل، الأولى عن النشأة، الثانية عن التوسّع والثالثة عن الفترة المستقبليّة.
بالنّسبة للمرحلة الأولى، فقد نما الاهتمام بالتأمين متناهي الصغر بسرعة في بداية العقد الماضي، بعد انتشار تمويله في الأسواق الناشئة. ومع تمكين المستهلكين المحرومين من الوصول إلى القروض والخدمات المصرفية الأخرى من خلال مؤسسات التمويل متناهي الصغرmicrofinance institutions (MFIs)، ظهر الطلب عليه للحاجة إلى حماية القيمة الدفترية للقروض، علمًا أنّ تأمين الائتمان على الحياة غالبًا ما كان جزءاً لا يتجزّأ من القروض الصغيرة، على رغم أن العملاء نادراً ما يفهمون الشروط أو كيفيّة عمل التأمين من حيث الممارسة العملية. ففي الواقع، اعتقد معظم العملاء أن التأمين هو شرط للحصول على القرض، ما أدى إلى انخفاض معدلات المطالبات. وعلى رغم الخطوات المتضافرة التي اتُّخذت لزيادة فهم العملاء للتأمين، إلا أن معظم مؤسسات تمويل متناهي الصغر كانت بطيئة في تجاوز المنتجات الإلزامية (التي عادة ما تكون جزءا لا يتجزأ من القروض) إلى المنتجات الطوعية التي توفّر قيمة أفضل للعملاء.
وإلى جانب مؤسسات التمويل متناهي الصغر، اعتمدت نماذج التوزيع المبكر لهذا التأمين على المنظمات المجتمعية مثل التعاونيات والنقابات العمالية والمؤسسات الخيرية، إذ لهذه المؤسسات التقليدية، في العادة، مهمّة اجتماعية قوية، فهي معروفة على نطاق واسع وموثوق بها في المجتمعات ذات الدخل المنخفض. كما أنها تمتلك قاعدة كبيرة من الأعضاء وغالبًا ما تكون لديها بنية تحتية لتسهيل إدارة الوثائق. وتشير الدراسات التي أجريت في مختلف الأسواق الناشئة إلى أن مؤسسات التمويل والمنظمات المجتمعية ظلّتا أكثر قنوات التوزيع السائدة لهذا التأمين.
وعلى رغم فوائد القنوات التقليدية، فإن وجود بعض القيود مثل نقص الوعي والثقافة التأمينية، وصعوبة التحوّل نحو المنتجات الطوعية، فضلاً عن القيود التنظيمية، قد أعاقت جميعها قدرة التأمين متناهي الصغر على التوسّع إلى الحدّ المأمول.
لكن التقدّم السريع في تكنولوجيا الهاتف المحمول في الأسواق الناشئة، أدّى إلى إيجاد فرص لنماذج توزيع جديدة وتغيير كبير في مشهد ونمو التأمين متناهي الصغر. وهنا بدأت المرحلة الثانية. فعلى سبيل المثال، أفادت التقارير أن منطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا تمتلك اقتصاد قائم على استخدام الهاتف المحمول mobile economy ويُعدّ الأسرع نموًا في العالم، إذ ارتفع معدل انتشار الهاتف المحمول من 280 مليون مشترك في العام 2012 إلى أكثر من 456 مليونًا في 2019. ومن المتوقّع أن يصل إلى حوالى 623 مليونًا في العام 2025 (حوالى نصف مجموع سكان إفريقيا).
ومع وجود الملايين من المشتركين، أصبح لدى شبكات التوزيع القائمة على الهاتف المحمول فرصاً قوية للتوسّع، مستفيدة من ثقة المشترك في كل علامة تجارية لمشغِّل شبكة الهاتف المحمولMobile Network Operator (MNO) . وبالإضافة إلى ذلك، أتاح استخدام قنوات الهاتف المحمول منخفضة التكلفة نسبيًا، إمكانية الوصول إلى العملاء الأفقر والأكثر بعدًا. من خلال تكنولوجيا الهاتف الجوّال، وأمكن لمشغّلي شبكات هذا الهاتف تسهيل بشكل فعّال العمليات المختلفة من المدفوعات إلى الإدارة وخدمة العملاء. وتشير تقارير رابطة GSMA أن هناك حاليًا مئة وخدمَتَيْ تأمين تعمل على الهاتف المحمول في 27 دولة. ومن المثير للاهتمام، أن عمليات الانتشار المبكرة للتأمين متناهي الصغر من خلال شبكات الهاتف المحمول كانت مدفوعة من قبل شركات التأمين التي تتطلّع إلى التوسّع بين العملاء المنتمين لشريحة الدخل المنخفض، ولكن عمليات الانتشار الأخيرة كانت مدفوعة إلى حدّ كبير من قبل مشغّلي شبكات الجوال الذين يسعون إلى زيادة ولاء العملاء في أسواق شديدة التنافسية.
وخلال العقد الماضي، شهد السوق أيضًا ظهور شركات وساطة للتأمين متناهي الصغر تعتمد أساساً على استخدام الهاتف المحمول. وتتميّز تلك الشركات بفهمها لصناعة التأمين، و هي المعرفة التي يفتقر إليها العديد من مشغّلي شبكات المحمول، فكان أن تعرّف عليها العملاء ذوو الدخل المنخفض الذين يشكّلون السوق المستهدفة، وهي المعلومات التي تفتقر إليها شركات التأمين. نتيجة لذلك، يربط هؤلاء الوسطاء بين العميل، ومشغّلي شبكات الهاتف المحمول، وشركة التأمين. بالإضافة إلى ذلك ، فإنها توفّر منصّات تكنولوجيا التأمين (insurtech) التي تسهّل تطوير المنتجات، وتحصيل الأقساط، وإدارة المطالبات. وفي بعض الدول، قد يتمّ ترخيص هؤلاء الوسطاء كناقلي مخاطر، حيث يعرضون منتجاتهم الخاصّة على المستهلكين. في الواقع، تمكّن وسطاء التأمين متناهي الصغر المعتمدين على استخدام الهاتف المحمول من التوسّع ، إذ قام معظمهم بتسجيل ملايين العملاء في غضون فترة قصيرة نسبيًا، ما أدّى إلى زيادة هائلة في عدد العملاء الذين يغطيهم هذا التأمين على مستوى العالم.
ومع تطوّر التأمين متناهي الصغر القائم على استخدام الهاتف المحمول، ظهرت ثلاثة نماذج أعمال متمّيزة في السوق: الولاء loyalty، النماذج المجانية freemium، والنماذج المدفوعةmodels paid.
بالنّسبة لنموذج الولاء، يتلقّى المشتركون “تأمينًا مجانيًا مدمجاً” free-embedded insurance، يتناسب مع مقدار وقت البث المستخدم كميزة لولاء العميل.
وفي ما خصّ نموذجfreemium، فهو يتيح للمشتركين ترقية غطاء تأمين الولاء (المجاني) مقابل رسوم شهرية.
يبقى النموذج المدفوع الذي يقدّم تغطية طوعية قائمًة بذاتها (مستقلة) في مقابل مدفوعات الأقساط التي يتمّ سدادها من خلال خصم وقت البث أو محافظ النقود عبر الهاتف المحمول.
وإلى جانب مشغّلي شبكات الهاتف المحمول، قامت شركات التأمين باستخدام قنوات السوق الجماهيرية الأخرى Mass Market، مثل تجّار التجزئة والمرافق ومكاتب البريد، وما إلى ذلك، لتوزيع منتجات التأمين متناهي الصغر، إذ غالبًا ما تكون قنوات التوزيع هذه واسعة النطاق، كونها علامات تجارية موثوق بها وتتمتّع بدرجة عالية من الشعبية في سوق ذوي الدخل المنخفض، ما يتيح الفرصة للوصول إلى مجموعة واسعة من عملائها. ومن المعروف في معظم الحالات، فإنّه توجد لدى هذه القنوات منصّات معاملات قائمة يمكن الاستفادة منها في تحصيل الأقساط. علاوة على ذلك، فإن المنتجات التي يتمّ بيعها من خلال قنوات السوق الجماهيرية، عادةً ما تكون منتجات طوعية حيث يكون للعميل خيار “المشاركة” بشكل صريح في الحصول على مزايا التأمين. ينطبق مبدأ الاختيار أيضًا على منتجات الولاء (المجانية) التي يقدّمها مشغّلو شبكات الهاتف المحمول.
وعلى رغم أن قنوات السوق الجماهيرية تقدّم طريقة جذّابة لاستهداف مجموعة كبيرة من العملاء، إلا أنها لا تخلو من التحديات. فهذه القنوات لا تنتمي بشكل تقليدي لمجال التأمين وغالبًا ما تقدّم منتجات التأمين متناهي الصغر كخدمة ذات قيمة مضافة لزيادة ولاء العملاء. والواقع، أن شركات التأمين تواجه منافسة شديدة على مدفوعات المستهلك إذا ما قورن بخدمات القيمة المضافة الملموسة الأخرى (مثل قسائم البيع بالتجزئة وخدمات البثّ، وما إلى ذلك) التي تقّدمها قنوات السوق الجماهيرية.
وعلى رغم الوصول إلى تكنولوجيا الهاتف المحمول ، تواجه شركات التأمين تحديات في تفاعل العملاء و تحصيل أقساط التأمين أيضًا. فعلى سبيل المثال، ففي بعض الأسواق، لا يُسمح لمشغّلي شبكات الهاتف المحمول، بتقديم المشورة التأمينية أو خصم أقساط التأمين تلقائيًا (عبر ساعات البثّ أو الأموال المتنقلة عبر الهاتف المحمول) و ذلك بسبب القيود التنظيمية. وفي بعض الحالات، كانت مشكلات الدفع ناتجة عن عدم التزام مشغّلي شبكات الهاتف المحمول بدمج البنية التحتية للدفع مع شركة التأمين. ونظرًا لأن القناة تمتلك عادةً بيانات العميل ومعلومات الاتصال الخاصة به، فإن نجاح حملة التأمين متناهي الصغر يعتمد على الثقة ومواءمة المصالح بين شركة التأمين وقناة السوق الجماهيرية.
ومن المثير للاهتمام، أنه حتى نهاية العقد الماضي، انخفض عدد العملاء الذين يشملهم التأمين متناهي الصغر بالتغطية. وكان هذا الاتجاه التنازلي مدفوعا في المقام الأول بقضايا الشراكة. لذا، فقد تمّ إيقاف بعض خطط التأمين متناهى الصغر القائمة على استخدام الهاتف المحمول أو إلغائها تدريجياً، ما أدّى إلى فقدان ملايين المشتركين للتغطية التأمينية عمليا بين عشية وضحاها بسبب القضايا الإستراتيجية بين مشغّلي شبكات الهاتف المحمول وشركة التأمين والوسطاء. وعلاوة على ذلك، تشير دراسة حديثة أجرتها شبكة التأمين متناهي الصغر Microinsurance Network ، إلى إغلاق العديد من برامج التأمين متناهي الصغر في إفريقيا، هو بسبب عدم استدامة النموذج المجاني freemium. وبذلت معظم شركات التأمين جهودا كبيرة لتحويل عملائها الحاليين الذين يعتمدون على نموذج الولاء أو النموذج المجاني، إلى حسابات قائمة على الدفع.
وفي الآونة الأخيرة، كان مشهد التأمين متناهي الصغر ينتقل بعيدًا من التوزيع عبر الهواتف المحمولة، إذ اتجهت شركات التأمين نحو استكشاف قنوات أخرى لتجميع العملا ، مثل المنصّات والتطبيقات الرقمية. وتجمع هذه المنصات عادةً بين المشترين والبائعين للسلع والخدمات من خلال السماح لهم بالتعامل رقميًا وبسلاسة مع بعضهم البعض. وقد أدّى استخدام البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا التأمين إلى ظهور اقتصادات المنصّات مثل التجارة الإلكترونية، والتبادل الإلكتروني، ومنصّات خدمات السفر عبر الأسواق الناشئة.
وتعتبر الصين رائدة عالميًا في التجارة الإلكترونية حيث تتعامل مع أكثر من 800 مليون مستهلك رقمي، وهو ما يمثل 1.5 تريليون دولار في مبيعات التجزئة عبر الإنترنت. في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، تستمرّ المنصّات الرقمية في التوسّع بوتيرة سريعة مع أكثر من 365 منصة رقمية فريدة ومتوسط 1.2 مليون مستهلك نشط سنويًا.
تتمتّع المنصّات الرقمية بقاعدة عملاء كبيرة ومتنامية مع وجود راسخ وثقة بين المشاركين في تلك المنصات. بالإضافة إلى ذلك، تدعم المنصات الرقمية مجموعة متنوعة من آليات الدفع مثل مدفوعات الهاتف المحمول والمحافظ الرقمية والسداد النقدي والتحويل المصرفي وبطاقات الائتمان أو الخصم والعملات المشفّرة. ويمكن هذه البرامج تسهيل المعاملات بسلاسة عبر سلسلة قيمة الخدمات المالية. في الواقع، توفّر الخصائص الفريدة للمنصّات الرقمية حافزاً قويًا للشراكة مع شركات التأمين لتقديم المنتجات للمستهلكين المحرومين في الأسواق الناشئة.
لا تزال فعالية المنصّات الرقمية كقناة توزيع للتأمين متناهي الصغر في مرحلة الاختبار، ولا تزال هناك أسئلة حول ما إذا كانت هذه المنصّات قادرة على الوصول للنوع المناسب من العملاء وتجميعه، وما إذا كان التأمين يتماشى بشكل جيد مع المنتجات الأخرى التي يتمّ تقديمها. ومع ذلك، يبدو أن السوق متفائل تمامًا بشأن إمكانات المنصّات الرقمية نظرًا إلى مرونتها عند الدفع. ونظرًا لأن المنصّات الرقمية تسهّل العمليات مع نظام بيئي أوسع من الشركاء، فمن المأمول أن تصبح حوافز المنصّات الرقمية وشركات التأمين أكثر توافقاً لضمان تصميم منتجات قيّمة تلبّي احتياجات سوق العملاء منخفضي الدخل.
ضمن هذا الإطار، لا بدّ من الوقوف على التجربة الآسيوية في حلّ معضلة التأمين متناهي الصغر وابتكارها طرقًا جديدة للتوزيع…
فمع ارتفاع فائض الدخل المتاح في الدول النامية في آسيا، ازداد توسّع و تنوّع التأمين متناهي الصغر، بحيث أصبح يشمل فروع تأمين جديدة تضم الآن التأمين الصحي (تأمين المنافع النقدية في المستشفيات، وهو التأمين الذى يقدّم للمؤمن عليه عند علاجه فى المستشفى دفعة مالية محدّدة مسبقاً، بغضّ النظر عن التكلفة الفعلية للعلاج فى المستشفى)، وتأمين الحياة المؤقت، والحوادث الشخصية، وتأمين الائتمان على الحياة.
وتتمي ز العديد من الدول الآسيوية التي لديها أسواق للتأمين متناهي الصغر إما بأنها تعمل على وضع التشريعات واللوائح التي تنظم التأمين متناهي الصغر أو أن لديها لوائح سارية بالفعل، بما في ذلك الفلبين وسريلانكا ومنغوليا وإندونيسيا ونيبال وبابوا غينيا الجديدة. أما بالنسبة للهند فلديها تشريعات تنظّم التأمين متناهي الصغر سارية منذ العام 2005، ثم قامت بتحديثها في 2015، كما تمتلك الصين أيضا برنامجها الخاص للتأمين متناهي الصغر منذ عام 2012.
ويمثل الاهتمام الحالي بالتأمين متناهي الصغر تغييرا جوهرياً عن الاعتقاد الذي كان سائداً في وقت سابق من هذا العقد بأن هناك العديد من التحديات تواجه انتشار التأمين متناهي الصغر. فقد اعتبرت معظم شركات التأمين أن منتجات التأمين متناهي الصغر مكلفة للغاية وأن عرض تلك المنتجات محفوف بالمخاطر، حيث إن تصميم منتجات التأمين متناهي الصغر وتسويقها وإدارتها باهظ التكلفة، كما هو الحال مع المنتجات التقليدية.
ومع ذلك، فإن الاستثمارات الضخمة في التكنولوجيا المالية Fintech وتكنولوجيا التأمين InsurTech تعمل اليوم بنجاح على حل معضلة التأمين متناهي الصغر. وتمكين شركات التأمين بشكل متزايد من التعامل معه كفرصة تجارية قابلة للتطبيق. حيث تعمل التقنيات والمنصّات والمنهجيات الجديدة على تغيير طرق استهداف العملاء ذوي الدخل المنخفض والطبقة المتوسطة الناشئة في البلدان النامية وأيضاً جمع المعلومات المتعلقة بهم، ما يتيح تطوير حلول خاصة يمكنها تلبية احتياجات العملاء مع التغلب على التحديات المتضمنة في تكلفة تصميم المنتجات وتوزيعها و تقديم الخدمات الخاصة بها و إدارة المطالبات.
يشار هنا، إلى أنّه على مدى السنوات العديدة الماضية، برزت منصّات الهاتف المحمول كقناة التوزيع المفضلة في الاقتصادات النامية. ففي منتصف 2015 ، تجاوز الهاتف المحمول في آسيا جميع الأجهزة الأخرى (الأجهزة اللوحية وأجهزة الكمبيوتر المحمولة وأجهزة الكمبيوتر المكتبية) مجتمعة باعتباره الجهاز المفضل للوصول إلى الإنترنت، ونمت حصته منذ ذلك الحين. و اعتبارًا من أيار (مايو) 2018، أصبح الهاتف المحمول يمثل أكثر من ثلثي وسائل الوصول إلى الإنترنت في آسيا.
ويتمّ توزيع نسبة متزايدة من التأمين متناهي الصغر في آسيا عبر مشغلي شبكات الهاتف المحمول (MNOs). و من خلال هذه المنصّات المتنقلة، يتمّ البحث عن العملاء، وبَيْع المنتجات، وتحصيل الأقساط، وتقديم المطالبات ودفعها.
وتشير التقديرات حاليًا إلى أن مشغّلي شبكات الهاتف المحمول في آسيا يوفّرون تغطية تأمينية لأكثر من 40 مليون فرد. و يتميّز التسويق والتوزيع عبر الأجهزة المحمولة بأنه أقل تكلفة بكثير وأكثر فاعلية من التسويق المباشر وجهاً لوجه، خاصة بالنسبة للعملاء الأصغر سنًا الذين اعتادوا على إدارة معظم جوانب حياتهم من خلال هواتفهم المحمولة.
تعمل شركات التأمين متناهي الصغر على الاستفادة من منصّات مزوّدي خدمات الهاتف المحمول لإنشاء أنظمة للمعاملات المالية الأساسية للتأمين و هي تحصيل الأقساط و سداد المطالبات. تتيح الخطط القائمة على قسط التأمين إمكانية دفع الأقساط عبر البثّ أو الأموال عبر الهاتف المحمول أو نقداً. وتمكّن خدمات تحويل الأموال القائمة على الهاتف المحمول المستخدمين من الترتيب لإرسال واستقبال المدفوعات في المتاجر الشريكة وعبر أجهزتهم المحمولة، ولها قوة جذب في البلدان الآسيوية النامية. تشتمل نماذج الهاتف المحمول الإضافية على منتجات التأمين متناهي الصغر ذات الولاء، والتي تكون مجانية للعميل وتدفعها شركات مشغّلي شبكات الهاتف المحمول، ومنتجات freemium، حيث يمكن للمستخدمين اختيار منتج أساسي مجانًا ثم إثرائه مقابل رسوم اشتراك.
و بصرف النظر عن التسهيلات التكنولوجية، فإن زيادة القدرة على تحصيل الأقساط إلكترونيًا تعد ميزة إضافية لعمليات التأمين متناهي الصغر.
ومع ذلك، فإن الهاتف المحمول ليس القناة الوحيدة لتوزيع منتجات التأمين متناهي الصغر في آسيا. فالبنوك والحكومات ومقدّمي الخدمات الآخرين يقومون بدور نشط أيضا. ففي الفلبين مثلاً ، توزّع الشركات وثائق التأمين متناهي الصغر من خلال محلات الرهن، ودور الجنازات وحتى تجّار الدراجات النارية.
وتعني خدمة سوق التأمين متناهي الصغر في آسيا أكثر من مجرّد إيجاد طريقة للوصول إلى العملاء المحتملين والتعرف عليهم فهي تعني أيضًا تزويدهم بالمعرفة المالية والتأمينية الأساسية. فعلى رغم أن الأفراد ذوي الدخل المنخفض (السوق الطبيعية للتأمين متناهى الصغر) لديهم احتياجات واضحة للتأمين، إلا أن انخفاض مستوى المعرفة المالية والتأمينية في العديد من الدول النامية في آسيا، وخاصة في المناطق الريفية، أدّى إلى نقص نسبة الأفراد الذين لديهم حسابات مصرفية أو يتعاملون بأي شكل مع النظام المصرفي.
وقد أدّت التطوّرات الحديثة في تقنيات الذكاء الاصطناعي ومعالجة اللغة الطبيعية (NLP) أيضًا إلى تعزيز مساحة التأمين، ليس فقط في التسويق والبيع والإدارة، ولكن أيضًا في القدرة على التعليم. وتعمل ربوتات الدردشة Chatbots المتخصّصة في التأمين التي تستخدم كواجهات متطوّرة للذكاء الاصطناعي على تعزيز وتحسين الكيفية التي تتواصل شركات التأمين مع العملاء الحاليين والمحتملين سواء لبيع المنتج أو تثقيف العملاء أو توفير الدعم للعملاء، ويمكن إجراء التخاطب (الدردشة) مع العميل عن طريق الصوت أو النصّ، ما يتيح معالجة أكثر فعالية وكفاءة للأعمال الجديدة وطلبات التعويضات وغيرها من الاحتياجات.
في اليابان، صدر قانون التأمين متناهي الصغر وقصير الأجل (SSI) في عام 2006. هذه المنتجات التي توفّر التأمين على الحياة لمدّة عام واحد أو أقل، والتأمين على غير الحياة لمدّة عامَيْن أو أقلّ، يتم ّتقديمها حاليًا من قبل حوالى 100 شركة، وقد شهدت نموا مستقرًا في السنوات الأخيرة.
ومن المهم أن ندرك أن منتجات التأمين الأصغر لا ينبغي أن تكون نسخًا مختزلة من المنتجات التقليدية. فنظراً لاختلاف احتياجات العملاء، تحتاج المنتجات إلى أن تكون مصمّمة بشكل مناسب لتلبية هذه الاحتياجات.
وتعمل البلدان النامية بنشاط على جمع وتحليل البيانات المتعلّقة بسكانها لتصميم استراتيجيات التسويق. وتعدّ سجلات الهاتف المحمول حاليًا هي المصدر الرئيسي للبيانات التي يعتمد عليها للتعرّف على سمات العميل من خلال: وقت المكالمة ومدّتها وأرقام الاتصال وتوقيت ومبلغ المدفوعات المسبقة التي تمّت من خلال الهاتف المحمول، والتي يتمّ تحليلها بطرق جديدة من جانب مسؤولي التمويل متناهي الصغر لصياغة درجات الائتمان الملائمة لكل عميل.
وإذا ما طبّق نهج مماثل على التأمين متناهي الصغر، فإنه سيتطلب إحراز تقدم تكنولوجي وإدخال التعديلات اللازمة على اللوائح والأنظمة ذات الصلة.
نذكر هنا أنّ للهيئة العامة للرقابة المالية العربيّة رؤية طموحة لمكننة الخدمات المالية غير المصرفية بداية من إصدار المنتجات والترخيص للمهنين وصولا الى تمكين الشركات المالية غير المصرفية من تسويق وتوزيع منتجاتها الكترونيًا وذلك لتعزيز مستويات الشمول المالي والتأميني والاستثماري، لتوسيع قاعدة المستفيدين من الخدمات والأنشطة المالية غير المصرفية.
وقد أصدر مجلس إدارة الهيئة العامة للرقابة المالية، القرار رقم 292 لسنة 2023 بتعديل القرار رقم 902 لسنة 2016، ليسمح بإضافة شركات الاتصالات والمتاجر الالكترونية المرخّص لها بمزاولة النشاط من الجهات المختصّة والتي توافق عليها الهيئة، الى القنوات المسموح لها بتسويق وثائق التأمين متناهي الصغر النمطية الكترونياً من خلال شبكة نظم المعلومات.
ويأتي السماح لشركات التأمين بالتعاقد مع المتاجر الالكترونية لتمكين جموع المتعاملين معها من التأمين على المنتجات التي يتمّ شراءها، وكذلك مع شركات الاتصالات لتسويق وتوزيع وثائق التأمين متناهية الصغر النمطية الالكترونية، ويستهدف مساعدة شركات التأمين في تسويق وثائقها لتعزيز مستويات الشمول التأميني وحماية للمتعاملين من المخاطر المؤمّن ضدها .
حدّد القرار المتاجر الإلكترونية بأنها المواقع أو المنصّات الإلكترونية على شبكة المعلومات الدولية “الانترنت” والتي تقوم بعرض المنتجات المختلفة (السلع والخدمات) وتتضمّن قوائم للسلع والخدمات المعروضة والمعلومات الأساسية عنها، وتقدّم مجموعة متكاملة من العمليات تشمل التوزيع والتسويق والبيع وسداد قيمة المنتجات المختلفة بشكل إلكتروني، والمرخص لها من الجهات المعنية بذلك.
ويمثّل القرار خطوة مهمّة لتنمية الأسواق وتيسير عملية الاكتتاب في الوثائق التأمينية لزيادة حماية المتعاملين من المخاطر المختلفة التي من الممكن التأمين ضدّها بما يساهم في الحفاظ على مقدرات المؤمن له، حيث يتضمّن ضوابط لاختيار شركات الاتصالات والمتاجر الالكترونية لحماية حقوق حاملي الوثائق.
كما يتكامل القرار الجديد مع جهود الهيئة لتعزيز مستويات الشمول التأميني باستخدام التطبيقات التكنولوجيا، حيث يوسّع قاعدة الجهات المسموح لها بتسويق وثائق التأمين، بما يسهّل من عملية وصول أكبر فئات من المجتمع الى المنتجات التأمينية المختلفة.
والآن، كيف ينظر الاتّحاد المصري إلى ما سبق ذكره؟ فالبنّسبة إليه، فإنّ التوزيع الذي غالبًا ما يوصف بأنه أصعب مرحلة من مراحل صناعة التأمين، يُعدّ ضروريًا لاستمرارية التأمين متناهي الصغر على المدى الطويل.
ونظرًا لأن التبنّي الرقمي السريع أصبح ضرورة لكل من شركات التأمين والمستهلكين، فمن المأمول أن تأخذ نماذج التوزيع الجديدة سوق التأمين متناهي الصغر خطوة للأمام نحو سدّ فجوة التأمين للمستهلكين ذوي الدخل المنخفض.
وبالإضافة إلى عمل لجنة التأمين متناهي الصغر والمشروعات الصغيرة والمتوسطة بالاتحاد والتي تهدف الى تصميم منتجات تأمينية جديدة تناسب هذه الطبقة ودراسة الوثائق التي تتفق مع الاتجاهات الحديثة. وقد أعدت اللجنة ورقة عمل مقترحة لتطبيقات التأمين متناهي الصغر بجمهورية مصر العربية، ويقوم هذا المقترح على استخدام الأنظمة والتطبيقات الحديثة والمختلفة كمنظومة لتوزيع المنتجات وتحصيل الأقساط وسداد التعويضات في التأمين متناهي الصغر، حيث تمهّد اللجنة لعرضه على الهيئة العامة للرقابة المالية.