الرحبانيان و فيروز
د. الياس ميشال الشويري
شهدت فترة الستينات كما والنصف الأول من السبعينات، ازدهارًا غير مسبوق للفنون الفولكلورية في لبنان، وكانت لهذا الازدهار جذور ثقافية واجتماعية عميقة مرتبطة بتحولات كبرى في المجتمع اللبناني. لعب الرحبانيان وفيروز دورًا أساسيًا في هذا التطوّر، إلى جانب السينما والسياحة، اللتين ساهمتا في صناعة صورة لبنان كوجهة ثقافية وسياحية متألقة. في هذا البحث، سنتناول ثلاثة محاور رئيسية: دور الرحبانيين وفيروز، تأثير السينما على الفنون الفولكلورية، وأثر السياحة والمهرجانات في تعزيز هذه الفنون.

- الرحبانيان وفيروز – نهضة الأغنية والمسرح الفولكلوري
منذ الخمسينات، كان للأخوين رحباني تأثير عميق على الأغنية اللبنانية، حيث قدّما نموذجًا جديدًا للمسرح الغنائي، مزج بين التراث الفولكلوري والحداثة الشعرية والموسيقية. شكلت أعمالهما المسرحية منصة انطلاق للأغنية اللبنانية الجديدة، التي حملت روح الفولكلور وأدخلت عناصر درامية واستعراضية جعلت العروض أكثر جذبًا للجماهير. مسرحيات مثل بياع الخواتم وجبال الصوان لم تكن مجرد عروض غنائية، بل كانت احتفالات ثقافية تستلهم الهوية اللبنانية بعمقها الشعبي وتعيد تقديمها بأسلوب حديث.
لعبت فيروز دورًا محوريًا في نشر هذا الفن، حيث أصبح صوتها المرتبط بالكلمة الشعرية والنغمة العذبة وسيلة لإيصال الفولكلور بأسلوب راقٍ وجذاب. لم تكن أغانيها مجرد استعادة للموروث الشعبي، بل إعادة صياغة له بروح جديدة تناسب العصر. كانت هذه الأغاني قادرة على تجاوز الحدود الاجتماعية والطائفية، مما جعلها محبوبة في لبنان والعالم العربي.
لم يقتصر تأثير الرحبانيين وفيروز على تقديم الأغنية الفولكلورية بطريقة حديثة، بل ساهموا أيضًا في خلق جمهور جديد للفنون الاستعراضية الفولكلورية. لقد صنعوا حالة ثقافية متكاملة تزاوج بين الموسيقى والشعر والمسرح، مما مهّد الطريق لازدهار فرق الرقص الفولكلوري والمهرجانات الكبرى التي تبنت هذا النمط الفني وأصبح جزءًا أساسيًا من المشهد الثقافي اللبناني.

- السينما اللبنانية ودورها في نشر الفنون الفولكلورية
كانت السينما اللبنانية في تلك الحقبة عاملاً مساعدًا في إبراز الفنون الفولكلورية، حيث قدمت أفلامًا موسيقية مستوحاة من المسرح الرحباني ومن الغناء الفولكلوري. أفلام مثل سفر برلك وبياع الخواتم لم تكن مجرد إنتاجات سينمائية، بل كانت أدوات لترويج الثقافة اللبنانية محليًا وعربيًا.
أدخلت الأفلام اللبنانية في تلك الفترة الأغنية الفولكلورية ضمن سياقات درامية وسينمائية جديدة، ما منحها بُعدًا أوسع، حيث لم تعد مقتصرة على الحفلات والمهرجانات، بل أصبحت جزءًا من الثقافة البصرية والمشهدية المتداولة في العالم العربي.
مع ازدياد شعبية السينما اللبنانية، بدأ المخرجون والموسيقيون العرب في تبني الأنماط الفولكلورية اللبنانية، مما ساهم في نشرها على نطاق أوسع. كانت السينما اللبنانية نافذة للعالم العربي للتعرف على لبنان وثقافته الفريدة، الأمر الذي زاد من الاهتمام بالفن الفولكلوري اللبناني كمكون أساسي للهوية الوطنية.

- السياحة والمهرجانات كعوامل داعمة للفنون الفولكلورية
مع ازدهار السياحة في لبنان، شهدت البلاد نهضة كبيرة في المهرجانات الفنية، مثل مهرجانات بعلبك وبيت الدين وجبيل، التي تحولت إلى فضاءات رئيسية لعرض الفنون الفولكلورية. أصبحت هذه المهرجانات بمثابة جسور ثقافية تجمع بين الفن اللبناني والجماهير العربية والعالمية.
لعبت السياحة دورًا محوريًا في دعم هذه الفنون، إذ أصبحت العروض الفولكلورية عنصرًا أساسيًا في البرامج السياحية، مما ساهم في تعزيز مكانة هذا الفن كمصدر جذب اقتصادي وثقافي. كان الزوار الأجانب والعرب يقصدون لبنان ليس فقط للاستمتاع بجمال الطبيعة، ولكن أيضًا لحضور العروض الفولكلورية التي تعكس الروح اللبنانية الفريدة.
كان لازدهار الفنون الفولكلورية دور أساسي في تشكيل صورة لبنان كدولة ذات ثقافة غنية ومتنوعة. فقد أسهم هذا الازدهار في تقديم لبنان كوجهة ثقافية وحضارية متقدمة، مما عزز من مكانته الإقليمية والدولية. حتى اليوم، ما زالت آثار هذه الفترة حاضرة في المشهد الثقافي اللبناني، رغم التحديات التي واجهتها الفنون الفولكلورية لاحقًا.

- الخاتمة
شكلت حقبة الستينات والنصف الأول من السبعينات العصر الذهبي للفنون الفولكلورية في لبنان، بفضل الدور الريادي للرحبانيين وفيروز، وتطور السينما، وازدهار السياحة والمهرجانات. لم تكن هذه الفنون مجرد مظاهر ترفيهية، بل كانت جزءًا من مشروع ثقافي متكامل ساهم في إبراز الهوية اللبنانية وتجديدها. ومع التغيرات السياسية والاجتماعية التي شهدها لبنان لاحقًا، تراجعت هذه الفنون في بعض المراحل، لكنها ما زالت تشكل جزءًا أساسيًا من الذاكرة الثقافية اللبنانية، وتبقى أعمال الرحبانيين وفيروز نموذجًا خالدًا للفن الفولكلوري المتجدد.