زرعتا… وحصدت الأجيال
والأم الثانية هي السيدة هالة اسكاف التي أسلَمَتِ الروح قبل ساعات وبعد سبع سنين على رحيل الأم الأولى بربارة، حارسة القلعة. أمّا القلعة فهي السور الذي يحوط المدرسة والدير والميتم، حماية أمنية للثلاثة، منذ تأسيس هذا الصّرح في العام 1883. والى هذا السّور الذي شكّل الدعامة الأولى في انطلاق الدير فالميتم ثمّ المدرسة، كانت للفترة الذهبية التي عرفها هذا المثلّث، دعامتان: الأم بربارة التي أمضت سبعين عاماً على رأس الدير والميتم من أجل الفقراء واليتامى، والمديرة الأسبق للمدرسة المربية هالة بيوض اسكاف التي غادرتنا قبل ساعات، وبعد 25 عاماً من العطاء التربوي ساهم في نهضة زهرة الإحسان التي اعتبرتها الراحلة الكبيرة ابناً لها بعد مازن ورنا واحتضنتها كما احتضنت ولدَيْها.
صحيح أن أمهات عدّة تعاقَبَن على رئاسة الدير والميتم من الأم مريم جهشان الى الأم كاترين خير، فالأم حنة معلوف، فالأم ناتالي شويري فالأم تيودور جبيلي، الى أن تولّت الأم بربارة هذه المهمة منذ العام 1981، أي بعد 30 عاماً على انخراطها في سلك الرهبنة. وصحيح ان مديرات سبقْن “مدام اسكاف”، كما كان الجميع يحبون مناداتها، وان مديرَيْن خلفاها منذ العام 2014، الأخيرة منهما هي السيدة سهى خوري شويري، الا أن الأم بربارة، كما السيدة هالة اسكاف، جسّدتا صفاتٍ وقدراتٍ جعلتهما متميّزتَيْن معرفةً وحكمةً وأداءً واطلاعاً وخبرة، نادراً ما توافرت في شخص، فكيف في شخصَيْن معاً تعاونا وقادا سفينة جمعت ديراً وميتماً وصرحاً تعليمياً، بأفضل ما تكون القيادة تنسيقًا وتعاونًا وتفاهمًا كي تبقى تَمْخُر عُباب اليمّ بهدوء ونجاح وثبات، وبقبضة فولاذية اذا لزم الأمر ووفق شعار تبنّتاه يقول: “الشدّة لا تصلح في موضع اللين، ولا ينفع اللين في موضع الشدة”!
مع رحيل الأم بربارة، ومن ثمّ السيدة هالة اسكاف، تخسر مدرسة زهرة الإحسان اثنَيْن من أعمدتها الرئيسة. لكن ما يعزّي أنّ الأساس صلب ومتين وبالتالي لا خوف على الصرح من أن يهوى وينهار، ما دام حوله خريجون وخريجات من مختلف الطوائف والمذاهب اللبنانية زرعوا العلم والمعرفة حيثما حلّوا وعملوا، في الداخل والخارج، ولا يزالون يدعمونه معنوياً ومادياً، إذا لزم الأمر، وهذا هو مصدر غنى المدرسة الذي حافظ عليها وحافظت عليه بتوجيه ودعم من رئيس هذا الصرح مطران بيروت وتوابعها المتروبوليت الياس عودة.
كلمة أخيرة للراحلة الكبيرة التي كان بابها مفتوحاً دائماً لتلّقي الشكاوى والملاحظات والاستماع إلى شجون ومخاوف البعض: سنفتقدك كثيراً. سنفتقد حنانك، علمك، محبتك، رعايتك الدائمة لكل تلميذ وخريج حتى عندما دخلت مرحلة التقاعد! وبهذه المناسبة الأليمة أستعير ما كتبَتْه للأم بربارة يوم كرّمتها رابطة خريجي الزهرة بعدد خاص عنها. فقد ذكرتُ في الافتتاحيّة “إن النهج الذي سلكتِ لن ينهدّ أو يتلاشى برحيلك، لأن حبّة الحنطة، كما قال السيد المسيح، ان لم تَقَعْ في الأرض وتَمُتْ بقيتْ وحدها، واذا ماتت أخرجت حبّاً كثيراً. فمن أحبّ حياته فَقَدَها ومن أبغضها في هذا العالم، حفظها للحياة الأبدية”.
التعازي القلبيّة والمواساة للزوج الدكتور أسعد اسكاف، الأديب الخلاّق المرهف الحسّ الذي نتصوّر جميعاً حالة الوجع والفراق التي يعيشها في هذه اللحظات الصعبة جداً عليه وعلى ولديْه.. تعزيتنا ومواساتنا للدكتور مازن اسكاف الذي تحادثتُ معه قبل حصول الوفاة بساعات قليلة، أسأل عن الوالدة التي “ما كانت تشكو داء سوى بُعدها عن بيتها وسريرها ومحبيها” كما قال لي.. عزاؤنا للطبيبة النسائية رنا التي كانت طوال فترة المرض ساهرة، كما مازن، على والدتها وكانت واياه يتناوبان على رعاية الأمّ التي ما قصّرت في احتضان أولاد الزهرة، صغاراً وكباراً، فكيف ولديْها وأحفادها؟
الرحمة لك مدام اسكاف.. الصبر لعائلتك ومحبيك.. وليكن رقادك حبّة حنطة إضافيّة تُخرج حبّاً كثيراً من صاحبات الهِمَم والمعرفة والقدرة على ترسيخ العلم والتربية!
الزهرة خسرتكِ.. التربية في لبنان خسرتكِ.. أمّا “تأمين ومصارف” فقد خسرت قارئة شغوف بالمتابعة، والانتقاد إذا لزم الأمر، والمدح عندما تشعر أنّ ما كتبنا يستحقّ فعلاً شهادة فخر واعتزاز منها..
فضلو هدايا