من آثار حرب غزة
تلازم المسارَيْن الفلسطيني واللبناني كان قائماً منذ النكبة عام 1948، ولكن هذا التلازم اشتدّ حدّة منذ 7 أكتوبر 2023 عندما شنّت حماس هجوماً دامياً ومباغتاً وغير مسبوق على اسرائيل، أدى الى اقتحام مقاتليها مواقع عسكرية ومستوطنات حدودية مع القطاع وأسْر عشرات الإسرائيليين، ما حمل تل أبيب على شن هجوم بربري على القطاع لا تزال تداعياته تتفاعل.
وكما بات معروفاً، قام حزب الله في اليوم التالي لهجوم حماس (8 أكتوبر)، على مستوطنات اسرائيلية “للمساندة والمشاغلة”، كما أسماها الأمين العام السيد حسن نصرالله. ومن يومها لا تزال الحربان الإسرائيلية الغزاوية والإسرائيلية-الحزب الإلهية مستمرَتَيْن مع تسجيل خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات، وهو ما بات معروفاً ولا حاجة للإضاءة عليه، مع الإشارة هنا الى أن خروج القتال على الساحة اللبنانية-الإسرائيلية عن “قواعد الإشتباك” المتوافق عليها، كما كان يُقال، أدّى الى تفلّت المعارك الميدانية ووقوع مجازر على الساحة الجنوبية والبقاعية وفي ضاحية بيروت الجنوبية، بشرياً وممتلكات.
فهل من أرقام يُمكن الركون اليها لمعرفة حجم هذه الخسائر؟
بالنسبة لغزة أولاً، فبعد عام على الحرب، تراجعت قوة حركة «حماس» التي تحكم القطاع منذ العام 2007، مع تدمير مراكزها وقتل قادتها، واضطرارها لخوض حرب من داخل الأنفاق، إلا أن العمليات العسكرية الإسرائيلية البرية والجوية لم تقضِ عليها، مع اقرار مصدر في «حماس» بأن «آلافاً من عناصر المقاومة استُشهدوا في المعارك»؛ لكنه تابع أن «الاحتلال يَكذب ويبالغ في الأرقام، ويخلط بين المدنيين والمقاومين»، مضيفاً: «يدّعي الاحتلال أنه يعرف كل شيء. ماذا كان يعرف في السابع من أكتوبر؟ فشل أمني وعسكري وسياسي وتخبط… انهم يهربون من الفشل بارتكاب المجازر!”
لكن صمود “حماس” أمام الآلة العسكرية الإسرائيلية، ترافق مع دمار شديد أصاب القطاع، لا سيما المؤسسات الحكومية التي تديرها “حماس” وقد تعرّضت لشلل كبير، إذ دمّر الجيش الإسرائيلي معظم هذه المؤسسات.
والى ذلك، لم تترك الحرب مكاناً آمناً في القطاع؛ إذ تحوّلت أكثر من مئتي مدرسة غالبيتها تابعة لوكالة «الأونروا»، إلى ملاجئ لمئات آلاف النازحين، ولم تعد هناك مراكز للرعاية الصحية. وبهذا الصدد، أعلن مدير الإعلام الحكومي في غزة، “إسماعيل الثوابتة، أن إسرائيل دمّرت كافة الجامعات والمنشآت الصناعية والتجارية، ومحطة توليد الكهرباء الوحيدة، ومضخات المياه والصرف الصحي، ومراكز الشرطة والدفاع المدني، والسجون”. كما دمّر الجيش، كلياً أو بشكل كبير، نحو 450 ألف منزل ومنشأة، من بينها مستشفيات ومدارس ودور عبادة، وأكثر من 80 في المئة من البنية التحتية في القطاع. كذلك تسببّت الضربات الإسرائيلية في تحويل مناطق واسعة في القطاع إلى أكوام من الركام”. وبحلول منتصف عام 2024، انخفض اقتصاد غزة إلى «أقل من سدس مستواه في عام 2022»، وفقاً لتقرير للأمم المتحدة ورد فيه إن الأمر «سيستغرق عقوداً» لإعادة غزة إلى ما كانت عليه قبل الحرب.
كذلك أدّت الحرب وتداعياتها إلى تأجيج الغضب والإحباط على نطاق واسع بين سكان القطاع البالغ عددهم 2.4 مليون نسمة، وكان ثلثاهم فقراء قبل الحرب.
الى ذلك، أظهر استطلاع للرأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، في حزيران الماضي، أن67 في المئة من الذين شملهم الاستطلاع في غزة والضفة الغربية التي تحتلها إسرائيل، يعتقدون أن «حماس» سوف تهزم إسرائيل في نهاية المطاف. وتبلغ النسبة 48 في المئة في قطاع غزة.
بالإنتقال الى لبنان نشير الى أنه شهد عبر تاريخه الحديث عديداً من الحروب المدمِّرة التي تركت آثاراً كارثية على اقتصاده واستقراره الاجتماعي، أبرزها حرب تموز 2006، حين اندلعت حرب شاملة بين إسرائيل و«حزب الله»، ويتجدَّد المشهد اليوم بين إسرائيل و«حزب الله»، ولكن بقواعد مختلفة جداً على صعيد المؤسسات والاقتصاد.
حرب الـ33 يوماً، عام 2006، كان لدى لبنان رئيس للجمهورية وحكومة فاعلة، وكان اقتصاده واعداً بنمو متوقع يتراوح بين 4 الى 5 في المئة، معزّزاً بتدفق مرتفع للإستثمارات مرتفع ساعَد على تحقيق ميزان المدفوعات فائضاً مالياً، وبسيولة عالية لدى القطاع المصرفي الذي كان في ذلك الوقت يلعب دوراً أساسياً في الثقة باقتصاد لبنان، وفي الوقت نفسه، كانت السوق المالية في لبنان تتمتع بزخم إيجابي بسبب ارتفاع الاستثمارات الخليجية التي استفادت من ارتفاع أسعار النفط.
مع الإشارة هنا الى أنه في أثناء حرب 2006، هبّت الدول العربية، والخليجية خصوصاً، لمساعدة لبنان؛ إذ بلغ مجموع الأموال التي تسلّمَتها الحكومة في ذلك العام من الدول الشقيقة والصديقة والمؤسسات الدولية ما قيمته 1.174 مليار دولار. كما حظي لبنان في تلك الفترة بدعم دولي، ومساعدات مالية عربية، ما ساعده على الصمود إلى حد كبير في وجه التحديات التي أفرزتها الحرب، حيث تمكّن مصرف لبنان المركزي من التدخل لحماية الليرة، والحفاظ على سعر صرفها، بعدما تلقّى بعد وقت قصير من اندلاع الحرب وديعة بقيمة 1.5 مليار دولار من الكويت والسعودية، كما تم عقد مؤتمرات دعم دولية لمساعدة لبنان، حيث نجح مؤتمر المانحين في ستوكهولم في آب 2006، وباريس في 3 كانون الثاني 2007، في توليد دعم كبير من المجتمع الدولي، الأمر الذي خفّف العبء على المالية العامة في لبنان. وخصّص مؤتمر باريس 3 للبنان مِنَحاً وقروضاً ميسّرة بلغت قيمتها 7.6 مليار دولار، بهدف تحفيز القطاع الخاص على النهوض بعد الحرب، وتنفيذ خطة الإصلاح الاقتصادي التي وضعتها الحكومة اللبنانية.
لكن لبنان اليوم يواجه تحديات اقتصادية غير مسبوقة مع دخوله حرب 2024، حيث تعاني البلاد “أزمة مالية خانقة. فالليرة اللبنانية انهارت، مما أدّى إلى فقدان أكثر من 90 في المئة من قدرتها الشرائية، بينما ارتفعت معدلات التضخم بشكل حادّ، والأهم أن لبنان بات يفتقر إلى الدعم المالي الدولي والعربي، وتراجعت احتياطيات مصرف لبنان بشكل ملحوظ، وتجاوزت خسائر القطاع المصرفي 70 مليار دولار، وانخفض الناتج المحلي بنسبة 50 في المئة، ليجد 80 في المائة من سكان لبنان أنفسهم تحت خط الفقر”، كما ذكر أحد الخبراء الإقتصاديين… هذا التباين الكبير بين حربَي 2006 و2024 يعكس الفارق الهائل في قدرة لبنان على الصمود، حيث يبدو في موقف أضعف بكثير أمام هذه التحديات المالية والاقتصادية.
وتشير تقديرات البنك الدولي إلى أن الحرب في لبنان عام 2006 كلّفت البلاد خسارة تقدَّر بـ10.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، مع أضرار مباشرة وغير مباشرة بلغت 3.1 مليار دولار. أما اليوم، فيبدو لبنان في وضع أكثر هشاشةً، وعلى عكس حرب 2006، يُحتمل أن تفتقر البلاد إلى التمويل من الموارد المحلية، أو من دول الخليج، كما أن استعادة البنية التحتية المتضررة ستتطلّب وقتاً طويلاً، خصوصاً مع التحديات الجسيمة في إدارة آثار أي تصعيد في الصراع، فضلاً عن تلاشي مقوّمات الصمود المعيشية للبنانيين، مما يزيد من حدة التداعيات.
الى ذلك، فخلال حرب تموز 2006 تدخّل مصرف لبنان لضخّ نحو مليار دولار في الأيام الأولى؛ لتهدئة الطلب على الدولار، والحفاظ على استقرار سعر الصرف عند 1500 ليرة، وكان احتياطه من العملات الأجنبية 11.7 مليار دولار. واليوم، تراجَع هذا الاحتياطي إلى 7.5 ملياري دولار، علماً أن لبنان في عام 2006 تلقّى الحكومة مساعدات مالية من دول شقيقة وصديقة، فالسعودية قدمت 734 مليون دولار على شكل هبات نقدية، وساهمت الكويت ساهمت بـ315 مليون دولار، وسلطنة عمان بـ50 مليون دولار، والعراق بـ35 مليون دولار.
والى غياب المساعدات وتوقف السياحة وشلل المؤسسات، فقد أدت الحرب المستمرة حالياً الى خسائر اقتصادية تقدّر بحوالي 10 مليارات دولار، ما يعكس عمق هذه الحرب وخطورتها.