لانظومية دقات القلب مرتبطة بالغدّة
إعداد باسكال هبر بجاني
الغدّة الدرقيّة تستوطن قاعدة العنق من أمام. وعلى رغم حجمها الصغير (حجم الجوزة) إلاّ أنّ لها تأثيرات مفيدة وسيئة في آن على الجسم، خصوصًا على القلب الذي يتأثّر بإفرازات هذه الغدّة التي غالبًا ما تكون لها آثار جدية على صحّته. الخبيرة في علم الأحياء باسكال هبر بجاني محرّرة هذه الزاوية، تضع القرّاء في صورة ما تحدثه هذه الغدّة من خلال افرازاتها التي تزداد أو تنقُص وفي كلا الحالتَيْن، هناك خطورة تستدعي اللجوء إلى طبيب مختصّ.
______________________
أعراض المرض القلبي ليست دائمًا ناتجة عن شذوذ تركيبي في الشرايين التاجيّة أو في عضلة القلب أو في صماماته. لهذا فإن معالجة حالة لانظمية القلب، أي شذوذ دقاته، كثيرًا ما تأتي عن معالجة مرض لا علاقة له بالقلب بتاتًا، إذ أنّ هذا الاضطراب قد ينشأ عن مرض في عضو آخر بالجسم. ومن ذلك أن يلاحظ شخص ما، على مدى أسبوعَيْن أو ثلاثة أسابيع، عدم إنتظام دقات قلبه وتسارعها، فضلاً عن ملاحظته أيضًا زيادة في إحساسه بالتعب وقصر النفس.
فقد يكون هذا الشخص في حالة صحية ممتازة وليس له تاريخ طبّي يدلّ على إصابته بارتفاع ضغط الدم، أو بأيّ عامل ينذره بمرض قلبي، بحيث إذا فحصه الطبيب، فإنه لا يكون في أثناء الفحص مصابًا بأي لغط قلبي، ولا يبدو عليه أي شذوذ في الدسامات (الصمامات) القلبية. غير أن “مخطط كهربائية القلب” (electrocardiogram) يُظهر وجود رجفان أُذَيْني (في الحجرتَيْن العلويتَيْن للقلب) مسبّب لحدوث اضطراب شديد وضربات عشوائية متخبطة فيهما. وبسبب هذا الاضطراب، تزداد السرعة أيضًا في ضربات البطينَيْن (الحجرتَيْن السفلتَيْن للقلب) وتأخذ، هي أيضًا، في العشوائية والتخبُّط. وهكذا يعاني الشخص نوبات من الخفقان السريع.
إن عمل الطبيب في هذه الحالة ينحصر في أول الأمر بالطبع، في التأكد من الأسباب المؤدية إلى الرجفان الأذيني، حتى إذا ما تبيّن له أنه لا وجود لسبب تقليدي مباشر، كارتفاع في ضغط الدم أو علّة دسامية قلبية، أو أي مؤشر يوحي بمرض قلبي، انصرف بحثه عن السبب إلى مواضع أخرى بالجسم.
لدى حدوث الرجفان في مثل هذه الظروف غير التقليدية، لا بدّ للطبيب من أن يأخذ بالحسبان سببًا محتملاً لها: زيادة في الافراز الهورموني للغدة الدرقية. فمثل هذه الزيادة ربما كانت أحيانًا من الأعراض المسبّبة للرجفان. ومن الأعراض الأخرى حدوث انخفاض في وزن الجسم وأَرَق ورعشة خفيفة في اليدَيْن وحالات من الإسهال الذي يخامر المصاب مرة بعد مرة. وفي حالات نادرة قد يحدث قصور قلبي، وقد تظهر حالة من الداء السكري.
وحدوث الرجفان الأذيني بسبب فرط نشاط الغدة الدرقية ليس من الأمور المستغربة أو غير الشائعة، إذْ أن حوالى 10% من الأشخاص المصابين برجفان أذيني لأول مرة، إنما هم مصابون بفرط نشاط الغدة الدرقية.
وعلى هذا الأساس، فإن معالجة الرجفان الأذيني تعتمد على التيقُّن من سببه. فإذا كانت اللانظمية ناشئة عن شذوذ قلبي، فإن المعالجة المختارة ترمي إلى تبطيء سرعة ضربان القلب ومحاولة إعادة المريض إلى إيقاعه القلبي الطبيعي عن طريق المعالجة الدوائية، والأمر متروك للطبيب في تقرير الخطة العلاجية المناسبة لكل حالة.
رأينا مما تقدم كيف أن حدوث اضطرابات في إفرازات الغدة الدرقية، كثيرًا ما تكون لها آثار جدّية على صحّة القلب. ومن سوء الحظ أن العلامات الجسمانية لحالات فرط نشاط أو نقص نشاط الغدة الدرقية يمكن أن تغيب أحيانًا عن الانتباه عند التشخيص، أو أن هذه العلامات قد تُعزى أحيانًا إلى شكوى المريض من اضطربات عاطفية. وبالنظر إلى أن أمراض الغدة الدرقية هي من الحالات الكثيرة الحدوث، فإن على الإنسان أن يكون مطّلعًا على الأعراض التي ترافقها، وأن ينبّه طبيبه إلى ما يراوده من شكوك في أمرها.
والدرقية غدة بحجم الجوزة عند قاعدة العنق من أمام، وتكمن وظائفها الطبيعيّة في تنظيم العملية الاستقلابية بالجسم، فيما تقوم خلاياها بامتصاص اليود بعمليّة معقّدة من الغذاء وتصنّعه هرمونًا درقيًا. وفي مناطق العالم المفتقرة، قد يصاب كثير من الناس بتضخّم في حجم الغدة الدرقية أضعافًا مضاعفة ما يسبّب ظهور الدُّراق (goiter) أو تورّم الغدة الدرقية. وفي الأقطار التي يُعمد فيها إلى إثراء ملح الطعام بمادة اليود، فإن هذا التورم الضخم في الغدّة يكون نادر الحدوث ويتخذ أشكالاً مختلفة.
إن معظم أمراض الغدة الدرقية يحدث عند اختلال الجملة المناعية بالجسم. ولأسباب لم تُفهم بعد فهما كافيًا، يأخذ جسم المريض (أو المريضة في الأعم) بانتاج جسيمات أضداد ضد غدته (أو غدتها)، تسبّب إما زيادة أو نقصًا في الهورمون الدرقي.
وعندما تسبّب هذه “الأضداد الذاتية” (autoantibodies) زيادة في إنتاج الهورمون الدرقي، فإن هذه الحالة تسمى “داء غريفز” (graves’ disease)، أو فرط النشاط الدرقي. ولكن من جهة أخرى إذا خدعتْ هذه الاضداد الغدة الدرقية وجعلتها تقلّل نشاطها (قصور النشاط الدرقي)، فإن هذه الحالة يُطلق عليها اسم “إلتهاب الدرقية الهاشيموتي” (Hashimoto’s thyroiditis). وأحيانًا قد ينتقل المريض من أحد أنواع الأمراض الدرقية إلى نوع آخر. فإذا أصيب الإنسان بـ “داء غريفز”، فإنه يصبح شديد التوتّر وكأنّه شرب بضعة عشر فنجانًا من القهوة القوية (عصبية وتقلبات عاطفية شديدة الصعود والهبوط)، ويصاب بالأرق وكثرة التململ وازدياد حركات الامعاء (كثرة التردّد على المرحاض) والتعرّق وعدم تحمل الحرارة. وقد يحدث ضعف في عضلات الكتفَيْن والوركَيْن إذا كان المصاب طاعنًا في السن. وكثيرًا ما ينقص وزن المصاب على رغم ازدياد شهيته.
بعض الأشخاص الذين يعانون البدانة ويسعون إلى تخفيف أوزانهم، قد يلجؤون بدافع من رغبتهم في الوصول إلى الرشاقة، إلى تعاطي حبوب درقية بناء على “نصيحة بعض المعارف“. إن هذا العمل خطير جدًّا وفي بعض الحالات النادرة قد تؤدّي إلى الوفيات.
إن فرط الدرقية أو “الانسمام الدرقي” كما يسمى (thyrotoxicosis) يمكن أن يُلحق بالمنظومة القلبية الوعائية بالجسم خرابًا كبيرًا، فهو كثيرًا ما يؤدي إلى تسارع في دقات القلب. وقد يشعر المصاب بأنه يتسابق مع قلبه، وقد يصبح مبهور الأنفاس لدى بذل أقل جهد. إنّ فرط الدرقيّة كثيرًا ما يسبّب لأنظمية القلب، وبخاصة رجفانًا أذينيًا يصعب التحكم به. وهذا الاضطراب في ضربات القلب يمنع حدوث الايقاع الطبيعي لدقاته ويحول دون إنتظام التدفق الطبيعي للدم، ما قد يؤدي إلى استنقاع له في حجيرات القلب وإلى تقليل كمية الدم الواصل إلى العضلة القلبية. وقد ينتج عن ذلك خثرات ونوبات، وربما حدثتذبحات لأول مرة. فإذا كانت قائمة من قبل، فإن هذه الأعراض قد تسوء.
ومع أن داء غريفز (فرط النشاط الدرقي)، يكون وقوعه أكثر بين النساء، إلاّ أنه يمكن أن يصيب سائر الناس من مختلف الأعمار. وفي كثير من الأحيان، يكون سريان المرض وراثيًا ضمن الأسر. ويمكن للطبيب الكشف عن وجوده عن طريق إجراء إختبار بسيط للدم.
إن علاج داء غريفر، الذي يتألف، إما من العقاقير أو الجراحة او المعالجة الإشعاعية (وهذه أوسع استعمالات)، هو سهل إلى حد كبير وتكاد تكون مضمونة دائمًا. فإذا صارت الغدة الدرقية غير فاعلة بسبب المعالجة، فإن بوسع المريض اللجوء إلى حبة واحدة يوميًا من الهورمون الدرقي الاصطناعي، مدى الحياة.
أما قصور النشاط الدرقي (وهذا إسمه الطبّي)، فهو أكثر حدوثًا بين كبار السن، وكثيرًا ما يكون من الصعب كشفه. وهو، كما يدل إسمه، ناشىء عن نقص في إنتاج هورمون الغدة الدرقية.
إن من السهل أن يشخّص مرض قصور النشاط الدرقي بـ “الإكتئاب”. ففي المراحل الأولى من المرض قد يشعر المصاب بانحطاط وضعف ويصاب بالإمساك والتيبُّس العضلي والتشنج. والحائض المصابة به يمكن أن تلاحظ زيادة في الدفق الطمثي. فإذا لم يعالج هذا القصور الدرقي، فإن الوظيفة الذهنية يمكن أن تأخذ بالانحدار. ويفقد المصاب شهيته، ولكن من المفارقات أن وزنه يزداد على رغم ذلك، ويصاب الشعر والجلد بالجفاف، ويزداد الصوت عمقًا وخشونة، وربما ضعفت قوة السمع. وقد تظهر التحليلات المخبرية وجود ارتفاع في مستوى الكوليستيرول بالدم. والقصور الدرقي بين كبار السن هو من الأسباب المهمّة لحدوث الخرف.
إن تشخيص داء القصور الدرقي يمكن الوصول إليه عن طريق إجراء اختبار دموي بسيط. وبمجرّد التعرف إلى سبب العلة تسهل معالجتها، إذْ يُبدأ بتناول المريض جرعات مخفضة من الهورمون الدرقي الصنعي “سينترويد” (synthroid).
ينبغي أن تزداد جرعات هذا العقار ببطء لا سيما إذا كان المريض طاعنًا في السن، لأن دفقة فجائية من الهورمون يمكن أن يسبَّب نوبة قلبية ولانظمية.
إن جرعة زائدة من هذا العقار يمكن أن تؤدي إلى حدوث مشاكل انسمام درقي، وقد تؤدي، بين النساء بخاصة إلى ترقق العظام.
فإذا أصيب الإنسان بتقلبات مزاجية، صعودًا وهبوطًا، للمرة الأولى في حياته، ثمّ شخصت هذه التقلبات بأنها ناشئة عن أسباب نفسانية، فحبذا لو تمّ التأكد عن طريق الاستزادة من الفحص، من أن هذه الأعراض ليست ناتجة عن مرض في الغدة الدرقية!