سيارة من طراز لومينا قد لا تكون مشابهة لتلك التي اشتراها الكاتب
د. غالب خلايلي
في مقال سابق تحدثت عن المظاهر، وطرحت السيارات مثلا، وأحدثكم اليوم، كما وعدت، عن سيارة راقصةٍ اشتريتها فكانت قصتها نموذجاً مضحكاً لمفقود في بلادنا يسمّونه (خدمة ما بعد البيع).
عام 2001 ، ظهرت حاجتنا إلى سيارة جديدة بعد أن بدأت مفاصل (الكريسيدا) القديمة تتوجّع، وعظامها تتخلخل (ومع ذلك كان لها ألف راغب في الشراء)، فأقدمت (مع نجاح عيادتي) على شراء سيارة جديدة من نوع شفرلية لومينا، كنت قد رأيت مثلها مع بعض أصحابي، فأعجبتُ بشكلها الانسيابي الجديد وقوّتها واعتدال ثمنها مقارنة بسيارات لها الميزات نفسها.
أذكر هنا أنني كنت عازماً على شراء سيارة غيرها راودتني نفسي الضعيفة عليها، إذ لم أبلغ وقتها سن النضج التام. كان أقلّ الأخرى أحصنةً أغلى بنحو مرة ونصف من اللومينا ذات الأحصنة القوية، ولكني رأيت في المنام تحذيرين، مرّةً من والدي رحمه الله، وأخرى من صديق ذي شفافية، ومع أنهما لم يعرفا بنيّتي، إلا أنني استجبتُ طائعاً للرؤى.
أما لماذا لم أرَ ما سوف يعصف بي في رقصة التانغو (اللومينية) الطويلة فأمرٌ أجهله، ولعلّ فيه خيراً وحكمة، خاصة وأن السيارة خدمتنا بعد ذلك ثلاثة عشر عاماً أخرى، على غرار الكريسيدا اليابانية.
وقد ابتدأت قصة العَصف برجفة المِقوَد ورقصه في السرعة العالية، وفي شوارع نموذجية لا مثيل لها في العالم، هذا مع أنني كنت ثابتاً وراء حزام الأمان، ولم أشغّل شريطاً راقصاً في السيارة، ولا كان معي من يطبل ويزمر فيها. اللافت أن السيارة دخلت الوكالة خمس عشرة مرة في أول سنة ونصف من شرائها، دون أن يرفض (حكماؤها) طلباتي، لكنهم قاوموا شكواي بضراوة، فكانوا في كل مرّة يقولون بثقة عنترية متناهية: انتهت المشكلة. بدلنا كذا وكذا وكذا، و (الأمور تمام)!. هل يذكركم هذا بمألوف لديكم؟ تعجبت أنهم بدّلوا كل ما يتعلق بجهاز التوازن، وهو مكلف، وبدّلوا العجلات مرّات، ولم يبق سوى تبديل السيارة كلها، إلا أن قصة الرقص أبت أن تنتهي.
أزعجتني جداً حالة (استهبال) الزبون في بلادنا، في الغائب المسمى (خدمات ما بعد البيع، ولدي أمثلة كثيرة مثل الغسالة الراقصة وغيرها)، فكل العاملين من مهندسين وفنيين وخبراء قيادة لم يعترفوا بأي عطل، بل عملوا بإخلاص شديد (والإخلاص أمر محمود) على تسخيف الشكوى، حتى ليظنّ المرء مثلي أنه حالم أو مخدر أو واهم أو دماغه مصاب بكوفيد (وإن تأخر الفيروس عقدين ونيف على فعلته).
أعترف أيضاً أنني تصادمت مع عدد من الموظفين بلا هوادة وأنا أرى حالة البلاهة هذه (وكنت أكثر قابلية للتصادم في الأمور المحقّة)، وفي الوقت ذاته كوّنت صداقات مع آخرين. ومن أسفٍ أنني أضعتُ وقتاً كبيراً وأنا أقدّم الشكوى تلو الشكوى (حتى أستراليا) عن حالة السيارة وأعطالها الأخرى (ومنها السرعة المفاجئة التي تكاد تحرف السيارة بتهوّر، نتيجة ضخ وقود زائد مفاجئ)، وكانت الشركة، كما أدركت لاحقاً، تستفيد من تقاريري دون أن تخبرني، فتعدّل في الموديلات الأحدث حتى تتلافى الاعتراف بمشكلة، وما يجره ذلك من تعويضات ليست في حسابها معنا، وكم قرأت أن وكالات مثل تويوتا أو هوندا أو بي إم أو فولكس واجن مثلا استرجعت ملايين السيارات في أميركا لوجود خلل في منظومة الكوابح أو حزام الأمان.. لكن المصنع الأسترالي لهذه السيارة (التي بدأ عام 1998) لم يعترف بأي عطل (حتى توقف عن العمل في 2014).
والطريف الظريف أنني كنتُ قد سألتُ زملاء اشتروا مثل هذه السيارة عن أي عيب فنَفَوا نفيا تاماً، والأكثر عجباً أن الوكالة أتت مرةً بخبير أسترالي شاب سمَّوه “مسؤول الشرق الأوسط” فقاد سيارتي بثقة مطلقة نصف دقيقة أو أكثر بقليل، قال بعدها: إنها لا تشكو من شيء! أي والله، معه حق، فهو خبير، ويعرف بثوانٍ الخلل كما يعرف النطاسي الماهر التشخيص عن بُعد، بعينيه الليزريتين، وحواسه (الغايغرية) حتى دون شكوى من المريض! فمن الذي يشكو إذن؟
بالطبع لم يتسنّ لي أن أفحص عقل الخبير عن بُعد ولا عن قرب (إذ لم أرَه)، فهو – لكونه أجنبياً، وعادة ما يكون صغير السن، بنصف بنطال (شورت) – فوق الشكوك، حتى لو كان ذا فدامةٍ درقيّة، ونحن العرب، حتى لو كنا بمستوى “آينشتاين” و”لافوازييه” و”تِسلا”، نبقى في موضع الشك دائماً! هي عقدة الأجنبي عندنا، وهي حالة اللامبالاة تجاهنا عندهم، ما دمنا لا نعرف كيف نقدّم أنفسنا.
مشكلتان أخريان (هل أصنفهما أخلاقيتين؟) واجهتهما في تعاملي مع قصة السيارة:
الأولى، عندما وكّلتُ محامياً على قدر رفيع من الخبرة الأكاديمية والمعرفة، فوجدتُ أن عليّ أن أدفع مبالغ طائلة، له أولاً (وهو يستحق الكثير بلا شك)، ولخبير خاص يقود السيارة، ويقرّر ما بها، فيتقاضى مبالغ كبيرة، لتكون النتيجة: “تيتي، تيتي، مثل ما رحتي جيتي”. هذا ما أخبرني به الموظفون، وأن شركتهم توكل أكبر المحامين، وتشتري أهم الخبراء، ومن ثم لا أمل من متابعة الدعوى، ولم أدرِ أكان ذلك نصيحة صادقة منهم أم ترهيباً لي. والخلاصة أنني تنازلت عن الدعوى، خلافاً لما أتمتع به في حياتي من إصرار على قهر الصعاب، لأرضى من الغنيمة بالإياب، وبعض الخسارة المادية، مقابل تمتعي برقصة المقود عندما تصبح الطرقات مملة.
أما الثانية، فهي عندما رفضت صحيفة محلية أن تنشر ملخّصاً عن المشكلة في باب المشاكل، ربما من باب (لا تمشِ بين القبور..)، والله والمحرر أعلم.
أمر لافت كأنه الحلم حدث صيف 2004 في دمشق. كنت وقتها في إجازة، وكنت قريباً من بساتين الصبّارة في المزة، فلمحتُ سيارة تشبه سيارتي تماماً، كأنها توأمها، ما عدا وجود لوحة الكويت عليها. استوقفتُ صاحبها وسألتُه، وكم كانت دهشتي شديدة حين عرفتُ أنه عانى ما عانيته بالضبط، وكأن قصته مستنسخة عن قصتي بالحرف. وزاد في حنقي رؤيتي أول صديق كانت معه سيارة كسيارتي، لكن تسبقها بسنتين، وكان قد مدحها، فسألته هذه المرة عن مشكلة المقود، فقال لي: إي عادي!.
وهكذا انكشاف السرّ، وعلى غرار ما قال الشاعر:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تزود
مرّ وقت طويل، وتآلفتُ والسيارة، وتآلفت هي والطرقات، ولم تعد رجّة المقود تظهر بوضوح. وصادف أن تغيرت الوكالة، ولم تعدْ من مصلحةٍ للموظفين ممن فقدوا عملهم في إخفاء العيب. ولما كنتُ غير مصدق كل الترّهات التي أدخلوني بها، سألت أحدهم من جديد عن المشكلة فقال: عادي! ذلك يشبه حالكم في الطب، وفي أرقى الأماكن، حيث تستأصل الكلية اليسرى مثلا فيما المريضة هي اليمنى. قلت: أفصح. قال: عندما انتقل مصنع السيارة من أميركا إلى أستراليا، لم يأخذ المهندسون بـ “عين الميكانيكا” اختلاف جهة المقود بريطاني التقليد عن جهته في أميركا أو بلادنا، فالمقود الأيمن يتناسب وميلان الطرق الأسترالية، الأمر الذي اعتادت أدمغتهم عليه، ولما نقل إلى اليسار لم يؤخذ ميلان طرقنا بالحسبان. هذا ما تم استدراكه في عام 2003 بعد شكاويك وشكاوى غيرك.
إذن كنت على حق، وكان الآخرون صامتين على الباطل.
هل من يرى اليوم في ذلك أية غرابة؟