سلالة جديدة متحوّرة من فيروس كورونا
الصيدلي الدكتور ابراهيم علي ابورمان (من وزارة الصحّة الأردنيّة) خصّ مجلة “تأمين ومصارف” بمقال علميّ مبسّط عن كيفيّة نشوء الفيروسات وتوالدها، وما الفرق بين تلك التي تعتمد على الشريط الوراثي RNA وتلك التي تتكوّن من شريط وراثي آخر هو الـ DNA. وتبسيطًا للقرّاء، شرح كيف تحدث الطفرات والعوامل المساعدة لها، متوقّفًا عند بعض الأمثلة الشهيرة من التاريخ للتوضيح لا للحصر: فيروس الانفلونزا، فيروس كورونا، وفيروس نقص المناعة المكتسبة (AIDS). وتناول في سياق هذا البحث فيروسات كورونا المتحوّرة الجديدة التي ظهرت أوّلاً في المملكة المتحدة ومن ثمّ في فرنسا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تحوّر فيروس Covid-19 كان متوقعًا وحذّر منه الباحثون مُسْبقًا. كان متوقعًا لأن الفيروسات التي تعتمد في جينومها (genome) على الشريط الوراثي RNA، لا تمتلك آلية لتصحيح الاخطاء، بخلاف الفيروسات التي تتكوّن من الشريط الوراثي DNA حيث تكون هناك في أثناء استنساخ الفيروس آلية للتصحيح وإزالة الخلل. إنّ الـ Covid-19 وشبيهاته من فيروسات الانفلونزا والايدز وغيرها، لا يكون هناك مجال لتصحيح الخطا، فتنتج من ذلك نسخة منه، مع بعض التغيّرات في الشريط الوراثي، اعتمادًا على مكان القصّ وتموضع الشريط الوراثي للفيروس في الخلية المستهدفة .
في السطور التالية محاولة لتقريب الفكرة للقارئ والاستشهاد ببعض الفيروسات التي يمكن ان يحدث لها تَحوّر. وسألقي في ختام العرض بعض الضوء على الاعراض المتوقعة للفيروسات المتحوّرة ومدة المناعة المكتسبة منه.
إنّ الفيروسات ليست أكثر من مجرّد أجزاء طفيلية من الحمض النووي (RNA) أو الحمض النووي (DNA). وعلى رغم ذلك، فهي وفيرة بشكل مدهش من حيث العدد والتنوّع الجيني، لدرجة أننا لا نعرف عدد أنواع الفيروسات الموجودة على كوكب الأرض، والتي قد تصل إلى تريليونات، وتفوق أعداد البشر عشر مرات.
ففيما يهتمّ علماء الفيروسات، بشدّة، بكيفية تحوُّر الفيروسات وانتقالها بين الأنواع المختلفة وفَهْم هذه العملية إلى حد ما، لا تزال هناك العديد من الفجوات في المعرفة. فمعظم الفيروسات متخصّصة، وتنشئ ارتباطات طويلة مع الأنواع المضيفة (العوائل) المفضّلة لديها. في هذه العلاقات، قد لا يسبِّب الفيروس أعراض المرض، بل قد يستفيد كل من الفيروس والمضيف في التكافل.
ومثلما شكَّل الانتقاء الطبيعي تطوّر البشر والنباتات وجميع الكائنات الحية على كوكب الأرض، يشكِّل الانتقاء الطبيعي الفيروسات أيضًا. وعلى رغم أن الفيروسات غير حية تقنيًّا، إذ تحتاج إلى كائن مضيف من أجل التكاثر، إلاّ أنّها تخضع لضغوط تطوريّة. فالفيروس الذي يتسبَّب في موت مضيفه، مضطر للبحث عن مضيف جديد وصحّي ليبقى ويستمر.
من حين لآخر، تنتشر الفيروسات من مضيفها الأصلي إلى مضيف جديد. عندما يحدث هذا، يزيد خطر الإصابة بالمرض. إن معظم الأمراض المعدية التي تصيب البشر والحيوانات ناجمة عن عملية الانتشار هذه. فيروس كورونا الجديد، ليس «جديدًا» في الواقع. فقد تحوَّر على مدى فترة طويلة، ربما ملايين السنين، في أنواع أخرى من الكائنات الحية لا تزال موجودة.
إنّ عملية انتشار الفيروس عملية معقّدة وغير مفهومة بالكامل. في الطبيعة، تقتصر الفيروسات بمعظمها على مضيفَيْن معيّنَيْن بسبب تفاعلات بروتين تسمى «تفاعلات القَفْل والمفتاح». وهي تتعلق بوجود جزء من بروتين الغلاف الخارجي للفيروس (مفتاح)، يطابق ويُكْمل جزءًا من الغلاف البروتيني للخلية في المضيف (قَفْل). ما يعني أن الفيروس لا يمكنه إصابة أي كائن طالما لا توجد به أجزاء تتطابق مع الفيروس.
ولكي يصيب الفيروس مضيفًا جديدًا، قد يلزم تعديل بعض مفاتيح البروتين أو كلّها. يمكن أن تحدث هذه التعديلات، التي تسمى «الطفرات»، داخل المضيف القديم أو الجديد أو كليهما. على سبيل المثال، يمكن للفيروس أن يقفز من «المضيف A» إلى «المضيف B»، لكنه لن يستطيع إجراء عملية الاستنساخ أو الانتقال بين أفراد المضيف الثاني، ما لم تحدث طفرات متعددة في مفاتيح البروتين، إما في وقت واحد، وإما على التوالي. الاحتمال المنخفض لوقوع هذه الطفرات بهذا الشكل بالتحديد، يجعل الآثار غير المألوفة للفيروسات غير شائعة.
كيف تحدث الطفرات؟
لفهم كيفية حدوث الطفرات في الفيروسات يمكننا أن نتخيّل أن الفيروس عبارة عن كتيّب تعليمات محدّد مطبوع على قطعة من الورق. يصف هذا الكتيّب التالي:
1- كيف تعيش في نوع خليّة معين، داخل مضيف معين.
2- كيفية الانتقال إلى الخليّة المجاورة.
3- كيفية الانتقال إلى فرد جديد من النوع نفسه.
4- كيفية صنع آلة نسخ الفيروسات.
من المفترض أن تُنتِج هذه الآلة، وهي إنزيم يسمى إنزيم البلمرة، نسخًا متطابقة لا نهاية لها من كتيّب التعليمات هذا. ومع ذلك، يرتكب الإنزيم أحيانًا أخطاء. قد يحدث لإحدى الكلمات، أو قد تضاف إحدى الكلمات، أو حتى عبارة جديدة كاملة إلى كتيّب التعليمات، ممّا يغيّر من تلك التعليمات التي يجب أن يسير عليها الفيروس.
في بعض الأحيان، تضاف تعليمات جديدة تشرح كيف يمكن الفيروس أن يعيش داخل أنواع مضيفة جديدة تمامًا. فإذا التقى الفيروس والمضيف الجديد، يمكن أن يحدث تفشٍّ جديد. وهذا ما حدث في فيروس كورونا الجديد، فقد حدثت طفرة تسبّبتْ في إضافة تعليمة جديدة تتعلق بانتقاله إلى البشر، وهو ما تسبب في حالة التفشي الذي نعيش فيه.
ولكن هل هناك عوامل مساعدة لحدوث الطفرات؟
يؤدي النشاط البشري وسرعة الانتشار إلى ظهور فيروسات جديدة مسبِّبة للأمراض. فمن خلال التجارة وسرعة الانتقال مقارنة بالسابق يسهل انتقال وانتشار الفيروسات الى جميع المناطق، وهذا ما لوحظ بسهولة في سرعة انتشار فيروسات الكورونا ومن خلال التدخّل في الحياة الفطرية عبر قطع الأشجار من أجل إنشاء المزارع والمنازل، ما يؤدّي إلى تفاعل فيروسات الحياة البرية مع المحاصيل، والحيوانات الاليفة واختلاطها بالبشر بحيث يصبح هذا التفاؤل هدفًا يسهّل انتقال الفيروسات من الحيوان الى الانسان. وبما أنّ البشر يتسبّبون في الاحتباس الحراري، ما يسمح لبعض الأنواع بتوسيع نطاقها الجغرافي باللجوء إلى مناطق كانت شديدة البرودة في السابق، للعيش فيها. ونتيجة لذلك، يتحوّر الفيروس ويلتقي بمُضيفَيْن جدد للمرة الأولى حيث تكون أنواع الفيروسات التي تطوّرت بشكل منفصل سابقًا، أصبحت تختلط الآن مع مضيفين جدد. وتسمح الأسواق العالمية بالتجارة الحرّة للحيوانات الحيّة، بما في ذلك البيض واللحوم والخضراوات والزهور، بانتقال الفيروسات.
وهل تختلف الطفرات بين أنواع الفيروسات؟
كما ذكرنا سابقًا، فإن الفيروسات – حسب تركيبها الجيني – تنقسم إلى قسمَيْن رئيسيَيْن، فيروسات الحمض النووي (RNA)، وفيروسات الحمض النووي (DNA). الفرق الأساسي بينهما أن الـ RNA هو شريط مفرد من المادة الجينية، بينما الـ DNA هو شريط مزدوج من المادة الوراثية.
الحمض النووي DNA جزيء أكثر استقرارًا من الحمض النووي الـ RNA، وتتميز فيروسات الـ DNA بأن لديها عملية فحص وتدقيق كجزء من عملية الاستنساخ التي تحدث عبر إنزيم البلمرة، إذ يستخدمون الخلية المضيفة للتحقّق من صحة تكرار المادة الوراثية على الحمض النووي الفيروسي.
إذا ارتكب فيروس DNA خطأ في نسخ الحمض النووي، يمكن للخلايا المضيفة، في كثير من الأحيان، تصحيح الخطأ. لذا، فإن فيروسات DNA لا تتغيّر أو تتحوّل كثيرًا. ومع ذلك، فإن الحمض النووي RNA جزيء غير مستقر، ولا تحتوي فيروساته على خطوة تدقيق مدمجة، وبالتالي تحدث أخطاء في عملية نسخ RNA بشكل متكرّر، ولا تصحِّح الخليّة المضيفة هذه الأخطاء. لذلك تتكرر طفرات فيروس RNA، ويمكن أن يكون لها عواقب مهمة على مضيفيها.
ولكن ما هي أشهر الأمثلة للفيروسات المتحورة؟
هناك العديد من الأمثلة المشهورة في التاريخ، خصوصًا كلّ تلك الأوبئة التي قتلت الملايين بسبب فيروسات. هذه بعض الأمثلة للتوضيح لا الحصر:
1. فيروس الإنفلونزا الذي ربما كان المثال الواضح والأبرز للفيروسات الأكثر تحوُّرًا. ينقسم إلى ثلاثة أنواع، AوB وC. ويتكوّن من سبعة أو ثمانية أجزاء من الحمض النووي RNA داخل غلاف بروتيني. الطفرات في فيروس الإنفلونزا تتعلق ببروتينات السطح في الغلاف الخارجي له، مما يجعله يظهر بشكل مختلف في كل مرة لجهاز المناعة، وبالتالي نحتاج لتطوير اللقاح سنويًّا.
أحيانًا تحدث طفرات عنيفة تتسبّب في حدوث أشهر التفشيات الوبائية، مثل الإنفلونزا الإسبانية عام 1918، وإنفلونزا الطيور عامَيْ 2003، و2009، وغيرها.
- فيروس كورونا الذي ينتمي إلى الفيروسات التاجية، وهي مجموعة من فيروسات RNA، وبالتالي هي كثيرة التحوُّر أيضًا. المميّز في هذه الفيروسات أنها، إلى وقت قريب، كانت مقتصرة على الحيوانات. حدثت طفرة معيّنة تسبّبت بانتقال الفيروسات إلى البشر، وهو ما تسبب في تفشي SARS عام 2002. ثم تسبّبت إحدى الطفرات في تفشي MERS عام 2012. كلاهما كان يتعلق بانتقال المرض من الحيوانات إلى البشر.
لكن الطفرة الأقوى هي التي حدثت نهاية عام 2019 في ووهان الصينية، عندما مكَّنت الفيروس من الانتقال بين البشر، ليتسبب في الوباء الذي نعيشه حاليًا.
3. فيروس نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) الذي يتميّز بأنه متغيّر وراثيًّا للغاية. تكاثره بسرعة أكبر بكثير من معظم الكيانات الأخرى، إذ يمكنه إنتاج مليارات النسخ من نفسها كل يوم. ولكونه فيروس RNA، تحدث الكثير من الأخطاء والطفرات في الشفرة الجينية. وكلما زادت فائدة الطفرات في بقاء الفيروس، زاد احتمال أن يتكاثر الفيروس المتحوّر نفسه. وبسبب المعدّل السريع لتطوّر الفيروس، يمكن أن يطوِّر مقاومة للأدوية المضادة له بسرعة. وللسبب نفسه يصعب إيجاد لقاح ضد فيروس سريع التغيُّر.
في العودة الى فيروسات كورونا المتحوّرة، نشير إلى أنّ سلالة كورونا الجديدة آخذة في الانتشار، بعد ظهورها لأول مرة في المملكة المتحدة والإبلاغ عن بعض الحالات في عدد من دول العالم. ويحذّر الخبراء من بعض الأعراض التي يتميّز بها الفيروس المتحوّر، والتي يجب الحذر منها والانتباه إليها في حال ظهورها. والسلالة الجديدة لا يعتقد أنها أكثر خطورة من الحالية، إلا أنها سريعة الانتشار بنسبة 70 بالمئة.
في ما يلي الأعراض يجب الانتباه إليها: حمى أو قشعريرة، سعال، ضيق في التنفس أو صعوبة التنفس، الإجهاد، آلام في العضلات أو الجسم، صداع في الرأس، فقدان حاسة التذوّق أو الشم، التهاب الحلق، احتقان أو سيلان الأنف، الغثيان أو القيء، إسهال.
ويقول الأطباء إن الأعراض التي مشابهة، إلى حد ما، مع السلالة الأولى، مشيرين إلى أنها تتراوح بين الخفيفة والشديدة، ويمكنها أن تظهر من يومين إلى 14 يوما. ونصح المصدر بالاستمرار في الالتزام بالإجراءات الاحترازية، مثل ارتداء الكمامة والحفاظ على التباعد الاجتماعي وتجنُّب الأماكن المزدحمة وغسل اليدين باستمرار.
وفي ما خصّ المناعة المكتسبة من الاصابة بالكورونا، فقد توصلت دراسة إلى أن المناعة ضد عدوى فيروس كورونا تستمر 8 أشهر على الأقل بعد الشفاء من المرض. وأفاد باحثون مؤخّرَا أن مناعة الناس ضد فيروس كورونا تستمر ثمانية أشهر على الأقل، بعد تعافيهم من العدوى. كذلك أظهرت دراسة أجريت على 188 شخصاً تعافوا من عدوى “كوفيد-19” أن لديهم حماية مناعية واسعة بعد أشهر، ليس من الأجسام المضادة فقط وإنّما أيضًا من عدّة أنواع من الخلايا المناعية التي يجمعها الجسم بعد الإصابة.
وفي تقرير نُشر في مجلة “Science”، أوضح الباحثون أنّ الذاكرة المناعية في ثلاثة أجزاء مناعية على الأقل، كانت قابلة للقياس لدى حوالي 95٪ من الأشخاص بين خمسة وثمانية أشهر بعد ظهور الأعراض، ما يشير إلى أن المناعة الدائمة ضد مرض كوفيد-19 الثانوي هو احتمال لدى معظم الأفراد، من خلال بقاء الاجسام المضادة التي يمكن الكشف عنها بسهولة عبر الفحوص المخبرية.
وبينما كانت هناك مخاوف من تلاشي استجابة الجسم المضاد، عملت الدكتورة جينيفر دان من معهد La Jolla لعلم المناعة وجامعة كاليفورنيا في سان دييغو مع فريقها لمعرفة مدى تأثر الاستجابات المناعية للناجين من “كوفيد -19″، موضحة أنهم وجدوا العكس تماماً. لقد وجدت دان وفريقها أن أجسام الأشخاص كانت تنتج أجسامًا مضادة وخلايا ذاكرة “B” وخلايا “CD8 T” وخلايا “CD4 T” لمدة ثمانية أشهر بعد إصابة الأشخاص بالمرض. ما حمل الباحثين إلى الاستنتاج أنّه على رغم وجود تقارير عن إصابة أشخاص مرتين بفيروس كورونا، إلا أن الدراسات الكبيرة أظهرت أنّ حدوث هذه الحالة يُعتبر نادرًا.