تظاهرات في الوسط التجاري إبّان ثورة 17 تشرين
د.الياس ميشال الشويري
شعار “شعب، جيش، مقاومة“، الذي تبنّته بعض القوى السياسية في لبنان، كان يهدف إلى ترسيخ مفهوم الوحدة الوطنية وتعزيز مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. ومع ذلك، تحوّل هذا الشعار إلى مصدر جدل كبير، بحيث أن البعض ذهب الى حدّ المطالبة بتقسيم البلاد، وهو ما أسهم في تفاقم الأزمة السياسية، وتالياً الإقتصادية والإجتماعية وحتى المالية. وفي نهاية المطاف، لم يتوحّد اللبنانيون حول هذا الشعار، وبدلاً من أن يوحّد، زعزع الوحدة الوطنية المنشودة. ولكن لماذا؟
ان الحماية العملية لهذا الشعار، أدّت، برأي كثيرين، الى:
-ضعف مؤسسات الدولة، لأن التداخل في الصلاحيات بين الدولة وبين المقاومة يُضعف المؤسسات الرسمية ويؤدي الى تآكل سيادة الدولة اللبنانية لناحية عدم القدرة على فرض سلطتها أو تنفيذ قوانينها بشكل فعّال. ومن الأدلة على ذلك، تعطّل مجرى العدالة في حادثة إنفجار مرفأ بيروت.
– تعطيل الحياة السياسية، لأن الشعار بدا وكأنه تبرير لتدخّل المقاومة في الشؤون السياسية والسيطرة على القرار السياسي، بدليل عدم انتخاب رئيس للجمهورية، وابقاء أزمة المودعين من دون حل رغم المطالبة بإجراء اصلاحات جوهرية مالية يحتاجها لبنان، وهو ما أدّى الى:

-تصاعد العزلة الإقليمية والدولية. ذلك أن الدعم العسكري للمقاومة من قبل قوى سياسية، ألحق لبنان بمحور يُعتبر معزولاً دولياً وبالتالي ناله ولو بالحدّ الأدنى ما نالته دول هذا المحور، خصوصاً لجهة العقوبات الاقتصادية والمالية، ما أدّى إلى تراجع الاستثمارات الخارجية وتفاقم الأزمة المالية. ومن ثم انهيار الاقتصاد اللبناني الذي تمثّل بتراجع النشاط الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة والفقر. وثمة من يقول أن هذا الواقع انعكس سلباً على تطوير البنى التحتية بسبب تحويل جزء من الموارد المالية الى غير ما يُفيد الإقتصاد بل يُزيد من الدين العام. وبرأي هؤلاء أن مدخرات الناس في المصارف ذهبت أدراج الرياح بسبب ذلك. ومن النتائج التي ظهرت وتلمّسها كل لبناني: تعميق الإنقسامات الطائفية، تراجع الهوية الوطنية المشتركة، تصنيف لبنان دولة من دول محور الممانعة. وهنا لا بدّ من الإشارة الى أن عهد العماد ميشال عون، وبرأي سياسيين محايدين لا حزبيين، فشل في وضع قطار الحلول على السكة، مع أن المسيحيين خصوصاً كانوا يأملون في أن يكون عهده بداية استرجاع لبنان عافيته ومركزه العربي.
وفي المحصلة، فبين شعبٍ منهك ومسلوب ومنهوب، وجيش غير قادرٍ على الإهتمام بجنوده ضمن المستوى المطلوب، ومقاومة تزداد قوة وأَلَقاً ، ضاعت بوصلة لبنان، وبدلاً من أن يصل الى شاطئ الأمان، تاه في البحر ولا يزال تائهاً، علماً أن إعداد الإنتهازيين والوصوليين والمستفيدين والمفسدين ساهموا في هذا الضياع، ضياع البوصلة والوصول الى شاطئ الأمان. وهنا تحضرني قصة طريفة بطلها الكاتب الشهير جورج برنارد شو. ذات مرة جلست امرأة فاتنة بجانبه، فهمس في أذنها: “هل تقبلين أن تقضي معي ليلة مقابل مليون جنيه؟” إبتسمت وردّت في إستحياءٍ: “طبعاً … وبكل سرور“. عاد وسألها مرة ثانية، بعدما إقتنع برضاها، هل من الممكن أن نخفّض المبلغ إلى عشر جنيهات؟ فغضبت وصرخت في وجهه: “من تظنني أكون يا هذا؟” فقال: سيدتي … نحن عرفنا من تكونين، نحن فقط إختلفنا على قيمة الأجر!

للأسف، هذا هو واقع حال الرِعاع الذين يتحكّمون بلبنان!
في النهاية، المقاومة، في إطار شعار “شعب، جيش، مقاومة“، يجب أن تكون مقاومة من أجل لبنان. واذا كانت تهدف إلى الدفاع عنه في مواجهة التهديدات الخارجية، فيجب أن تكون تحت مظلّة الدولة اللبنانية، وبتنسيق كامل مع الجيش اللبناني، كما يقول المنطق. المقاومة الحقيقية هي تلك التي تعزّز مناعة لبنان، داخلياً وخارجياً، وتعمل جنبًا إلى جنب مع مؤسسات الدولة لقطع أيادي الفاسدين والمفسدين، وتحقيق الأمان والاستقرار.
برأيي، ان المنظومة الحالية، الفاسدة والمفسدة بامتياز، التي دمرّت لبنان هي العدو الأول والأخير للبنان، وليس عدو الخارج. المقاومة الحقيقية والبنّاءة هي التحرّك الداخلي والفعلي نحو التخلّص من هذه المنظومة الحقيرة بادىء ذي بدء، ومن ثم العمل على بناء نظام يضمن حقوق الجميع ويعاقب كل من تسّول له نفسه استغلال السلطة على حساب الشعب! تحقيق القوة والاستقرار في الداخل ليس فقط لصالح اللبنانيين، بل يضع لبنان في موقع أفضل لدعم القضية الفلسطينية بطرق أكثر تأثيرًا وفعالية! دولة لبنانية قوية ومستقرة، ستكون قادرة على تقديم دعم حقيقي ومستدام للفلسطينيين، تعزيز حقوقهم في المحافل الدولية، والمساهمة في بناء مستقبل أكثر عدلاً وسلاماً في المنطقة. تقديم الدعم للقضية الفلسطينية بطرق غير عسكرية يمكن أن يكون أكثر استدامة وفعالية في تحقيق الأهداف المرجوة. من خلال العمل الدبلوماسي البنّاء، دعم حقوق الإنسان، تعزيز الاقتصاد، وتوعية العالم عبر التعليم والإعلام، يمكن القضية الفلسطينية أن تحظى بتأييد عالمي واسع يساعد في تحقيق العدالة والسلام بطرق سلمية وقانونية. هذه الأساليب تعزّز من قدرة الفلسطينيين على استعادة حقوقهم وتوفّر لهم الدعم الدولي الذي يحتاجونه في نضالهم.
حقاً، “نحن بحاجة إلى رجال دولة لا إلى مصطادي سلطة يستغلونها لقهر الناس وإتمام مصالحهم. نحن بحاجة إلى رجال دولة يحكمون لبنان بحكمة وتجرّد، يحافظون عليه سيداً حراً مستقلاً ولا يسمحون بأي تدخّل أو وصاية أو استتباع. كل يوم يمّر يزيد حجم الأزمة والوقت لا يستعاد. الوقت يمّر ويمضي وهجرة الأدمغة تزيد وغير اللبنانيين يتكاثرون وقد لا يبقى لبناني ليطبّقوا سياساتهم الفاشلة عليه”، كما جاء على لسان متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة!
على أي حال، يقول الإمام علي بن أبي طالب، في وصفه للدنيا، بأنّها زائلة، وكلّ ما فيها زائل، وأنّها ستزيل الجميع دون استثناء، وأن فرحها وهم، وقوّتها وهن، ولا نستطيع أخذ شيء منها معنا:
النفس تبكي على الدنيا وقد علمت
أن السعادة فيها ترك ما فيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها
الا التي كان قبل الموت بانيها
فان بناها بخير طاب مسكنه
وان بناها بشر خاب بانيها
اموالنا لذوي الميراث نجمعها
ودورنا لخراب الدهر نبنيها
أين الملوك التي كانت مسلطنة
حتى سقاها بكأس الموت ساقيها
فكم من مدائن في الآفاق قد بنيت
أمست خرابا وأفنى الموت أهليها
لا تركنن الى الدنيا وما فيها
فالموت لا شك يفنينا ويفنيها

حقاً، لقد سئمنا من الفساد السياسي والإداري والمالي ونهب الأموال — العامة والخاصة، ومن العنتريات والمزايدات والمافيات والسرقات والتعديات على أنواعها؛ نريد أن يكون لبنان الدولة العربية الحرّة، السيّدة، المستقّلة، المحايدة التي لا تدخل في محاور وفي صراعات المنطقة … لقد حان الوقت لنحارب من أجل لبنان، ولأجله فقط، كوطن لجميع أبنائه، واستعادة سلطة الدولة وتطهيرها من اللصوص الذين عاثوا فساداً في الوطن على مدى سنوات طوال ونهبوا مقوماته!