د. الياس ميشال الشويري
يعتبر الإمام المغيّب السيد موسى الصدر من أبرز الشخصيات الدينية والسياسية في لبنان، حيث ساهم في تشكيل رؤية وطنية واضحة حول دور لبنان في الصراعات الإقليمية، وخاصة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وفي وقت كانت فيه المنطقة تغلي بالتوترات والنزاعات المسلحة، أدرك الصدر أن قدرة لبنان المحدودة لا تُمكنه من المشاركة الفعّالة في هذا الصراع دون تكبد خسائر فادحة على المستويَيْن الداخلي والإقليمي. ومن هنا جاءت دعوته الواضحة إلى تبنّي سياسة الحياد لحماية لبنان من الانجرار إلى أتون الحروب والنزاعات الكبرى.
العبارة التي نُسبت إلى الإمام موسى الصدر والتي تقول: “سنخسر وطننا لبنان، ولن نستعيد شبراً من فلسطين وسنتحول إلى لاجئين إن لم نجعل لبنان في دائرة الحياد. وطننا لبنان لا يستطيع بإمكانياته الضعيفة أن يتحمل عبء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الكبير”، تُعبّر عن رؤية استراتيجية عميقة وشاملة لمستقبل لبنان في ظلّ الصراعات الإقليمية، وخاصة النزاع الفلسطيني الإسرائيلي.
1-الإمام موسى الصدر والخلفية التاريخية للبنان في السبعينيات
أ- السياق الإقليمي والدولي. في فترة الستينيات والسبعينيات، كانت المنطقة العربية تعيش في خضم صراعات متصاعدة مع إسرائيل. وكانت قضية فلسطين تشكّل محور السياسة الخارجية لدول المنطقة، بما فيها لبنان. في تلك الفترة، احتضن لبنان العديد من اللاجئين الفلسطينيين الذين هاجروا إليه بعد نكبة عام 1948، وتزايدت معاناتهم بعد حرب 1967 التي شهدت احتلال إسرائيل لمزيد من الأراضي العربية. أصبح لبنان ساحة للتحركات العسكرية الفلسطينية، وخاصة من خلال نشاطات منظمة التحرير الفلسطينية.
ب- الوضع الداخلي في لبنان. كانت الدولة في لبنان ضعيفة ومقسمة طائفياً، ما جعلها عاجزة عن اتخاذ موقف قوي تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. استغل العديد من الفصائل الفلسطينية هذا الفراغ لنقل نشاطاتهم العسكرية إلى داخل الأراضي اللبنانية، ما تسبب في تأزيم الوضع الأمني وتعزيز الانقسامات الطائفية. في هذا السياق، ظهر الإمام موسى الصدر كقائد سياسي وديني يسعى لإيجاد توازن بين دعم القضية الفلسطينية والحفاظ على استقرار لبنان.
2-رؤية الإمام موسى الصدر لسياسة الحياد في لبنان
أ- مفهوم الحياد عند الإمام موسى الصدر. رأى الإمام موسى الصدر أن لبنان، بحجمه الصغير وإمكانياته المحدودة، لا يمكنه أن يتحمل تبعات الصراعات الكبرى مثل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ولذلك دعا إلى سياسة الحياد كوسيلة لحماية لبنان من التورط في نزاعات لا طاقة له بها. وأشار الصدر في إحدى خطبه الشهيرة إلى أن “لبنان سيخسر وطنه ولن يستعيد شبراً من فلسطين إن لم يتبنَ سياسة الحياد”. كانت هذه الرؤية تستند إلى إدراكه للواقع الجغرافي والسياسي للبنان.
ب- دوافع الحياد. هناك عدة دوافع حملت الصدر على تبنّي سياسة الحياد:
–الوضع الداخلي المتفجر: الانقسامات الطائفية في لبنان كانت تهدّد بتفجير الحرب الأهلية. الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كان يزيد من هذه التوترات، إذ كانت بعض الطوائف تدعم المقاومة الفلسطينية، بينما تخشى طوائف أخرى من تأثير ذلك على استقرار البلاد.
–القدرات المحدودة للبنان: رأى الصدر أن لبنان ليس لديه الإمكانيات الاقتصادية أو العسكرية التي تمكنه من الدخول في مواجهة مباشرة مع إسرائيل أو دعم حركات المقاومة الفلسطينية بشكل فعال.
–الحفاظ على الهوية الوطنية: دعا الصدر إلى ضرورة حماية الهوية الوطنية اللبنانية من الانقسامات الطائفية والسياسية الناتجة عن الصراع الفلسطيني.
3-تأثير سياسة الحياد على استقرار لبنان
أ- نتائج تبني الحياد. ان من نتائج تبنّي الحياد:
–حماية النسيج الاجتماعي اللبناني: ساهمت سياسة الحياد التي دعا إليها الإمام موسى الصدر في الحد من التوترات الطائفية الداخلية، حيث دعا الجميع إلى التركيز على حماية الوطن بدلاً من التورط في نزاعات خارجية.
–التخفيف من التدخلات الخارجية: من خلال دعوته للحياد، سعى الصدر إلى تقليل النفوذ الخارجي على لبنان، سواء من قبل إسرائيل أو من بعض الدول العربية التي كانت تدعم الفصائل الفلسطينية.
ب- التحديات التي واجهت سياسة الحياد. على الرغم من أن سياسة الحياد كانت تستند إلى منطق سياسي قوي، إلا أنها واجهت العديد من التحديات:
–الضغوط الداخلية والخارجية: لم يكن من السهل تحقيق الحياد في لبنان، حيث كانت بعض الطوائف والفصائل اللبنانية تدعم المقاومة الفلسطينية بشكل علني. كما أن إسرائيل كانت تعتبر لبنان جزءاً من دائرة الصراع.
–الحرب الأهلية اللبنانية: بعد سنوات قليلة من دعوة الصدر للحياد، اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1975، ما جعل تنفيذ سياسة الحياد أمراً مستحيلاً.
4-الأبعاد الفكرية والروحية لسياسة الحياد
أ- موقف الصدر من القضية الفلسطينية. على الرغم من دعوته للحياد، لم يكن الإمام موسى الصدر ضد القضية الفلسطينية، بل كان يرى أن لبنان يجب أن يدعم الفلسطينيين بطرق غير عسكرية. كان يدعو إلى حل سلمي للصراع ويحذر من التورّط العسكري الذي قد يؤدي إلى تدمير لبنان دون أن يقدم شيئاً حقيقياً للقضية الفلسطينية.
ب- الأبعاد الأخلاقية والدينية. كان الصدر ينطلق في دعوته للحياد من قاعدة دينية وأخلاقية. فقد كان يعتبر أن حماية الأرواح والحفاظ على استقرار المجتمع هو واجب ديني وأخلاقي، وأن التورط في حروب عبثية يتناقض مع تعاليم الدين. كما كان يرى أن الوحدة الوطنية مقدسة ولا يجوز التضحية بها من أجل أي قضية خارجية.
خاتمة:
تظل رؤية الإمام موسى الصدر حول سياسة الحياد واحدة من أكثر الأفكار التي تستحق الدراسة والتحليل في التاريخ السياسي اللبناني الحديث. فهمه العميق للتوازنات الإقليمية ولقدرات لبنان المحدودة جعله يدعو إلى الحياد كوسيلة لحماية الوطن من الانهيار في ظل صراع إقليمي معقد. على الرغم من التحديات التي واجهت تلك السياسة، إلا أن رؤيته لا تزال تلهم الكثيرين في لبنان الذين يسعون للحفاظ على الاستقرار في بلد يعاني من التوترات المستمرة.