وائل الإبراشي
تحوّلت وفاة وائل الإبراشي إلى قضية ضجّ بها العالم العربي، لا بسبب شهرة هذا الإعلامي المصري الذي يحمل الجنسية السعودية أيضًا، وإنّما بسبب ما رُوّج عن خطأ طبّي تداخلت فيه مواضيع عدّة، بينها التساهل في السماح لبرامج تدّعي تقديم علاجات للناس ولا صفة طبيّة لها، وبينها أيضًا وطأة كوفيد 19 على الناس كما على الأطبّاء والمستشفيات وسائر الأجهزة المعنيّة. وبلغ الاهتمام بهذه القضيّة إلى حدّ أنّ السياسة دخلت ايضًا طرفًا فيها، بعدما أضاء الزميل نديم قطيش في حلقة تلفزيونيّة، على جانب العداء الذي يكنّه تنظيم الإخوان المسلمين لهذه الشخصية الإعلاميّة المعادية له، وكيف أنّهم فرحوا وشمتوا بالإعلامي بعد وفاته، ما حدا بالبعض إلى التفكير بأنّ الخطأ الطبي كان مقصودًا ولم يكن هفوة طبيب! ولا شكّ أنّ الإعلام في العالم العربي، وليس في مصر وحده، ساهم في صبّ الزيت على النار، بترويجه أخبارًا بعضها صحيح وبعضها الآخر يفتقد إلى الدقّة العلميّة المطلوبة، علمًا أنّ هذه القضية وُضعت على طاولتَيْ النيابة العامة المصريّة ونقابة الأطباء في مصر لأنّ وائل الإبراشي لم يكن شخصيّة عادية وإنما إعلامي معروف ومُتابَع تلفزيونيًا، بل أكثر من ذلك، عندما نُقل إلى المستشفى كما روى الطبيب المعالج، د. مجدي عبد الحميد، وكانت نافذة غرفته تطلّ على الشارع، تجمهَرَ أُناسٌ كثيرون يودّون رؤية وائل والإطمئنان إلى صحته، خصوصًا بعدما نشر البعض أخبارًا ملفّقة من بينها وفاة هذا الإعلامي، ما تسبّب له بأزمة نفسية واكتئابيّة استدعت الدكتور عبد الحميد الذي عالجه في المستشفى، إلى طلب فريق من الأطباء النفسانيّين لإعادة الثقة إلى نفس الإعلامي لأنّ حالة الإكتئاب هي العدو الأوّل لمرض كوفيد 19 والمُسبّب لتراجع الحالة الصحيّة.
مُحرّك هذه القضية، كما تبيّن من الإعلام المصري، هو الطبيب خالد منتصر، صديق الإبراشي والقريب منه ومن عائلته المكوّنة من سيدة وإبنة وحيدة. فقد أعلن الأخير في تصريح مدوٍّ أنّ الذي عالج الإبراشي، وهو د. شريف عباس، طبيب دجّال استخدم في علاجه حبوبًا دوائيّة أقنع الإعلامي بأنّها تشفي من كوفيد، ولكن تبيّن أنّها ألحقت بصحّته ضررًا كبيرًا أدّى إلى تليّف رئتَيْه بنسبة 60 بالمئة، وهي نسبة عالية جدًّا وتُنذر بأنّ المريض على وشك الإختناق من دون علاج فوري في المستشفى. وممّا قال د. خالد منتصر أيضًا أنّ الطبيب المعالج شريف عباس غير معروف في وسط الأطباء ولا علاقة له بالأمراض الفيروسية، ومنها كوفيد، وإنّه لا يشارك في أيّ مؤتمر طبّي أو علمي سواء في مصر أو في الخارج وأنّه كثير الظهور على شاشات التلفزة، ساعيًا إلى اكتساب الشهرة والمال. ووصل باتّهاماته إلى حدّ القول أنّه بات يملك بسبب هذه “الشعوذة” قصرًا يسكن فيه. ويبدو أنّ زوجة الفقيد التي وصلتها أصداء شبيهة بما قاله الدكتور منتصر، فتحت النار على من تولّى علاج زوجها في المنزل، وطوال غيابها مع إبنتها في الخارج، بدعوى أنّ كوفيد 19 شلّ حركة الطيران ومنعها من العودة إلى منزلها لتكون إلى جانب زوجها. وتردّدت إشاعات تفيد أنّ الطبيب شريف عباس قد اعتُقل و/أو هرب إلى الخارج، خوفًا من محاكمة قضائية ونقابية لن تكون قراراتها سهلة عليه وخصوصًا أنّ الدعوى التي تقدّمت بها زوجة الفقيد أمام النيابة العامة كانت دعوى جنائيّة. لكن ما جرى أنّ الطبيب شريف عباس ما لبث أن ظهر إلى العلن وأدلى بحديث مطوّل لإحدى قنوات التلفزة المصريّة دافع فيه عن نفسه وغمز من قناة الطبيب خالد منتصر وهدّد وتوعّد بملاحقة كلّ من أساء إلى سمعته، داحضًا كلّ أقاويل زميله خالد منتصر قائلاً: “أنّني طبيب اختصاصي في الفيروسات، وكوفيد هو فيروس، وبالكبد، والكبد “موطن” للفيروسات، وفي شؤون وشجون الجهاز الهضمي، وهذا الاختصاص مطلوب أيضًا في معالجة الفيروس المستجد. أمّا حضوره المؤتمرات المحليّة والدوليّة فهي، كما قال، بالعشرات، وأنّه عضو في تجمّعات علميّة في الخارج وله أبحاث ومؤلّفات في هذا الصدد. وفي دفاعه عن نفسه قال أيضًا: “لقد عالجت الإبراشي وفق البروتوكول المطلوب والمعهود وما قيل عن دواء من ابتكاري أعطيته له، هو كلام محض افتراء لأنّني لا أخترع أدوية من جهة، ولأنّ الإعلامي شخصيّة واعية وعلى قدر من الفهم والمعرفة ولا يمكن أن تنطلي عليه مثل هذه الأمور، فضلاً عن أنّه كان على اتّصال دائم بأساتذة أطبّاء في الجامعات والمستشفيات المصريّة، وكان هؤلاء يتشاورون معي ويتابعون بالتفصيل طريقة العلاج”.
م يكتفٍ بذلك، بل ذهب إلى حدّ القول أنّه سعى جاهدًا لنقل الإبراشي إلى المستشفى لعلاجه بشكلٍ دقيق هناك ولكنّ الأخير كان يرفض دائمًا، مكتفيًا بعلاج المنزل، وأنّه على استعداد للإتيان بأي جهاز يحتاجه الطبيب بديلاً من الانتقال إى غرفة العناية أو ما شابه. وبالفعل، أجرى اتّصالاته وأتى بكلّ ما نحتاج إليه. وعندما ساءت صحّته كثيرًا ولم يعد من الممكن إبقاؤه في المنزل، اقتنع بجدوى الانتقال إلى المستشفى وهكذا كان.
كشف د. شريف عباس أنّه أتى بممرّضين إلى منزله لإسعافه وتأمين الطعام له لغياب زوجته وابنته ولوجود خدم كانوا خائفين من التقرّب منه بسبب كوفيد، وما كانوا يسمعونه عن هذا الفيروس.
وعندما سُئل ما هي خطواته الثانية أجاب: “انتقلت قبل ساعات إلى نقابة الأطبّاء والتقيت أحد أعضاء المجلس الإداري وطالبت بتحقيق موسّع عن هذه القضية، لكشف الحقيقة أوّلاً ولأبرّئ سمعتي ونفسي، فكلّ المستندات بحوزتي وما قمت به تجاه الإعلامي كان صحيحًا مليون في المئة والأوراق الثبوتيّة موجودة كلّها ولكنّني لن أتحدّث بالتفاصيل إلى الإعلاميّين لأنّني كطبيب لا يجوز أن أفشي أسرار المرض. أمّا زوجته الكريمة التي تناولتني بالقدح والذمّ والتي تقدّمت بشكوى جزائيّة للنيابة العامة، فهي حتمًا غرّرت ووصلتها أنباء كاذبة، وغدًا ستعرف الحقيقة عندما تبدأ المحاكمة. وفي مطلق الأحوال، فأنا لا ألومها ولا ألوم أيًّا من ذوي المرضى الذين يكونون في وضعٍ غير سوي.
قيل له: كنت تدخّن في غرفة المنزل حيث يخضع الإبراشي للعلاج؟ ضحك الطبيب المعالج وقال: “صحيح أنا أدخّن ولكن هل يُعقل أن أُقدم على هذه الخطوة في غرفة مريض يشكو من ضيق في التنفّس وحوله أجهزة اوكسيجين لتعوّض لرئتيه ما تحتاجانه لاستعادة عملهما؟ على أية حال أنا أطالب بالتسريع في إجراء التحقيق لأكشف الحقائق وما سأقوله يتضمّن الكثير من المفاجآت. فلننتظرْ ونرَ”.
ولأنّ المعني الأوّل بهذه القضية هو نقابة الأطبّاء، فقد توجّه الإعلام المصري إلى عضو في مجلس النقابة هو د. إيهاب الطاهر الذي أعرب عن دهشته للاتّهامات التي سيقت ضدّ الطبيب المعالج والوصف الذي صدر عن أرملة الإعلامي عندما ذكرت أنّ الأطباء قتلة. كما تفاجأ من أقاويل أخرى تردّدت أنّ الطبيب تعمّد قتل وائل الإبراشي وأنّ ما حصل جريمة موصوفة لا يمكن أن تمرّ مرور الكرام.
طبعًا، الطبيب إيهاب الطاهر كان موضوعيًا في كلامه، بحيث أنّه رفض التشهير بالأطباء عمومًا من دون إثباتات تؤكّد أنّ هناك إهمالاً أم خطأ طبيًّا جسيمًا. أكثر من ذلك، فاجأ الإعلامي المحاور بالقول أنّ هناك 650 طبيبًا لقوا حتفهم بسبب كوفيد وأنّ هناك أعدادًا كبيرة من المرضى يموتون كلّ يوم بسبب هذا الفيروس، ولهذا لا بدّ من إجراء تحقيق طبّي بإشراف لجنة من المتخصّصين لمعرفة السبب، هل حصل تليّف بالرئتَيْن، هل تمّت الوفاة بسبب المضاعفات أم أن هناك سبب آخر؟ وإذا تبيّن أن الطبيب الذي عالج خالف القوانين وأنّه وصف دواءً لا يُباع في الصيدليّات فسينال حتمًا العقوبة، فلننتظر لأنّ الطبيب في مصر يحاسب أمام أربع جهات، تبدأ بوزارة الصحة ومن ثمّ النيابة الإدارية، فالنيابة العامة والمحكمة فنقابة الأطبّاء. ولا أكشف سرًّا إذا قلت أنّ هناك أطبّاء يمضون الأحكام الصادرة في حقّهم في السجون بسبب أخطاء طبيّة. أخيرًا، يجب أن أذكّر بأنّ نقابة الأطبّاء تقدّمت بمشروع قانون تحت اسم “المسؤوليّة الطبيّة” لمحاكمة الأطباء بموجبه، ذلك أنّ الأخطاء الطبيّة تُقسم إلى 3 درجات: مضاعفات المرض وتمرّ من دون عقوبة، أخطاء طبيّة قد تحدث طبقًا لنوع المرض وهنا تدفع شركة التأمين التعويض للمريض، وهناك الإهمال الطبّي الجسيم والذي يضمّ تحت مظلّته قيام الطبيب باختبار دواء جديد على المريض أو إجراء عملية من دون إعلام صاحب العلاقة. هذا الإهمال هو الذي يجب أن يحاكم من يقوم به.
إنّ الخطر الأكبر على المجتمع، ودائمًا حسب الطبيب إيهاب الطاهر، هو الطبّ الدفاعي، أي أن يتجنّب الطبيب التدخّل في الأمور المعقّدة وهذا خطير جدًّا، ومن هنا ضرورة إقرار هذا القانون بسرعة وبأسلوب علمي كما في باقي دول العالم.
يبقى أن نشير إلى أنّ الدكتور مجدي عبد الحميد الطبيب المعالج للإعلامي في المستشفى، ذكر في مقابلة تلفزيونيّة أنّ الإبراشي كان مصابًا بتليّف في الرئة عند وصوله إلى المستشفى، وقد عولج وتحسّنت أوضاعه ولكن المنية كانت أسرع وأقوى. ومن يستمع إلى هذا الطبيب يذهب به الاعتقاد أنّ هناك “قطبة مخفيّة” بحاجة إلى توضيح لأنّ الإبراشي عند تركه المنزل كان في وضع سيء للغاية، وبتقدير هذا الطبيب، فإنّ العلاج السابق لم يكن على مستوى المرض وكأنّ الطبيب لم يكتشف كوفيد 19 بل عالج شيئًا آخر، وهو حتمًا ما نفاه د. شريف عباس الذي يملك كلّ وثائق البراءة.