في زيارة لحقول القمح في تورنتو
مضى زمن طويل على آخر زيارة للدكتور غالب خلايلي و”أم العيال”، كما يسمّي السيدة زوجته، إلى دولة غربية رغم محاولات عدّة باءت بالفشل. أمّا الوجهة المقصودة فهي “تورنتو” الكنديّة، حيث يقيم ابنه لؤي وزوجته وابنته ريم وزوجها وطفلتَيْها سيرين وجوليا.
ولأنّ د. خلايلي هو أديب وطبيب في الوقت نفسه، لا يمكنه التخلّي عن القلم حتّى ولو كان في إجازة، وهذه هي عادة الأدباء، تماماً كإستحالة تخلّيه عن “السمّاعة” ولو كان على سفر، فقد وافانا بمقالة يمكن إدراجها في باب “أدب الرحلات”، الأكثر استقطابًا للقراءة. فتعالوا معًا نقرأ ما دوّن…
د. غالب خلايلي
ها قد أغلقت المدارس أبوابها في “العين” آخر الشهر السادس من عام ٢٠٢٢، وأطلقت الشمس العنان لحممها الملتهبة، حتى قاربت الحرارة الخمسين، فشددتُ الرحال أنا وأم العيال عبر (طيران الإمارات) من دبي، فجر الرابع من تموز (يوليو) ٢٠٢٢، متجهين إلى تورنتو الكندية، في رحلة تطول أربع عشرة ساعة، ما عدا القَبْل والبعد.
المطار في دبي واسع مترامي الأطراف مهيب، رائع وأنيق، وهو في آخر الليل يميل إلى السكون، ويمكن دون مبالغة أن يتعلّم كل العالم منه حُسن التعامل والدماثة والترتيب والنظافة، فيما الطيران لا يقلّ فخامة عن هذا المعنى ولو حجز المرء في الدرجة الاقتصادية.
كنت كثير التوجّس من طول مدة الطيران، وكثرة عدد المسافرين على متن الايرباص ٣٨٠ الضخمة (نحو ٤٩٠ راكبًا)، لكن الوقت مضى بأجمل ما يمكن أن يتوقعه شخص مثلي قضى عقودا طبيبا (مسافرا)، مع طائرة شديدة العناية بالنظافة والضيافة واللياقة، من قبل مضيفات أنيقات رشيقات رقيقات بلغ عددهن أربعا وعشرين، عملن بدأب وصمت مثل نحلات في خلية كبيرة، فما شعر المسافرون أبدا على اختلاف ألوانهم وأعمارهم وأذواقهم (وجلّهم من شبه القارة الهندية أو جوارها) بأي تقصير أو نقص. وزاد في حسن المعاملة ورقتها تعريفي بنفسي، فأردفت حسناء منهن: نشعر بالأمان أكثر، عندما يكون معنا طبيب.
***
إلى جانبنا جلست هندية عجوز قرب النافذة ولم تكن تتكلّم أيًا من اللغات المعروفة، فما أحسسنا بها إلا عندما كانت تقوم لحاجة، في حمّامات عالية النظافة طوال مدة الرحلة، وهذا عامل يضيف ميزة مهمة في الرحلات الطويلة، فلا يجزع المرء من شرب الماء أو غيره، خاصة وأن حُسن الارتواء مطلوب ههنا، مع ضرورة التحرّك، بين الحين والحين، منعا لداء الطيران ألا وهو الخُثار (التجلّط الدموي) الخطير.
لكن يبقى هناك الملل، فكيف يمكن تفاديه؟
أولا بالنوم، وهو سلطان، كما يقال، لكن كيف لمن تنبّه دماغه في مهنة صعبة أن ينام؟
ومع ذلك كانت هناك دقائق من نوم قسري بين وقت وآخر كسرت جدار النعس. .
أما الأمر الثاني بعد الضيافات المتعددة من ماء وشراب وطعام لذيذ، فكان بالنسبة إليّ، السعي في أرجاء الطائرة، والتأمل بما يمكن التأمل فيه، وتبادل أطراف الحديث، ثم صرف الوقت بالقراءة ، وكنت قد أعددت لذلك كتبا أتيت بها من رحلتي السابقة إلى دمشق، قرأت اثنين منها أثناء عودتي لأستاذي الدكتور إبراهيم حقي رعاه الله، وأبقيتُ ثلاثة صغيرة لرحلتي هذه.
أما أولها فكان بعنوان “وجوه” لممثل ومخرج سوري شهير ملء السمع والبصر، وهو أيمن زيدان الذي أصدر منذ سنوات قليلة عدة كتب أدبية في فن القصة، وكم أشجتني بل أحزنتني وجوه أيمن زيدان، بأسلوبها الأدبي الفريد الذي يركّز على قصص الحرب الظالمة وما رافقها من مآسٍ إنسانية طافحة بالحزن، وبنعي الأمان، ويكفي أن أذكر ما كتبه في الإهداء: “أيّها الزمن الأحمق، من صَيّرك بهذا القبح؟! خدعتنا أيها الوغد، وتركتنا نحلم!”
أما الكتاب الثاني فكان للصديق الراحل الرائع حكواتي الفرات الحزين الطبيب عبد السلام العجيلي، وكان مختارات ساخرة ضاحكة من كتابه “ادفع بالتي هي أحسن”، ومن عنواناته: “لعنة العواصم”، “مع المرأة في عامها العالمي”، “كيسنجر في فندق حسيب”، “النطق والمال”، “مصادفات ولكنها مذهلة”، فأزاح العجيلي بأسلوبه شديد السخرية الهمّ والحزن اللذين سببتهما لي وجوه زيدان، وإن ترك أسئلة جدية طرحها مبكرا، وكأنه يعيش بيننا اليوم.
أما الكتاب الثالث، فكان عن طبيب حماة وشاعرها وسيد العشق والعشّاق المرحوم وجيه البارودي ، صاحب القصص التي لا تنتهي طبا وشعرا وعناية بالفقراء، وها هو ذا يقول:
وأنا الطبيب الألمعي ولي على
بلد النواعير اليد البيضاء
ويقول:
أتيت إلى الدنيا طبيبا وشاعرا
أداوي بطبي الجسم والروح بالشعر
***
هذا ما لدي اليوم في جعبتي، اكتفيت بالجميل منه، إذ لا تخلو قصة من منغصات ولو بسيطة، لعلكم تتوقعون بعضها، وما هو بالمهم ذكره، لا رأيتم الهمّ، لأنتهز اقتراب عيد الأضحى المبارك فأتوجه إلى قرائي الأعزاء بأطيب التهاني والتبريكات: كل عام أنتم جميعا بخير.