من آثار موكب الدراجات النارية
د. الياس ميشال الشويري
تاريخ الشعوب غالبًا ما يكون مليئًا بالصراعات والتحديات التي تُشكّل هويتها الجماعية. لبنان، بتعدديته الثقافية والطائفية، ليس استثناءً. بين فصول الحرب الأهلية والتوترات الطائفية، وُلدت ذاكرة جماعية مليئة بالآلام والانقسامات. هذه الذاكرة ليست مجرد سجلٍّ للمآسي، بل هي عامل مؤثر في تشكيل المستقبل. الأزمات التي عاشها اللبنانيون، من الحرب الأهلية إلى الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الحالية، أثقلت كاهلهم، لكنها في ذات الوقت طرحت تساؤلات عميقة حول الهوية والمصير.
لبنان، بوصفه نموذجًا مصّغرًا للشرق الأوسط، يعكس في صراعاته وتحدياته صراعًا أوسع حول قدرة المجتمعات المتعددة على التعايش. هذه التحديات ليست مجرّد تاريخ يروى، بل هي اختبار يومي يعيش في تفاصيل حياة الأفراد والجماعات. وبينما يسود الخطاب الطائفي والسياسي أحيانًا، تبقى هناك أصوات تدعو إلى التسامح وإعادة النظر في مفهوم المصير المشترك.
لكن، وسط هذه الفوضى والتناقضات، يظلّ سؤال المصير المشترك ملحًّا: كيف يمكن لشعب أن يعيد بناء جسور الثقة؟ هل بالإمكان تجاوز آلام الماضي والانقسامات الطائفية من خلال حوار عقلاني وشجاع؟ أم أن الذاكرة المثقلة بالجراح ستظل عائقًا أمام أي مصالحة حقيقية؟ الإجابة على هذه التساؤلات تتطلب النظر بعمق في التاريخ الجماعي للبنانيين، واستخلاص الدروس التي قد تساعد في تحقيق مستقبل أفضل. في هذا السياق، يصبح التحدّي الأكبر هو إيجاد صيغة تعترف بالألم والظلم، لكنها تفتح الأبواب أمام التسامح والمصالحة.
- الجذور التاريخية للتوترات الطائفية في لبنان
لا يمكن فهم ما يحدث اليوم دون العودة إلى تاريخ لبنان الحديث. تأسيس الكيان اللبناني في عام 1920 على يد الفرنسيين كان نقطة تحوّل مفصلية في تاريخ البلاد. هذا التأسيس لم يكن مجرّد إعلان استقلال، بل كان بداية لنظام سياسي يعتمد على تقسيم السلطة بين الطوائف المختلفة. النظام الذي اعتمد توزيع المناصب الرئيسية على أساس طائفي أرسى قواعد لعبة سياسية معقدة. هذا التوزيع، الذي بدا للبعض في البداية كضمانة للتوازن، أصبح لاحقًا مصدرًا دائمًا للتوتر.
خلال العقود الأولى من الاستقلال، تفاقمت الانقسامات مع تصاعد النفوذ الإقليمي والدولي في الداخل اللبناني. النزاعات بين الطوائف لم تكن فقط صراعات على النفوذ، بل امتدت لتشمل هوية لبنان نفسه: هل هو دولة عربية أم ذات خصوصية غربية؟ هذه الخلافات، إلى جانب التدخلات الخارجية، أدت إلى تفجّر الحرب الأهلية في عام 1975.
الطائفية لم تكن فقط عاملًا في تقسيم المجتمع، بل أصبحت أداة سياسية تُستغّل لتعزيز النفوذ وإقصاء الآخر. ومع مرور الوقت، تحولت هذه الأداة إلى حاجز نفسي واجتماعي يمنع أي محاولات حقيقية للتقارب. إضافة إلى ذلك، فشلت الحكومات المتعاقبة في معالجة الأسباب الجذرية للتوترات، ممّا ساهم في ترسيخ الانقسامات.
في ظل هذه الخلفية التاريخية، تَبرز الحاجة الماسة إلى إعادة قراءة هذا التاريخ بعيون جديدة. الفهم الحقيقي للجذور لا يعني تبرير الانقسامات، بل العمل على تجاوزها من خلال خلق فضاء مشترك قائم على العدالة والتسامح.
- ممارسات استفزازية تعيد فتح الجراح
في الآونة الأخيرة، شهد لبنان موجة من التصرفات الاستفزازية التي أثارت جدلًا واسعًا وأعادت إلى الواجهة جراح الماضي التي لم تلتئم بعد. قيام بعض الغوغائيين من الشيعة — للأسف — بممارسات ذات طابع طائفي في مناطق حسّاسة يحمل دلالات عميقة تتجاوز مجرّد الاستفزاز العابر. الطائفية التي كانت في الماضي وسيلة للإحتماء أصبحت اليوم أداة للتفرقة والتحريض. تصرفات مثل رفع شعارات مستفزّة “شيعة، شيعة“، أو التعدّي على رموز دينية وثقافية، تعكس غياب الإحساس بالمسؤولية الوطنية عند القيّمين على هؤلاء الغوغائيين وتفاقم الشعور بالانقسام.
كان الأجدر بهؤلاء الخارجين عن القانون، الذين يجوبون الشوارع على دراجاتهم النارية ويعيثون فوضى في أمن البلاد وسلامة المواطنين، أن يتوجهوا بدراجاتهم نحو الجنوب اللبناني، حيث يقف الجيش الإسرائيلي؛ هناك، حيث المعركة الحقيقية وحيث تُختبر الرجولة والشجاعة والقدرة على الدفاع عن الأرض والعرض. لو فعلوا ذلك، لكانوا قد برهنوا بالفعل، أمام أنفسهم وأمام العالم، أنهم جديرون بحمل راية الدفاع عن الوطن بشكل عام وشيعة الإمام علي والإمام الحسين والسيّد موسى الصدر بشكل خاص، لا التسبّب في ترهيب أبنائه.
أما الآن، فإن تصرفاتهم العبثية لا تنّم إلا عن ضعفٍ في إدراك المعنى الحقيقي للنضال والوطنية. فالوطن لا يُدافع عنه بالشعارات الجوفاء والاستعراضات الفارغة في الشوارع، بل بالتضحيات الحقيقية حيث تشتّد المواجهة ويحتاج الوطن لمن يقف في وجه المعتدي. إن البطولة الحقيقية هي في مواجهة المحتّل، لا في استعراض القوة الزائفة على أبناء الشعب الأعزل.
لذلك، كان حريًا بهؤلاء أن يتوقفوا لحظة مع أنفسهم ويسألوا: ماذا قدمنا لوطننا؟ وهل نحن نصون الكرامة التي استشهد من أجلها المئات من الأبطال في مواجهة الاحتلال؟ إذ أن الدفاع عن الوطن لا يتحقّق بالتصرفات العشوائية والغوغائية التي تزيد من معاناة الشعب، بل بتوجيه الطاقات إلى مواجهة العدو الحقيقي الذي لا يزال يهدّد أمن الوطن واستقراره.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يمكن لمثل هذه التصرفات العشوائية والغوغائية أن تحقّق أي تغيير إيجابي؟ أم أنها تعمّق الجراح وتزيد من صعوبة تحقيق المصالحة الوطنية؟ الواقع يشير إلى أن الاستفزاز يولّد ردود فعل سلبية ويزيد من حدّة التوترات، في حين أن الحل الحقيقي يكمن في مد جسور الحوار والتسامح. ما يحتاجه لبنان اليوم هو خطاب جديد يقوم على المسؤولية المشتركة والعمل الجماعي لتجاوز الانقسامات. الفرصة لا تزال قائمة لخلق بيئة تسودها روح التسامح والتعايش، لكن ذلك يتطلّب إرادة جماعية لتجاوز الأحقاد والبدء بكتابة فصل جديد في تاريخ هذا الوطن.
- الإمام علي والإمام الحسين والسيّد موسى الصدر: رموز التسامح والحوار
من المؤسف أن تُستخدم أسماء شخصيات دينية عظيمة مثل الإمام علي والإمام الحسين والسيّد موسى الصدر لتبرير التصرفات الغوغائية في المناطق المسيحية. هؤلاء القادة التاريخيون لم يكونوا دعاة للتفرقة أو العداء، بل كانوا نماذج مضيئة للعدالة، والتسامح، والحوار.
الإمام علي بن أبي طالب، رمز الحكمة والعدل، قدّم دروسًا خالدة في فن إدارة الأزمات بحنكة ووعي. خطبه ورسائله تزخر بمعانٍ عميقة حول أهمية التعايش واحترام الآخر، حتى مع من يختلف معه في الفكر أو العقيدة. دعوته المستمرة إلى عدم الإساءة للخصوم واحترام حقوق الجميع تعكس رؤيته الإنسانية العظيمة لبناء مجتمع متماسك يسوده العدل والرحمة. كان الإمام علي يؤمن بأن قوة المجتمع تكمن في التزامه بالقيم الأخلاقية واحترام التنوع، وهو ما يجعل مبادئه نموذجًا خالدًا في بناء المجتمعات العادلة.
الإمام الحسين بن علي جسّد في كربلاء أسمى معاني التضحية والوفاء للقيم والمبادئ السامية. لم تكن ثورته مجرّد مواجهة لأشخاص بعينهم، بل كانت صرخة خالدة في وجه الظلم والطغيان، ودعوة صادقة لتحقيق العدالة الاجتماعية وإعلاء صوت المظلومين والمحرومين. حملت ثورته رسالة إنسانية عميقة تدعو إلى مقاومة الفساد والانتصار للحق مهما كان الثمن. قيم الإمام الحسين لا تزال تُلهم الأجيال جيلاً بعد جيل لتجاوز المصالح الضيقة والعمل بإخلاص من أجل الصالح العام، ما يجعل منه رمزًا خالدًا للإصلاح والتغيير.
السيّد موسى الصدر كان رائدًا في تعزيز الوحدة الوطنية في لبنان، ورمزًا للعمل من أجل التعايش والسلام بين مختلف مكونات المجتمع اللبناني. منذ ظهوره على الساحة اللبنانية، أولى أهمية قصوى لبناء جسور الحوار بين الطوائف، مسلطًا الضوء على ضرورة تجاوز الانقسامات الطائفية من أجل تحقيق مجتمع متماسك وقادر على مواجهة التحديات بروح واحدة. دعوته إلى التعايش المشترك ونبذ الطائفية لم تكن مجرّد كلمات، بل كانت رؤية عملية لإرساء أسس وطن قائم على العدالة والمساواة بين جميع أبنائه. تأسيسه للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى كان من أبرز خطواته العملية، حيث صُمّم ليكون منصّة تعزّز التفاعل الإيجابي بين مختلف الطوائف، وتعمل على تمكين الطائفة الشيعية ضمن الإطار الوطني العام، بعيدًا عن الإقصاء أو الانغلاق. هذا المجلس كان انعكاسًا لرؤية الإمام الصدر لوطن لا تتحكّم فيه المصالح الضيقة، بل تسوده قيم الحوار والتضامن. ومع ذلك، للأسف، لا يعكس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى اليوم روح الإمام الصدر ورؤيته الطموحة. غابت تلك القيم السامية التي أراد الإمام أن تكون أساسًا لعمل المجلس، ممّا يجعل الحاجة إلى استعادة نهجه ومبادئه أكثر إلحاحًا في وقتنا الحاضر.
استحضار هذه الشخصيات في السياق اللبناني الحالي يجب أن يكون فرصة للتأمّل في قيمهم العظيمة والعمل على تطبيقها في أرض الواقع. بدلاً من استخدام أسمائهم كشعارات تفرّق وتثير النعرات، يجب أن تكون مصدر إلهام لتعزيز الوحدة الوطنية والعمل من أجل بناء مستقبل أفضل يتجاوز الانقسامات الطائفية والسياسية.
- ذاكرة الاستضافة: منازل فتحت أبوابها في الأزمات
في الآونة الأخيرة، على سبيل المثال لا الحصر، لجأ الكثيرون من مناطق الجنوب والبقاع إلى مناطق المسيحية ومناطق أخرى بحثًا عن الأمان، حيث استضافتهم هذه المناطق بكرم وسخاء على الرغم من الظروف الإقتصادية الصعبة والتحديات الكبيرة التي كانت تواجهها. من بين هذه المحطات المضيئة، برزت بلدة دير الأحمر المسيحية، المعقل المعروف للقوات اللبنانية، كرمزٍ للتضامن الإنساني. فَتحت دير الأحمر أبوابها واستقبلت العائلات الشيعية النازحة من مختلف المناطق البقاعية، مؤكدّة أن القيم الإنسانية والتعايش تتجاوز كل الانقسامات الطائفية والسياسية. لم يُنظر إلى هؤلاء الضيوف كلاجئين، بل كجزء من نسيج اجتماعي متماسك يقوم على التعاون والاحترام المتبادل.
التذكير بمثل هذه المواقف الإنسانية ليس مجرّد احتفاء بمواقف معينّة، بل هو دعوة عملية لمواجهة الحاضر بروح من التضامن والاحترام المتبادل. إن تقدير هذه اللحظات التاريخية من الوحدة والتعاون يمكن أن يتحوّل إلى قوّة دافعة لبناء مجتمع جديد يتخطّى الطائفية، ويرى جميع أبنائه شركاء متساوين في الحقوق والواجبات، يعملون معًا من أجل وطن يليق بالجميع.
- نداء إلى الحوار والتسامح
الحوار لا يعني مجرّد التفاوض أو البحث عن حل مؤقت كما جرت العادة في هذا الوطن، بل هو عملية عميقة تتطلّب وعيًا جماعيًا بالمسؤولية السياسية تجاه المستقبل. إنه مسار يحتاج إلى عقول ناضجة، قلوب مفتوحة، وإرادة حقيقية من جميع الأطراف المعنية. التسامح هنا لا يعد أبدًا علامة على الضعف، بل هو تعبير عن القوة الحقيقية التي تعني القدرة على التجاوز عن أخطاء الماضي، والعزيمة على بناء علاقة جديدة قائمة على الاحترام المتبادل. التسامح هو الدافع للثقة المتبادلة، تلك الثقة التي تصبح الأساس المتين لبناء مجتمع موحّد يتخطّى الأحقاد والمشاعر السلبية التي تراكمت مع مرور الزمن.
المطلوب اليوم هو خطاب عقلاني ومسؤول يتسّم بالحكمة والمرونة من قبل المعنيين، من سياسيين ودينيين. خطاب يعي تمامًا أن المصير المشترك هو ما ينبغي أن يوجّه كل خطواتنا المستقبلية، وأن اختلافاتنا لا يجب أن تكون سببًا للفرقة بل مصدرًا للقوة والتنوع الذي يعزّز من عمق الهوية الوطنية. خطاب يتجنّب لغة الاستفزاز ويستبدلها بآفاق من التعاون البنّاء، ويشجّع على قبول الآخر والاحتكام إلى مصلحة الوطن العليا.
الحوار، إذاً، هو المفتاح لإنهاء دوامة الانقسامات التي يعيشها مجتمعنا، وهو الطريق نحو إعادة اللحمة الوطنية، فلا يمكننا بناء مستقبل واعد إلا إذا كنا مستعدين للاعتراف بحقوق بعضنا البعض، والتفاهم حول كيفية العيش المشترك بسلام.
- الخاتمة
المطلوب اليوم هو وعي جماعي من كافة الأطراف، وخصوصًا القيادات الدينية والسياسية — السياسيون والدينيون الحاليون في لبنان، للأسف، يظهرون انشغالاً مفرطًا بمصالحهم الشخصية والفئوية على حساب مصلحة الوطن والمواطن. في ظل أزمات متفاقمة تطال كل جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، يبدو أن الأولويات قد انحرفت بشكل كبير، حيث تُدار شؤون البلاد بمنطق المحاصصة والأنانية، بعيدًا عن أي رؤية وطنية شاملة تهدف إلى إنقاذ لبنان من أزماته المتراكمة — لرفض مثل هذه التصرفات والعمل على تعزيز خطاب الاعتدال والاحترام المتبادل. على الجميع أن يدرك أن قوة أي جماعة لا تُقاس بالاستعراضات الغوغائية أو التحركات الاستفزازية، بل بإسهاماتها في بناء وطن آمن ومستقّر تسوده العدالة والقيم الإنسانية النبيلة.
في أوقات الأزمات والانقسامات، يُنتظر من رجال الدين خاصةً أن يكونوا صوت الحكمة والاعتدال، وأن يعملوا على تهدئة النفوس وجمع الناس حول القيم الدينية السامية التي تدعو إلى المحبة، التسامح، والعيش المشترك. ولكن، بدلاً من الدعوة إلى الاحترام المتبادل والعمل المشترك، ينخرط البعض في لغة تحريضية تخدم مصالح فئوية ضيقة، متجاهلين التحديات الوطنية الكبرى التي تتطلّب وحدة الصف والابتعاد عن التعصّب.