شارع المصارف هل دقّت ساعة الدمج؟
يبدو أنّ حاكم البنك المركزي “أدار المحرّكات” على غرار ما يفعل الرئيس نبيه برّي، سعيًا إلى إعادة تحريك القطاع المصرفي بطريقة تمكّن عجلة الاقتصاد من “التقليع” والدوران من جديد. فبعد التعميم 154 الصادر عن المركزي والذي توجّه به إلى عملاء المصارف الكبار الذين حوّلوا أموالاً إلى خارج لبنان تفوق الـ 500 ألف دولار أو ما يوازيها بالعملات الأجنبية خلال الفترة الممتدّة بين 1/7/2017 و17/10/2019، أبلغ رياض سلامة، حاكم مصرف لبنان، وكالة “رويترز” أنّ “المصارف اللبنانية غير القادرة على زيادة رأسمالها بنسبة 20 بالمئة بنهاية شباط 2021، سيتعيّن عليها الخروج من السوق”.
وكما كان وَقْعُ التعميم الأوّل مفاجئًا لمن حوّلوا أموالهم إلى الخارج خلال الفترة المذكورة و”حثّهم” على إيداع 15 بالمئة من المبلغ المحوّل إذا كانوا من عملاء المصارف، و30 بالمئة إذا كانوا من السياسيّين، فإنّ وَقْع التصريح الأخير لـ “رويترز” جاء تأكيدًا على نيّة الحاكم إعادة تحريك القطاع المصرفي ورسم خارطة طريق لانقاذه واسترجاع ودائع العملاء.
لقد بدا هذا التصريح بمثابة “تهديد” للمصارف غير الملتزمة، حتى الآن، زيادة رأسمالها، و”هزّ” أركانها، لأنّها ستضطرّ إلى الانسحاب من القطاع وإعطاء أسهمها إلى البنك المركزي الذي “سيكون مؤتمنًا على الودائع وعلى صونها،” كما ورد على لسان الحاكم. وعندما سُئِل من قبل “رويترز” عن البنوك المرشّحة للمغادرة، أجاب بأنّه “لا يستطيع التكهّن”.
مضمون هذا التصريح ليس جديدًا وإنّما أعيد قوله على ما يبدو، من باب التذكير. ذلك أنّ مصرف لبنان كان قد أصدر تعميمًا وسيطًا رقمه 13129 تاريخ 4 تشرين الثاني 2019 ألزم فيه المصارف بزيادة رأسمالها بنسبة 10 بالمئة حتى نهاية العام 2019 و10 بالمئة أخرى لغاية آخر حزيران 2020. من هنا يمكن الاستنتاج أنّ تصريحه هو للتذكير، بعدما أعطى فترة سماح إضافيّة تنتهي في شباط 2021.
للتذكير، فإنّ مصارف تجاوبت سريعًا مع هذا التعميم، وبدأت البحث عن مستثمرين ومودعين كبار لديها، قادرين على المساهمة بزيادة رأس المال. ولم يكن الأمر صعبَ التحقيق لأنّ كبار المودعين هؤلاء كانوا لا يستطيعون سحب ودائعهم كاملة من المصارف، ما دفع البعض منهم نحو خيار المشاركة في هذه الخطوة. وأوّل من أعلن زيادة رأس ماله كان مصرف “بيبلوس” الذي ضخّ مبلغ 135 مليون دولار أميركي عبر إصداره مقدّمات نقديّة قابلة للتحويل أسهمًا، وبما يمثّل 10 بالمئة من حقوق حَمَلَة الأسهم العادية. ولم يكن “بيبلوس” الوحيد الذي بادر إلى هذا التدبير الذي يتماشى ومضمون التعميم، بل أنّ إدارة بنك “لبنان والمهجر” سارعت، بدورها، لعقد اجتماع غير عادي للجمعية العمومية لمراجعة واعتماد المساهمة النقدية في أدوات رأس المال، تنفيذًا لشروط تعميم المصرف المركزي الهادف إلى كفاية رأس المال في المصارف العاملة في لبنان. وما هي إلاّ أيام حتّى أعلن مسؤول في بنك “عوده” لوكالة “رويترز” أيضًا أن البنك جمع 210 ملايين دولار كمساهمة نقدية في المرحلة الأولى من زيادة رأس المال على مستوى القطاع، ونزولاً عند طلب البنك المركزي.
ثمّ كرّت السبّحة ولكن بخجل، وهو ما استدعى الحاكم إلى الادلاء بتصريحه الأخير وتحديد الموعد الجديد في 21 شباط 2021. وكان الهدف الرئيس من إطلاق هذه الخطوة هو رفع رأس المال الخاص للمصارف بمقدار 4 مليارات دولار لإضافتها إلى رأس المال التراكمي البالغ عشرين مليارًا. ومن شأن هذه الخطوة تعزيز القدرة المالية للقطاع وهو يواجه الوضع الحالي وأيّ تطوّرات مستقبليّة قد تطرأ، خاصة لمواجهة أي تخفيض محتمل للتصنيف الائتماني، وقد حصل هذا التخفيض تباعًا، والبقاء عند مستويات كافية من رأسمال أعلى من 8 بالمئة من المطلوب دوليًّا.
تعزيز ملاءة المصارف وحمل المساهمين على الاشتراك في زيادة رأس المال لم يكونا بالأمر السهل، ولهذا لجأت إدارات بعض المصارف إلى خطوتَيْن اثنتَيْن: الأولى، إعطاء المساهمين فائدة على المبالغ المقتطعة من ودائعهم بمعدّل يتراوح ما بين 6 و8 بالمئة، على أن تبقى سارية المفعول إلى حين تحويل هذه المساهمة إلى أسهم في رأس المال. أمّا الثانية، فتمثّلت بلجوء بعض المصارف، تشجيعًا للاكتتاب في الزيادة، إلى إقراض المساهمين المبلغ الموازي لمساهمتهم من دون فائدة، لمهلة زمنيّة محدّدة يتمّ تسديدها في المواعيد المتّفق عليها.
ويميل الاعتقاد بعد التصريح الأخير للحاكم رياض سلامة أنّ بعض المصارف بات على قاب قوسَيْن أو أدنى من الاندماج أو ترك القطاع، وقد يكون الحلّ الأوّل الأقلّ ضررًا! وهذا إن دلّ على شيء فعلى أنّ القطاع المصرفي الذي شكّل على مدى سنوات طويلة ظاهرة فريدة، بدأ يشهد مرحلة من التقهقر. ومن المعلوم أنّه حتّى أواخر العام 2019 وصلت موجودات المصارف اللبنانية إلى أكثر من 200 مليار دولار، أي ما يعادل أربعة أضعاف الناتج المحلي اللبناني، وهذا رقم ضخم ويظهر قوّة هذا القطاع الذي يتألف من 62 مصرفًا وأكثر من الف فرع، إضافة إلى انتشار 16 منها في أكثر من 30 دولة عربية وأجنبيّة. وما كانت لهذه الانطلاقة أن تنجح لو لم تترافق مع اعتماد المصارف أحدث النظم والمعايير التكنولوجية على مستوى العالم، إضافة إلى الخبرات العالية في صناعة الصيرفة، فضلاً عن قانون السريّة المصرفيّة الذي شكّل عامل استقطاب لرؤوس الأموال المحليّة والاغترابية والعربية وحتّى العالمية، حتى وصلت الودائع في البنوك إلى نحو 170 مليار دولار أواخر 2019.
وعندما يُسأل المصرفيّون حاليًا عن سبب تدهور القطاع وتعرّضه إلى خسائر كبيرة، يجيب هؤلاء أنّ لبّ المشكلة يكمن في قيام المصارف بتسليف الدولة المتعثرة أكثر من 70 بالمئة من أصولها عبر سندات الخزينة وشهادات الايداع و”الاوروبوند”، وقد ازدادت هذه التسليفات في 2016 مع إطلاق حاكم مصرف لبنان ما عُرف بالهندسات المالية، ولا شكّ أنّ سياسة التسليف كانت كافية لانهيار القطاع. ثمّ توالت التحديّات وأوّلها تخفيض تصنيف لبنان، وتاليًا تخفيض تصنيف المصارف تلقائيًا، ما جعل البنوك المحليّة تواجه صعوبات في فتح الاعتمادات مع المصارف المراسِلة. وإلى ذلك، شهدت إقبالاً على سحب الودائع وتخزينها في المنازل، ما عجّل في الانهيار. ومع حالة الهلع التي عرفها لبنان بعد انتفاضة 17 تشرين، ازدادت السحوبات، ومعها تفاقمت أزمة السيولة، وأخيرًا جاءت الضربة الأولى من عجز الحكومة عن دفع سندات “الاوروبوند”، ثمّ ضربة ثانية تسبّبت بها جائحة كورونا التي أقفلت الأسواق والمحلات والمطاعم، ما عرّض الاقتصاد إلى نكسة كبيرة وإلى إفلاسات طاولت شركات ومؤسّسات اضطرّت إلى تسريح ما يفوق الـ 50 بالمئة من العاملين لديها، وكلّ ذلك في ظلّ أجواء اقتصادية وسياسية غير مستقرّة.
نصل إلى الدمج، هذه الخطوة التي طرحتها الولايات المتحدة على حاكم مصرف لبنان قبل 3 سنوات لتخفيض عدد المصارف إلى 25 مصرفًا كحدّ أقصى. الاقتراح لم يُؤخذ به يومها لأسباب لا مجال للخوض بها هنا، ولكنّه بات اليوم من الضروريات لتعزيز سيولة المصارف، على رغم العوائق التي قد تواجه هذه الخطوة، باعتبار أنّ غالبية المصارف عائلية وقد لا تلتزم الدمج. مع ذلك، فإنّ تعميم المصرف المركزي لزيادة نسبة 20 بالمئة من رأس المال سيُلزم البعض منها بالاندماج، وهذه خطوة تتلاقى مع التعميم الأخير 154 الذي ذكرنا تفاصيله آنفًا.
هذا ما يظهر في الأفق حاليًا وإن كان اعتماد البعض يرتكز على مصادرة (أو استرجاع) ما قيل عن أموال منهوبة قدّرها البعض بـ 8 مليارات دولار. وما قيل عن إنشاء صندوق سيادي من ممتلكات الدولة، فقد أثير حوله جدل كبير، وينطلق المعارضون للفكرة من أن هذه الممتلكات هي ملك للشعب اللبناني وليست ملك الدولة، ولا يمكن بأي طريقة رهنها للمصارف.
يبقى الأمل (الضعيف جدًّا) أن تتمكّن الحكومة الجديدة بإجراء الاصلاحات المطلوبة بحسب ورقة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، لتُستعاد أموال Cèdre ويمضي البنك الدولي بإقراض لبنان، بما يكفي لإعادة تحريك عجلة الاقتصاد وعودة ثقة العالم بهذا البلد التعس. إذ يكفي أن تتعزّز هذه الثقة لتُخرج البلاد من كبوتها وتستعيد ولو بعض الألق السابق، لا سيما على مستوى القطاع المصرفي. أخيرًا تجدر الإشارة إلى أن مصارف بدأت تقفل فروعها، ويُقال أنّ النسبة وصلت إلى 20 بالمئة.