الرئيس الفرنسي في بيروت مواسياً بعد انفجار المرفأ
د. الياس ميشال الشويري
لطالما كان لبنان، بجغرافيته وتاريخه، موضوع اهتمام دولي بارز نظرًا لدوره كمحور أساسي بين الشرق والغرب. في فترة الخمسينات والستينات، اعتُبر لبنان نموذجًا للتقدّم الاقتصادي والثقافي، حيث شكّل بوّابة تجارية وثقافية مهمّة بفضل تنوّعه الديني والثقافي، وتحرّره النسبي مقارنة بدول المنطقة. هذه الحقبة الذهبية أكسبت لبنان لقب “سويسرا الشرق”، حيث اجتذب السياح والمستثمرين من كل أنحاء العالم، وأصبح مركزًا تجاريًا وثقافيًا في الشرق الأوسط.
ومع ذلك، هذا الازدهار لم يدّم طويلًا، إذ بدأت التوترات الطائفية والسياسية تتصاعد. وقد شهد لبنان واحدة من أحلك فتراته في تاريخه الحديث مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، التي دمّرت النسيج الاجتماعي والاقتصادي للبلاد. انتهت الحرب باتفاق الطائف، الذي أنهى الصراع المسلّح، لكنه لم يستطع معالجة الأسباب الجذرية للصراعات الطائفية والسياسية.
خلال العقود اللاحقة، عانى لبنان من انهيار اقتصادي وسياسي تدريجي، حيث أصبحت البلاد تعتمد بشكل كبير على التحويلات الخارجية والمساعدات الدولية. الفساد، الذي كان موجودًا قبل الحرب، أصبح أكثر تجذرًا بعد الحرب نتيجة لتقاسم السلطة الطائفي الذي شلّ المؤسسات الحكومية وأضعف قدرتها على تنفيذ إصلاحات حقيقية.
اليوم، ينظر العالم إلى لبنان من زاوية مختلفة تمامًا. الدول الديمقراطية المتقدّمة، التي كانت تعتبر لبنان نموذجًا للتعايش الثقافي والاقتصادي، باتت تراه دولة شبه فاشلة. الأزمات المتلاحقة، بدءًا من الأزمة المالية والاقتصادية، إلى الانفجار الكارثي في مرفأ بيروت عام 2020، أظهرت أن البلاد في حالة انهيار مستمر. البنية التحتية المتردية، ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، والنظام السياسي الطائفي الذي يشلّ الحكومة، كلها عوامل جعلت من الصعب على لبنان النهوض مجددًا.
الأزمة الحالية ليست فقط نتاج مشاكل داخلية، بل تتأثر أيضًا بالصراعات الإقليمية. لبنان يجد نفسه عالقًا في صراعات بين القوى الإقليمية والدولية، ما يزيد من تعقيد الوضع ويجعل من الصعب تحقيق استقرار دائم. في ظل هذا الوضع، يعاني الشعب اللبناني من تداعيات الفساد والسياسات الإقليمية، ويعيش يوميًا تحديات اقتصادية واجتماعية خانقة.
باختصار، ما كان يومًا نموذجًا للريادة والتحضر في المنطقة، أصبح اليوم رمزًا لدولة تعاني من الفساد والانهيار.
- الأزمة السياسية اللبنانية في مرآة العالم الحر.
ينظر العالم الحر إلى لبنان اليوم على أنه نموذج للشلل السياسي المزمن، حيث تعاني البلاد من أزمة حكومية مستمرة تتمثل في العجز عن تشكيل حكومات مستدامة، والفراغات الرئاسية المتكرّرة، وتأجيل الانتخابات البرلمانية أو تجديد الوجوه السياسية الفاسدة في السلطة. هذا الشلل يعكس ضعف المؤسسات اللبنانية وعدم قدرتها على العمل بشكل فعّال لتلبية حاجات الشعب، ما أدى إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.
منذ نهاية الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، تم تصميم النظام السياسي في لبنان على أساس المحاصصة الطائفية، التي تقسم السلطة بين الطوائف الدينية المختلفة، بهدف تحقيق التوازن والاستقرار. في البداية، كان هذا النظام يبدو وسيلة فعّالة للحفاظ على التعددية الدينية والسياسية في بلد يتسّم بتنوّعه الكبير. ولكن مع مرور الوقت، تحوّل هذا النظام إلى عقبة أمام تحقيق أي تقدم فعلي. بدلًا من تعزيز الاستقرار، أدى إلى تعميق الانقسامات الطائفية وتعزيز الصراعات الداخلية حول المناصب والنفوذ.
النظام الطائفي هذا جعل من المحاصصة السياسية المحور الأساسي لتوزيع السلطة، ما أدى إلى عجز الحكومة عن اتخاذ قرارات جذرية وحاسمة. هذا العجز ساهم في شلل النظام السياسي، حيث أصبحت المناصب السياسية تُستغل لتحقيق مصالح شخصية أو طائفية ضيقة، بدلًا من العمل من أجل مصلحة الشعب ككل. نتيجة لذلك، تراجعت فعالية الحكومة وقدرتها على مواجهة الأزمات المتلاحقة.
من وجهة نظر العالم الحر، يُعتبر النظام السياسي في لبنان نموذجًا لديمقراطية مشلولة، حيث تُجري الانتخابات وتُشكل الحكومات، لكن دون أي تحسّن فعلي في إدارة الدولة أو تقديم حلول للمشاكل المزمنة. الفساد، الذي ينتشر في جميع مستويات الحكومة، يجعل من الصعب تطبيق إصلاحات حقيقية. كما أن التأخير المتكرر في إجراء الانتخابات أو الفراغات الرئاسية المطوّلة يُظهر عدم وجود إرادة سياسية حقيقية لتجاوز الأزمات.
أبرز التحديات التي يواجهها لبنان في ظلّ هذا النظام السياسي هي تداخل الطائفية مع السياسة. الطائفية، التي كان من المفترض أن تخلق توازنًا واستقرارًا، أصبحت عاملاً معرقلًا للإصلاح والتقدّم. الأحزاب السياسية المرتبطة بالطوائف المختلفة تسعى إلى تعزيز نفوذها ومصالحها الضيقة، بدلًا من السعي لتحقيق المصلحة العامة.
النظام الطائفي أيضًا يجعل من التحالفات السياسية أمرًا شديد التعقيد. يجب أن تتم جميع القرارات الكبرى بناءً على توافق بين الأطراف الطائفية، مما يؤدي إلى بطء في عملية صنع القرار وغياب الكفاءة في إدارة الأزمات. هذا الجمود يُعزز الصورة التي يرى فيها العالم الحر لبنان كنموذج لدولة غير قادرة على تجاوز أزماتها الداخلية بسبب النظام السياسي الطائفي الذي يمنع تحقيق الديمقراطية الفاعلة.
بالتالي، يرى العالم الحر في لبنان نموذجًا لنظام سياسي لا يستطيع تقديم حلول فعّالة للأزمات التي تعصف بالبلاد. النظام الحالي يحتاج إلى إصلاح جذري، يبدأ بتفكيك المحاصصة الطائفية وإعادة هيكلة النظام السياسي ليصبح قادرًا على العمل بكفاءة وتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية لجميع المواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية.
-نموذج للفساد المؤسسي. من وجهة نظر الدول الغربية، يُعد الفساد المؤسسي في لبنان أحد أكبر العوامل التي تعيق تقدمه وتجعله في حالة شلل سياسي واقتصادي دائم. هذا الفساد، الذي أصبح جزءًا لا يتجزأ من النظام السياسي والاقتصادي، يُعتبر العقبة الرئيسية أمام أي جهود حقيقية للإصلاح أو النهوض بالدولة. السياسيون وقادة الطوائف في لبنان يستخدمون مواقعهم ومراكز نفوذهم لتحقيق منافع شخصية على حساب مصلحة الشعب والوطن، مما يؤدي إلى تفاقم الأزمات التي يعيشها البلد.
تقارير منظمات الشفافية الدولية تصنّف لبنان بشكل متكرر كواحد من أكثر الدول فسادًا في العالم، حيث تُظهر هذه التقارير كيف أن الفساد ينتشر في جميع مستويات الحكومة، من المناقصات العامة وصولاً إلى الإدارات الصغيرة. هذا التقييم يعزز من وجهة نظر الدول الغربية التي ترى في لبنان نموذجًا للدولة التي تعاني من الفساد المستشري.
–التأثيرات السلبية للفساد على الاقتصاد والمجتمع. من أبرز تداعيات الفساد في لبنان هو الانهيار الاقتصادي الذي تعيشه البلاد. الهدر الكبير في الموارد العامة وسوء إدارة الأموال العامة أديا إلى انهيار البنية التحتية، وارتفاع الدين العام إلى مستويات غير مسبوقة. كما أن القطاع العام مثقل بالديون والموظفين الذين يعينون وفقًا لمعايير طائفية أو على أساس الولاءات الشخصية والسياسية، وليس بناءً على الكفاءة. هذا الأمر يعوق قدرة الدولة على تقديم الخدمات الأساسية مثل التعليم، الصحة، والكهرباء، التي أصبحت في حالة انهيار تام.
انهيار الثقة بين الشعب والطبقة الحاكمة هو أيضًا نتيجة مباشرة للفساد المستشري. اللبنانيون فقدوا الثقة في حكومتهم وفي مؤسسات الدولة التي يرونها غير قادرة أو غير راغبة في خدمة المصلحة العامة. هذا الفساد ساهم في تزايد الاحتجاجات الشعبية التي بدأت منذ عام 2019، حيث خرج المواطنون إلى الشوارع مطالبين بإصلاحات جذرية، وإنهاء الفساد، ومحاسبة الطبقة السياسية المتورطة في نهب البلاد.
–عقبة أمام الإصلاح والتقدم. من وجهة نظر العالم الحر، يعتبر الفساد المؤسسي في لبنان عقبة أمام أي تقدم حقيقي. الإصلاحات الاقتصادية والسياسية المطلوبة لاستعادة الثقة وتحقيق الاستقرار تصطدم بالجدران التي يبنيها السياسيون الفاسدون للحفاظ على مصالحهم الخاصة. الدول الغربية، التي تقدم مساعدات مالية وإنسانية للبنان، تشعر بالإحباط من عدم قدرة الحكومة اللبنانية على تنفيذ إصلاحات جوهرية بسبب التشابك بين المصالح السياسية والفساد.
كما أن غياب الشفافية والمساءلة يجعل من الصعب مراقبة أو محاسبة المسؤولين عن الفساد. المناصب السياسية في لبنان غالبًا ما يتم توزيعها بناءً على المحاصصة الطائفية، مما يؤدي إلى خلق تحالفات بين الطبقات الحاكمة التي تحمي بعضها البعض من المساءلة. هذه المنظومة المغلقة تعيق بشكل كبير أي محاولات لإجراء إصلاحات سياسية أو اقتصادية، وتحول دون تحقيق ديمقراطية حقيقية.
-الفساد كمصدر رئيسي للأزمات الاجتماعية والسياسية. الفساد في لبنان ليس مجرد قضية اقتصادية، بل هو أيضًا مصدر رئيسي للأزمات الاجتماعية والسياسية. توزيع المناصب والموارد على أساس طائفي يجعل من الصعب تحقيق العدالة الاجتماعية أو المساواة بين المواطنين. الصراعات السياسية بين الطوائف المختلفة تُغذى من خلال هذا الفساد، حيث تسعى كل طائفة إلى تعزيز نفوذها على حساب الطوائف الأخرى من خلال السيطرة على الموارد والمناصب العامة.
هذا النظام الطائفي الفاسد يجعل من الصعب جدًا تحقيق استقرار سياسي حقيقي. الأزمات المتكررة، مثل الفراغ الرئاسي أو العجز عن تشكيل حكومات مستقرة، هي نتيجة مباشرة للفساد الذي يعطل سير العمل السياسي. حتى الأزمات الإقليمية والدولية، مثل النزاعات في سوريا واليمن، تُستغل من قبل الطبقة الحاكمة في لبنان لتعزيز مواقعهم الداخلية عبر التلاعب بالتحالفات الإقليمية، مما يزيد من تعقيد الأوضاع.
-الطريق إلى الأمام: الإصلاحات المطلوبة. من وجهة نظر الدول الغربية، الحل الوحيد للخروج من هذه الحلقة المفرغة هو الإصلاح الجذري للنظام السياسي والاقتصادي في لبنان. يجب أن تكون هناك إصلاحات مؤسسية تهدف إلى تفكيك المحاصصة الطائفية وتطبيق معايير الكفاءة والشفافية في الحكم. الدول الغربية طالبت مرارًا وتكرارًا بضرورة إنهاء الفساد وتفعيل آليات للمساءلة والمحاسبة.
إضافة إلى ذلك، يتطلب الأمر إصلاحًا في القطاع القضائي ليكون مستقلاً ونزيهًا، قادرًا على محاسبة المتورطين في الفساد دون أي ضغوط سياسية. هذا النوع من الإصلاحات، إذا ما تم تطبيقه بشكل صحيح، يمكن أن يعيد الثقة للمواطنين ويساعد في إعادة بناء الدولة من جديد على أسس ديمقراطية حقيقية.
الخلاصة. في النهاية، يُعتبر الفساد المؤسسي في لبنان العائق الأكبر أمام تقدم البلاد نحو الاستقرار والديمقراطية. من وجهة نظر العالم الحر، فإن هذا الفساد ليس فقط مشكلة داخلية، بل هو تحدٍ عالمي يتطلب تعاونًا دوليًا لمعالجته. الفساد يعطل كل مجالات الحياة في لبنان ويزيد من تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، مما يحول دون تحقيق أي تقدم حقيقي.
2-الأزمة الاقتصادية وانعكاساتها على العلاقات الدولية
· انهيار الاقتصاد اللبناني
الانهيار الاقتصادي الذي يشهده لبنان منذ عام 2019 يُعتبر من أسوأ الأزمات الاقتصادية في العالم خلال العصر الحديث. هذا الانهيار لم يكن مجرد نتيجة لتقلبات السوق أو عوامل خارجية، بل هو نتاج لعقود من سوء الإدارة الاقتصادية، والفساد المستشري، والفشل المستمر في تنفيذ إصلاحات جذرية على المستوى السياسي والاقتصادي.
-عوامل الانهيار الاقتصادي في لبنان. على مدى عقود، اعتمد الاقتصاد اللبناني على نموذج مصرفي ريعي يعتمد على تدفق الودائع من المغتربين والفوائد المرتفعة التي تقدمها البنوك على هذه الودائع. ولكن مع تصاعد الديون العامة وانخفاض التحويلات المالية من الخارج، أصبحت المؤسسات المالية اللبنانية غير قادرة على تلبية التزاماتها. البنوك، التي كانت تُعتبر في وقت من الأوقات أحد أعمدة الاقتصاد اللبناني، انهارت وفقدت ثقة المواطنين. ودائع اللبنانيين، التي جُمّدت في البنوك، أصبحت غير قابلة للسحب، مما أثار غضبًا شعبيًا واسعًا وأدى إلى فقدان الثقة في النظام المصرفي.
منذ عام 2019، فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 90% من قيمتها، مما أدى إلى تضخم مفرط وارتفاع أسعار السلع الأساسية. مع تفاقم التضخم وانخفاض قيمة العملة، أصبح اللبنانيون غير قادرين على تأمين احتياجاتهم الأساسية، مما أدى إلى زيادة معدلات الفقر بشكل غير مسبوق. وفقًا لتقارير البنك الدولي، يعيش حوالي 80% من السكان تحت خط الفقر، وهو ما يعكس تدهورًا كارثيًا في مستوى المعيشة.
-تداعيات الفساد وسوء الإدارة. العالم الحر، بما في ذلك الدول الأوروبية والولايات المتحدة، ينظر إلى هذا الانهيار كنتاج طبيعي لعقود من الفساد وسوء الإدارة من قبل الطبقة السياسية الحاكمة، الفاسدة بامتياز. الفساد المستشري في كافة مستويات الحكومة، والافتقار إلى الشفافية في إدارة الموارد العامة، عرقل تنفيذ أي إصلاحات اقتصادية ضرورية. البنية التحتية المتهالكة، والنظام الصحي المتدهور، ونقص الكهرباء والوقود، كل هذه الأزمات هي نتيجة عدم وجود رؤية اقتصادية سليمة وعدم القدرة على اتخاذ القرارات الصعبة للإصلاح.
التقارير الصادرة عن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تؤكد على ضرورة إصلاحات هيكلية عاجلة لإنقاذ الاقتصاد اللبناني. تتطلب هذه الإصلاحات تغييرات جذرية في إدارة المالية العامة، وخفض الدين العام، ومحاربة الفساد. ومع ذلك، في ظل الجمود السياسي ورفض القوى الحاكمة لتقديم تنازلات، تبدو هذه الإصلاحات بعيدة المنال.
-المساعدات الدولية والعقبات السياسية. العالم الحر، وخاصة الدول الأوروبية والولايات المتحدة، تربط دعمها المالي للبنان بتنفيذ هذه الإصلاحات. منذ اندلاع الأزمة، قدمت هذه الدول مساعدات إنسانية عاجلة لتخفيف المعاناة، لكنها ربطت أي دعم اقتصادي كبير بتنفيذ إصلاحات جذرية في النظام المالي والسياسي. لكن القوى الحاكمة في لبنان، والتي تعتمد على نظام المحاصصة الطائفية للحفاظ على مواقعها، تبدو غير مستعدة للتخلي عن امتيازاتها أو الانخراط في إصلاحات قد تؤثر على نفوذها.
هذا الوضع أدى إلى عرقلة وصول المساعدات الدولية التي يحتاجها لبنان بشدة. الدول المانحة تشترط وجود آليات واضحة لمحاسبة المسؤولين عن الفساد وإجراء إصلاحات اقتصادية وسياسية شاملة، لكن هذه الشروط تتعارض مع مصالح الطبقة الحاكمة في لبنان. نتيجة لذلك، باتت المساعدات الخارجية محدودة وغير قادرة على حل الأزمة بشكل جذري.
-آثار الانهيار الاجتماعي. الآثار الاجتماعية للانهيار الاقتصادي كانت كارثية. ارتفاع معدلات الفقر والبطالة دفع العديد من اللبنانيين إلى الهجرة بحثًا عن فرص أفضل في الخارج. هذا الأمر أدى إلى نزيف حاد في الكفاءات البشرية، حيث غادر العديد من الشباب والمختصين لبنان، تاركين وراءهم اقتصادًا متهاويًا يعتمد بشكل متزايد على المساعدات الدولية. كما أدت الأزمة إلى انهيار الخدمات العامة، بما في ذلك الرعاية الصحية والتعليم، مما زاد من مشاعر اليأس والإحباط لدى الشعب.
-المستقبل والتحديات. المستقبل الاقتصادي للبنان يعتمد إلى حد كبير على قدرة المنظومة السياسية الفاسدة على التحرّر من الفساد وتنفيذ إصلاحات جذرية. المجتمع الدولي على استعداد لدعم لبنان إذا ما أظهرت الحكومة نية جادة في مكافحة الفساد وإصلاح النظام المالي. ومع ذلك، في ظل غياب الإرادة السياسية وعدم وجود خطط اقتصادية واضحة، يبقى الحل بعيد المنال.
السبيل الوحيد للخروج من هذا المأزق يكمن في إعادة بناء الثقة بين الحكومة والشعب من خلال تبني سياسات شفافة ومحاربة الفساد بجدية. إذا تمكنت الحكومة اللبنانية من تنفيذ الإصلاحات المطلوبة، قد يتمكن لبنان من استعادة بعض الاستقرار المالي. ولكن دون هذه الإصلاحات، سيستمر الوضع في التدهور، مع المزيد من التداعيات الاقتصادية والاجتماعية التي ستحول دون أي تعافٍ اقتصادي في المستقبل القريب.
-هجرة العقول والنزوح الجماعي. موجات الهجرة الجماعية التي يشهدها لبنان، وخاصة هجرة الشباب المتعلم، تعتبر ظاهرة مقلقة تتابعها الدول الغربية عن كثب. هذه الهجرة الواسعة للعقول تعكس فشل النظام السياسي والاقتصادي اللبناني في تلبية تطلعات الشباب وتأمين بيئة ملائمة للعمل والتطور. مع تدهور الوضع الاقتصادي، فقدان الوظائف، وتراجع مستوى المعيشة، أصبح خيار الهجرة الملاذ الأخير لكثير من الشباب اللبناني الذي يسعى لتحقيق أحلامه وتأمين حياة أفضل خارج البلاد.
-استنزاف العقول اللبنانية. لبنان لطالما كان معروفًا بقدراته البشرية العالية وتفوقه الأكاديمي، حيث ساهمت نخبة من اللبنانيين في مجالات متعددة مثل الطب، الهندسة، والعلوم في الداخل والخارج. لكن اليوم، نزيف العقول يعني أن لبنان يفقد نخبه التي تحتاجها البلاد بشدة لإعادة بناء الاقتصاد والمجتمع. هجرة الأطباء، المهندسين، والمختصين في التكنولوجيا يترك فجوة كبيرة في القطاعات الحيوية، مثل الصحة والتعليم، التي تعتبر أساسية لاستقرار أي مجتمع.
-مخاوف العالم الحر. من وجهة نظر الدول الغربية التي تستقبل المهاجرين اللبنانيين، هجرة الكفاءات تمثل تهديدًا لاستقرار لبنان على المدى الطويل. الدول الغربية تدرك أن غياب العقول والكفاءات اللبنانية قد يؤدي إلى إضعاف الدولة اللبنانية وزيادة اعتمادها على المساعدات الدولية. ما يثير القلق هو أن هذه الهجرة الواسعة للعقول تشير إلى عجز النظام اللبناني عن تقديم أي حلول جذرية لأزماته الداخلية، مما يعزز من الصورة السلبية التي تشكلت عن لبنان كدولة تعاني من فشل اقتصادي وسياسي.
-التداعيات طويلة الأمد. على المدى البعيد، ستؤدي هجرة الكفاءات إلى إضعاف قدرة لبنان على النهوض من أزمته. نقص الكفاءات في القطاعات الاقتصادية الرئيسية سيعوق عملية التعافي، وسيزيد من العجز الإنتاجي ويعمّق الأزمات الاجتماعية. علاوة على ذلك، سيصبح لبنان أكثر اعتمادًا على التحويلات المالية من المغتربين، ولكن دون أي قدرة فعلية على تطوير اقتصاد داخلي مستدام.
-البحث عن الحلول. لتجنب المزيد من الهجرة، يجب على لبنان التركيز على إصلاحات شاملة تعيد الأمل للشباب اللبناني. إصلاح النظام السياسي والاقتصادي ومكافحة الفساد، بالإضافة إلى تحسين ظروف العمل وفرص التطور المهني، قد تكون الخطوة الأولى لوقف هذا النزيف البشري. العالم الحر يدعو إلى تنفيذ هذه الإصلاحات، ويربط أي دعم مالي واقتصادي للبنان بوجود رغبة سياسية حقيقية للتغيير.
في الملخّص، الهجرة الجماعية للعقول اللبنانية تمثل تحديًا كبيرًا أمام تعافي لبنان، وهي مؤشر واضح على عمق الأزمات التي يعيشها البلد. تحقيق الإصلاحات الضرورية هو السبيل الوحيد لوقف هذه الظاهرة وإنقاذ مستقبل لبنان.
3-دور القوى الإقليمية وتأثيرها على رؤية العالم الحر للبنان
تأثّر لبنان بشكل كبير بالصراعات الإقليمية، وخاصة الحرب السورية التي بدأت في عام 2011. تدفّق اللاجئين السوريين إلى لبنان بأعداد كبيرة، حيث استقر حوالي 1،5 مليون لاجئ سوري في البلاد، مما جعل لبنان واحدًا من أكبر الدول المضيفة للاجئين نسبة إلى عدد سكانه. هذا التدفّق شكل عبئًا اقتصاديًا واجتماعيًا ضخمًا على البلاد التي تعاني بالفعل من أزمات داخلية.
-الأعباء الاقتصادية والاجتماعية. تحمل لبنان تكلفة هائلة جراء هذا التدفق الكبير، حيث يشكل اللاجئون ضغطًا على البنية التحتية، الخدمات الصحية، التعليم، والأسواق المحلية. الوضع الاقتصادي المتردي للبنان تفاقم نتيجة زيادة الطلب على الموارد المحدودة. سوق العمل تأثر بشكل خاص، حيث أدى تدفق اللاجئين إلى زيادة المنافسة على فرص العمل في مجالات الزراعة والبناء والخدمات، مما زاد من معدلات البطالة بين اللبنانيين.
اللاجئون السوريون، الذين يعيش الكثير منهم في ظروف صعبة، يعانون من نقص في الرعاية الصحية والتعليم والخدمات الأساسية، مما يجعلهم أكثر عرضة للفقر والجريمة، ويزيد من الضغوط الاجتماعية في المناطق التي تستضيفهم. التوترات بين المجتمعات المضيفة واللاجئين ازدادت، حيث يشعر العديد من اللبنانيين بأنهم يتحملون العبء الأكبر لهذه الأزمة دون دعم كافٍ من الحكومة أو المجتمع الدولي.
-الدعم الدولي: تركيز على اللاجئين. الدول الغربية، وخاصة الأوروبية، تلعب دورًا كبيرًا في دعم لبنان ماليًا لمواجهة أزمة اللاجئين. غالبًا ما يتم توجيه هذا الدعم الدولي لمساعدة اللاجئين بشكل مباشر أو لتخفيف الضغط عن المجتمعات المضيفة التي تعاني من الأعباء الإضافية. المؤسسات الدولية مثل المفوضية السامية لشؤون اللاجئين (UNHCR) وبرنامج الأغذية العالمي (WFP) تقدم برامج لدعم اللاجئين وتوفير الاحتياجات الأساسية مثل الطعام والمأوى والرعاية الصحية.
ومع ذلك، على الرغم من هذا الدعم، لا يزال التحدي هائلًا. التمويل الدولي في بعض الأحيان يكون غير كافٍ لتلبية الاحتياجات المتزايدة، كما أن الكثير من المساعدات موجهة فقط للتخفيف من آثار الأزمة بدلاً من العمل على حلها بشكل دائم. اللاجئون السوريون، نتيجة لبقاء الأزمة السورية بدون حل، أصبحوا جزءًا طويل الأمد من النسيج الاجتماعي والاقتصادي في لبنان، ما يعقد الوضع الداخلي.
-التحديات السياسية والحلول المستدامة. يرى العالم الحر أن الحل المستدام لهذه الأزمة يتطلب استقرارًا سياسيًا واقتصاديًا في لبنان، وهو ما يبدو بعيد المنال في ظل الشلل السياسي والفساد المؤسسي الذي يعاني منه البلد. الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان تعاني من الانقسامات والولاءات الإقليمية، ما يعوق قدرة الحكومة على التعامل بفعالية مع أزمة اللاجئين أو تنفيذ الإصلاحات الضرورية.
العودة الآمنة للاجئين السوريين إلى بلادهم تبقى هدفًا طويل الأمد، ولكن هذا الحل يبدو صعب التحقيق في ظل غياب استقرار سياسي في سوريا نفسها. الدول الغربية تدرك أن لبنان يدفع ثمنًا باهظًا للصراع السوري، ولكنها تربط أي دعم إضافي بقدرة الدولة اللبنانية على تنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية تضمن استخدام المساعدات بشكل فعال وتحسين الأوضاع المحلية.
العواقب الطويلة الأمد. استمرار الأزمة السورية، وتواجد أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين في لبنان لفترات طويلة، يمكن أن يؤدي إلى تحولات ديموغرافية واجتماعية في البلاد. بالإضافة إلى ذلك، قد يتسبب هذا الوضع في زيادة التوترات بين المجتمعات المحلية واللاجئين، مما يزيد من عدم الاستقرار الاجتماعي. إن غياب رؤية واضحة من قبل الحكومة اللبنانية أو المجتمع الدولي لحل هذه الأزمة يجعل من الصعب التنبؤ بمستقبل العلاقة بين اللاجئين والمجتمع اللبناني.
في الملخّص، تشكل أزمة اللاجئين السوريين في لبنان تحديًا كبيرًا للمجتمع اللبناني وللعالم الحر الذي يتابع عن كثب تطورات هذه الأزمة. يتطلب الحل المستدام استقرارًا سياسيًا وإصلاحات شاملة في لبنان، إلى جانب جهود دولية منسقة لضمان العودة الآمنة للاجئين وخلق بيئة تدعم التنمية المستدامة في البلاد.
4-العالم الحر والدور الإنساني في لبنان
على رغم حالة الإحباط التي يشعر بها المجتمع الدولي تجاه الوضع السياسي في لبنان، لا تزال الدول الغربية تلعب دورًا هامًا في تقديم الدعم الإنساني للشعب اللبناني، لا سيما في ظل تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. المنظمات غير الحكومية والوكالات الدولية، مثل الأمم المتحدة والصليب الأحمر، تقدّم برامج مساعدات لتوفير الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية والتعليم، وتوزيع المواد الغذائية والمساعدات النقدية للشرائح الأكثر تضررًا في المجتمع اللبناني. في ظل تراجع قدرة الدولة اللبنانية على تقديم هذه الخدمات بسبب الفساد وسوء الإدارة، يعتمد جزء كبير من السكان على هذه المساعدات للبقاء على قيد الحياة.
الدعم الإنساني بعد انفجار مرفأ بيروت. بعد انفجار مرفأ بيروت في آب 2020، الذي دمّر أجزاء كبيرة من العاصمة اللبنانية وأسفر عن مقتل مئات الأشخاص وتشريد الآلاف، تضاعف الاهتمام الدولي بلبنان. أطلقت الدول الغربية حملات واسعة لجمع المساعدات الإنسانية، حيث تم إرسال فرق إغاثة، وتجهيز مستشفيات ميدانية، وتقديم مساعدات مالية للمساهمة في عمليات الإنقاذ وإعادة الإعمار. فرنسا قادت جهودًا كبيرة لدعم لبنان، حيث نظمت مؤتمرات دولية لجمع التمويل والدعم للبنان، إلى جانب الجهود الأميركية والبريطانية.
ومع ذلك، ربطت العديد من الدول الغربية، بما في ذلك فرنسا والولايات المتحدة، تقديم مساعدات كبيرة إلى إصلاحات سياسية واقتصادية في لبنان. هذا الموقف يأتي من إدراك أن تقديم المساعدات بدون معالجة الفساد وسوء الإدارة سيكون عديم الجدوى على المدى الطويل. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون زار لبنان بعد الانفجار وشدد على ضرورة تطبيق إصلاحات فورية لضمان تدفق المساعدات، ولكن هذه الإصلاحات لم تتحقق بعد بسبب الجمود السياسي والتوترات الطائفية التي تشلّ قدرة الحكومة اللبنانية على اتخاذ قرارات جذرية.
الضغوط الغربية لتحقيق الإصلاحات. العالم الغربي، بقيادة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، يواصل الضغط على الطبقة الحاكمة اللبنانية من أجل تطبيق الإصلاحات المطلوبة، بما في ذلك تعزيز الشفافية، وتحسين الحوكمة، ومكافحة الفساد. يأتي هذا في وقت يعاني فيه الاقتصاد اللبناني من انهيار شبه كامل، حيث أصبحت العملة اللبنانية بلا قيمة تقريبًا، وأصبحت البنوك عاجزة عن تلبية احتياجات المودعين.
لكن وعلى الرغم من الدعم الإنساني المستمر، تبقى الإصلاحات السياسية والاقتصادية شرطًا أساسياً لأي دعم مالي كبير أو برامج إنقاذ دولية. صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وضعا خططًا لمساعدة لبنان، لكن تطبيقها يتطلب استقرارًا سياسيًا واتفاقًا بين القوى السياسية اللبنانية على أجندة إصلاح شاملة، وهو أمر يبدو بعيد المنال في ظل استمرار الانقسامات الطائفية والسياسية.
-التحديات في تحقيق التغيير. التحدي الأكبر يكمن في قدرة لبنان على تلبية المطالب الدولية بتنفيذ إصلاحات هيكلية. القوى الحاكمة تواصل تقديم المصالح الطائفية والفئوية على مصلحة الوطن، مما يعيق أي تقدم في الإصلاحات. ومع استمرار هذه الحالة، تبدو آفاق خروج لبنان من أزمته معتمدة على ضغط المجتمع الدولي وتغييرات داخلية قد تأتي نتيجة الاحتجاجات الشعبية أو تغييرات في ميزان القوى السياسية.
في النهاية، يظل الدعم الإنساني من الدول الغربية والمنظمات الدولية ضروريًا للتخفيف من حدة الأزمات اليومية، لكن الإصلاحات السياسية والاقتصادية تبقى المفتاح الأساسي لتحقيق أي نهضة حقيقية ومستدامة في لبنان.
-التعليم والصحة والمجتمع المدني. العالم الحر يرى في المجتمع المدني اللبناني بارقة أمل حقيقية للتغيير، رغم الظروف الصعبة التي يعاني منها البلد. على مدى العقود الأخيرة، برزت الحركات المدنية اللبنانية كأحد أهم القوى الضاغطة والمطالبة بالإصلاح السياسي والاقتصادي، بعيدًا عن الانقسامات الطائفية التي تسيطر على النظام السياسي التقليدي. هذه الحركات نجحت في تنظيم احتجاجات شعبية واسعة ضد الفساد وسوء الإدارة، مثلما حدث في ثورة 17 تشرين الأول 2019، التي جسدت غضب الشعب من الطبقة الحاكمة.
-دور الحركات المدنية في التحول. يُنظر إلى هذه الحركات على أنها الطريق الوحيد لتحقيق إصلاح حقيقي في لبنان. رغم محاولات القوى السياسية لإخماد هذه الأصوات، إلا أن النشاط المدني في لبنان يتزايد مع مرور الوقت، معتمدًا على نشاط الشباب اللبناني الذي يرفض الرضوخ للوضع الراهن. بفضل استخدام الوسائل الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، تمكّن النشطاء من تجاوز القيود التقليدية للتواصل والتنظيم، واستطاعوا حشد الآلاف في شوارع المدن اللبنانية، مطالبين بالتغيير ومحاربة الفساد.
-دعم المجتمع الدولي للمجتمع المدني. تدرك الدول الغربية أهمية هذه الحركات في إحداث تغيير جذري في لبنان، ولذلك توجه العديد من الدول، مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، دعمها إلى المؤسسات التعليمية والمستشفيات، وكذلك المبادرات الشبابية ومنظمات المجتمع المدني. يعتبرون أن الاستثمار في التعليم والصحة والتنمية البشرية هو السبيل الأنجع لإنقاذ لبنان على المدى الطويل. هذا الدعم يهدف إلى تعزيز القدرات المحلية وتوفير الفرص للشباب اللبناني للبقاء في بلده بدلًا من الهجرة.
تسعى الدول الغربية من خلال هذا الدعم إلى تمكين جيل جديد من اللبنانيين يمتلكون المعرفة والقدرة على إدارة شؤون بلادهم بعيدًا عن المحاصصات الطائفية. كما أن هذا الدعم يهدف إلى بناء مؤسسات قوية ومستقلة يمكن أن تشكل بديلًا للنظام السياسي المهترئ الحالي.
-التحديات التي تواجه المجتمع المدني. رغم هذا الزخم والدعم الدولي، يواجه المجتمع المدني اللبناني تحديات كبيرة. على رأسها استمرار النظام السياسي الطائفي الذي يعيد إنتاج نفسه في كل مرة، ويعرقل أي محاولات للإصلاح. بالإضافة إلى ذلك، تواجه هذه الحركات مقاومة شديدة من القوى السياسية التقليدية الفاسدة، التي تستخدم نفوذها لعرقلة الإصلاحات ومحاولة تقسيم المجتمع المدني من خلال تحريض الطوائف على بعضها البعض.
مع ذلك، يبقى الأمل في أن يستمر المجتمع المدني في الضغط من أجل التغيير السياسي الحقيقي، وأن تستمر الدول الغربية في دعم هذه الجهود من خلال تقديم الدعم المادي والمعنوي للمبادرات الشبابية والمجتمع المدني. في نهاية المطاف، تعتبر هذه الحركات المدنية المحرك الأهم لتحقيق لبنان جديد، مبني على مبادئ الديمقراطية، الشفافية، والعدالة الاجتماعية.
5-احتمالات التدخل الدولي
منذ انفجار مرفأ بيروت في آب 2020، ازدادت التكهنات حول احتمالات التدخل الدولي المباشر في لبنان لحل أزماته المتفاقمة. انفجار المرفأ الذي أسفر عن تدمير جزء كبير من العاصمة بيروت ومقتل مئات الأشخاص كان نقطة تحوّل كبيرة في الأزمة اللبنانية، حيث أدّى إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية وزيادة حالة عدم الثقة بين المواطنين والطبقة الحاكمة. في هذا السياق، برزت فرنسا كأحد اللاعبين الرئيسيين في محاولة التعامل مع تداعيات هذا الحدث.
الدور الفرنسي: مبادرات ماكرون السياسية. تتمتع فرنسا بعلاقات تاريخية وثقافية طويلة الأمد مع لبنان، تعود إلى فترة الانتداب الفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى. بعد انفجار المرفأ، قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بزيارتين إلى بيروت، حيث أعلن عن مبادرة دبلوماسية تهدف إلى تشكيل حكومة إصلاحية، ودعا القوى السياسية اللبنانية إلى التحرك نحو إصلاحات جذرية ووقف الفساد.
كان ماكرون يأمل أن يتمكّن من إقناع الأطراف اللبنانية بالتوافق على إصلاحات سياسية واقتصادية، لكن الواقع السياسي اللبناني المعقد، المتجذّر في الانقسامات الطائفية والتحالفات الإقليمية، حال دون تحقيق نتائج ملموسة. مع استمرار المراوغات السياسية وتأجيل تشكيل الحكومة، اتضح أن الضغوط الدبلوماسية وحدها غير قادرة على زحزحة النظام السياسي القائم، الذي أصبح متحكمًا في مفاصل الدولة اللبنانية ومؤسساتها.
-احتمالات التدخل العسكري: استحالة الحل العسكري. من ناحية أخرى، برزت تساؤلات حول إمكانية تدخل عسكري دولي في لبنان. إلا أن الدول الغربية، بما فيها الولايات المتحدة وفرنسا، تدرك جيدًا أن التدخل العسكري سيكون مكلفًا جدًا وغير مضمون النجاح. لبنان ليس فقط دولة صغيرة تعاني من أزمات داخلية، بل إنه متشابك مع الصراعات الإقليمية المعقدة، وخاصة الحرب في سوريا وتأثير إيران وحزب الله على الساحة السياسية اللبنانية.
أي تدخل عسكري مباشر في لبنان قد يؤدي إلى تفجير الوضع الإقليمي وزيادة التعقيد الأمني والسياسي في المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، فإن التدخل في لبنان يختلف عن التدخل في دول أخرى، بسبب وجود ميليشيات مسلحة قوية، مثل حزب الله، التي تمتلك تأثيرًا كبيرًا على الأرض. هذا يجعل التدخل العسكري مسألة محفوفة بالمخاطر وغير مضمونة النتائج.
-الضغوط الاقتصادية والسياسية: أداة الغرب الأساسية. في ظل استبعاد التدخل العسكري، تعتمد الدول الغربية على الضغوط الاقتصادية والسياسية لدفع الطبقة الحاكمة اللبنانية إلى تنفيذ الإصلاحات المطلوبة. فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات على بعض السياسيين اللبنانيين المتهمين بالفساد وعرقلة الإصلاحات، كما ربطت المساعدات المالية الدولية للبنان بضرورة تطبيق إصلاحات هيكلية في النظامين السياسي والاقتصادي.
على الرغم من هذه الضغوط، لا تزال الطبقة السياسية الفاسدة في لبنان تماطل في تنفيذ الإصلاحات، مما يزيد من حدة الأزمة الاقتصادية ويعمّق الفقر والمعاناة الاجتماعية. جهود صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لدعم لبنان متوقفة بسبب عدم قدرة الحكومة اللبنانية على تنفيذ الشروط اللازمة للحصول على الدعم.
-المستقبل القريب: غياب الحلول السريعة. في نهاية المطاف، يبقى المستقبل السياسي للبنان غامضًا، حيث لا تزال الدول الغربية مترددة في اتخاذ خطوات حاسمة تجاه التدخل المباشر، مفضلة الاعتماد على المبادرات الدبلوماسية والضغوط الاقتصادية. ومع ذلك، فإن عدم إحراز تقدم في الإصلاحات واستمرار التدهور الاقتصادي قد يؤدي إلى تصاعد الاضطرابات الداخلية، مما يضع الدول الغربية أمام خيار أصعب: الاستمرار في الضغط الاقتصادي أو البحث عن استراتيجية جديدة للتعامل مع الوضع المعقد في لبنان.
-العقوبات والضغوط الاقتصادية. في محاولة لمواجهة الفساد وتعطيل مسار الإصلاح في لبنان، لجأت الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، إلى فرض عقوبات على بعض الشخصيات اللبنانية المرتبطة بالفساد أو بالتعاون مع حزب الله. تأتي هذه العقوبات ضمن استراتيجية تهدف إلى عزل الطبقة السياسية الفاسدة، وتقويض الأنشطة غير القانونية، خاصة تلك المرتبطة بحزب الله الذي يعتبره الغرب منظمة إرهابية. بالإضافة إلى ذلك، تعكس هذه العقوبات رغبة المجتمع الدولي في الضغط على المنظومة السياسية الفاسدة لإجراء إصلاحات هيكلية في النظام السياسي اللبناني.
-أهداف العقوبات: عزل الطبقة الفاسدة. العقوبات الموجهة ضد شخصيات سياسية في لبنان تسعى إلى إضعاف النفوذ الذي تتمتع به هذه الشخصيات داخل النظام السياسي والاقتصادي. يتمثل الهدف الأساسي في تعطيل مصادر التمويل الخاصة بهم، وخلق ضغوط داخلية قد تدفعهم إلى التنازل عن بعض امتيازاتهم، وبالتالي تسهيل الطريق أمام إصلاحات جذرية.
واحدة من أبرز الشخصيات المستهدفة بهذه العقوبات هم المسؤولون المتورطون في الفساد المالي والذين يعتبرون عائقًا أمام إصلاح النظام السياسي والاقتصادي في لبنان. كما تركز هذه العقوبات على الأفراد المرتبطين بنشاطات حزب الله، مما يجعل هذه الأداة جزءًا من استراتيجية أوسع لكبح النفوذ الإيراني في لبنان من خلال الضغط على الحلفاء المحليين.
-فعالية العقوبات: بين النجاح والقيود. ورغم التوقعات الكبيرة، تظل فعالية هذه العقوبات موضع تساؤل. فرغم أنها قد تؤدي إلى تضييق الخناق على بعض الشخصيات السياسية اللبنانية وإضعاف نفوذها، إلا أن هذه العقوبات بمفردها لم تؤدِ بعد إلى تغيير جذري في المشهد السياسي اللبناني. الاعتماد المتبادل بين القوى السياسية اللبنانية والدعم الخارجي، سواء من إيران أو دول أخرى، يعوق تأثير العقوبات ويمنح بعض القوى القدرة على الصمود في مواجهة الضغوط الغربية.
من ناحية أخرى، يعتمد الكثير من السياسيين اللبنانيين على الشبكات الطائفية والدعم الشعبي، وهو ما يجعل العقوبات المالية الدولية أقل تأثيرًا من المتوقع. التحويلات الخارجية، سواء من إيران أو من الجاليات اللبنانية المنتشرة حول العالم، تلعب دورًا كبيرًا في دعم الوضع القائم، مما يُبقي النظام السياسي على قيد الحياة، حتى في ظل العقوبات.
-الدعم الخارجي وتأثيره على فعالية العقوبات. أحد التحديات الرئيسية التي تواجه الغرب في استخدام العقوبات كأداة للإصلاح في لبنان هي التدخلات الإقليمية والدولية. فعلى الرغم من الجهود المبذولة لإضعاف الطبقة السياسية الفاسدة، تحظى العديد من القوى السياسية اللبنانية بدعم مالي وعسكري من إيران، عبر حزب الله، ودول أخرى ذات مصالح في لبنان، مما يُضعف تأثير العقوبات الغربية.
إيران، على وجه الخصوص، تعتبر لبنان ساحة مهمة لسياساتها الإقليمية، ودعمها لحزب الله يسهم في الحفاظ على قوته داخل لبنان، مما يقلل من تأثير الضغوط الدولية. كما أن حزب الله يعتمد على اقتصاد موازٍ ومعقد يتجاوز النظام المالي التقليدي، مما يُصعّب من فعالية العقوبات المالية المباشرة عليه وعلى حلفائه.
-العقوبات كجزء من استراتيجية شاملة. بالنظر إلى الوضع اللبناني المعقّد، يبدو أن العقوبات وحدها قد لا تكون كافية لتحقيق التغيير الجذري المطلوب. العقوبات هي أداة من ضمن أدوات عدة، تحتاج إلى أن تكون مصحوبة بمبادرات دبلوماسية واقتصادية أوسع، تهدف إلى تعزيز المجتمع المدني، ودعم الإصلاحات الاقتصادية، وزيادة الضغوط الدولية على المنظومة السياسية الفاسدة.
على المدى البعيد، يمكن أن تساهم هذه العقوبات في إضعاف الطبقة السياسية الفاسدة، ولكن فقط إذا تم تنسيقها مع ضغوط داخلية وخارجية أوسع، بما في ذلك تعزيز الدعم للمؤسسات الديمقراطية والإصلاحية. المجتمع الدولي، بما في ذلك الدول الأوروبية والولايات المتحدة، يجب أن يعمل مع المجتمع المدني اللبناني لدعم الحركات الإصلاحية وإيجاد حلول مستدامة للأزمة السياسية والاقتصادية في البلاد.
خاتمة
في نظر العالم الحر، لبنان اليوم هو بلد غارق في أزمة متعدّدة الأبعاد تشمل الأبعاد السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية. تعاني البلاد من مجموعة من الأزمات العميقة، التي تتداخل وتؤدّي إلى استمرار التدهور على مختلف الأصعدة:
-الأزمة السياسية. الطبقة الحاكمة الفاسدة في لبنان، التي تهيمن عليها المصالح الطائفية والتكتلات السياسية الفاسدة، تعتبر أحد أكبر العوائق أمام تحقيق التغيير. فالنظام السياسي القائم، المبني على المحاصصة الطائفية، أظهر عجزًا كبيرًا عن تقديم حلول عملية وفعالة للأزمات. الفساد المستشري داخل المؤسسات الحكومية يؤثر على قدرة الدولة على تنفيذ إصلاحات حقيقية ويقوّض الثقة بين المواطنين والطبقة السياسية الفاسدة.
-الأزمة الاقتصادية. تواجه لبنان أزمة اقتصادية خانقة، حيث شهدت البلاد انهيارًا اقتصاديًا غير مسبوق. تسببت الانهيارات في القطاع المصرفي وفقدان الليرة اللبنانية أكثر من 90% من قيمتها في تدهور القدرة الشرائية للمواطنين وزيادة معدلات الفقر بشكل غير مسبوق. ورغم الدعوات الدولية لإصلاحات هيكلية، يظل تحقيق تقدم في هذا المجال صعبًا نظرًا للجمود السياسي.
-الأزمة الاجتماعية. التوترات الاجتماعية تتزايد نتيجة الأزمات الاقتصادية والسياسية. تفشي الفساد وتأثيرات الأزمات الاقتصادية أدّت إلى هجرة جماعية للشباب اللبناني، مما زاد من تدهور الوضع الداخلي. اللاجئون السوريون، الذين يشكلون عبئًا اقتصاديًا واجتماعيًا إضافيًا، يزيدون من تعقيد الأزمة الاجتماعية.
-الاهتمام الدولي. بينما يبدي العالم الحر اهتمامًا كبيرًا بلبنان، خاصة على المستوى الإنساني، من خلال تقديم الدعم والمساعدات للمحتاجين، فإن هذا الدعم لا يمكن أن يكون بديلاً عن الإصلاحات الجذرية اللازمة. الدعم الدولي، بما في ذلك المساعدات الإنسانية والمساعدات لإعادة الإعمار، لن يكون كافيًا لتحقيق تغيير حقيقي بدون إرادة لبنانية حقيقية للتغيير.
في النهاية، يظّل لبنان في وضع مأزوم يتطلّب استجابة شاملة وفعالة من جميع الأطراف. الإصلاحات السياسية والاقتصادية يجب أن تكون أولوية أساسية. من دون إرادة حقيقية وإصلاحات جذرية، سيبقى لبنان في دوامة الأزمات، وستظّل جهود المجتمع الدولي غير كافية لإحداث تغييرات ملموسة في الواقع اللبناني.