د. غالب خلايلي أمام اكسبو كندا في منتريال الذي أقيم أول مرة عام 1967
عشرون ساعة ذهاباً من “العين” الى “تورنتو”، ومثلها في الإياب من “تورنتو” الى “العين”. وخلال الساعات الأربعين، كان الطبيب الأديب غالب خلايلي أشبه بـ “كاميرا” لا تلتقط المشَاهِد فحسب، بل تنقل معها المشاعر والعواطف وتستعيد محطات من تاريخ كندا، كما من حاضرها، فإذاً أنتَ أمام فيلم وثائقي مصوّر، وبالأبعاد الثلاثة، ما يدفعك إلى السفر لتعيش الواقع على حقيقته أو تكتفي بما وصلك من “زاد” و “زاد” خلايلي كثيرٌ ووافر ويُشبع الروح والعقل و… يفيض!
بلغة الروائي الذي يُدوّن أدب الرحلات والذي تُسحِرك لغته وكلماته البليغة وعباراته التي تنساب كالنهر “معنًى ” بهدوئها و “ترعد” كشلالات نياغرا “مبنى”، رافقت هذا الأديب الطبيب في رحلتَيْ الذهاب والإياب مستمتعاً معه بـ “شهر عسل” على أبواب خريف العمر.
شدوّا، أيها السادة أحزمتكم جيداً. الطائرة على وشك أن تُقلع، فلا تخافوا. فـ “الرباّن” غالب خلايلي أعدّ لكم رحلة ممتعة بوجَبَات فكرية دسمة، سهلة الهضم…
***
د. غالب خلايلي
لم يكن بالبال أن رحلتَنا إلى كندا سوف تكون بمثابة شهر عسل جديد، قرب خريف العمر.
أنا و”أمّ العيال” لم نخطّط لذلك، فقد سئمنا الرفضَ الغربيَّ الذي ما عاد يكترثُ حتى بارتداء القفّازات الناعمة، ولكن أولادَنا المقيمين هناك، مع قوافل تكاثرت في زمن الانحدار العربي، سَعَوا إلى استقدامنا في زيارة أخذتِ الكثير من الوقت والمال، حتى ليبدوَ المقبولُ كمن ولدتْه أمّه من جديد، نظيفاً مبرّأ من كل عيب، في الوقت الذي يأتي زائرُهم إلى بلادنا معززاً مكرّماً محمولاً على أكفّ الراحة، لا أحد يسأله كم في جيبه، ولا من أين أتى أبوه، ناهيك عن أصل جدّ جدّ أبويه.
والحقيقة أن الزيارةَ نجحت نجاحاً باهراً، بسبب الترتيب المتقن لعائلتيّ ولدَينا (ريم وزوجها محمد، ولؤي وزوجته نورا)، فتعرّفنا إلى أجزاء واسعة من كندا العملاقة في صيفها الجميل، ونالنا تكريم كبير منهم ومن أنسبائهم وأصدقائهم في عمر الزهور، وكذا من صديق موسيقي مخضرم هاجر كبيراً، حيث تبدّى الكرم العربي الأصيل، والسّخاء في الموائد الشهية التي تجاوزت كلّ التعليمات، فكانت زيارتُنا الطويلةُ نسبياً بمثابة شهر عسل جديد، معوّضةً بذلك جفاء عامين قاسيين: عام كوفيد 2020 (والذي رحلت به والدتي العزيزة)، وعام الجراحة القلبية-التي خضعت لها في 2021.
وكندا “قارة” مترامية الأطراف، مِساحتها تكاد تكون الأكبر في العالم بعد روسيا الاتحادية. وهي مؤلفة من عشر مقاطعات (10)، تبدأ من الجنوب المحاذي للولايات المتحدة وتنتهي في القطب الشمالي.
أما عدد سكانها فلا يزيد على الأربعين مليون نسمة، من كل أمم الأرض المعذّبة وغير المعذبة، وقد لفت انتباهنا مثلاً أن جلّ المسافرين من دبي إلى تورنتو (والعائدين بالعكس) كانوا من الهنود، فكان طبيعياً رؤية تفوق الهنود (والصينيين)، ناهيك عن أحفاد أول القاطنين في الأرض (البكر) من الإنكليز والفرنسيين، وعن كل ضحايا الاضطهاد (مثل الإيرلنديين والأفارقة الفارّين من أميركا)، وضحايا الحروب القادمين من فلسطين والعراق وسورية ولبنان والجزائر والصومال…، وكل الحالمين بجواز سحري يفتح لهم مغارة علي بابا، ومن هؤلاء كثيرٌ شعر بالخطر في خريف العمر لا يدري أيستطيع أن يجدَ مأوىً وخبزاً وعلاجاً بعد أن كدّ عمرَه وشقي في بلاد العرب، ثم وجد كل السبل في وجهه مسدودة، أم كان من متوسطي العمر الذين ناء كلكلُهم في تحمّل أعباء دراسة الأولاد، وشظف العيش، أم من الشبّان الذين استَبَقوا الأحداث، وهم يرون الأوطان تتمزّق فيما هم مكبّلون بهوياتهم.
وكندا غابة ضخمة مليئة بالأشجار (لاسيما شجر القيقب Maple الذي تحتلّ ورقته عندما تحمرّ العلم الكندي، ويُستخرج منه الشراب الشهير الشبيه بالكاراميل)، تأخذها الولايات المتحدة كلَّها، وتعيدها ألواحاً للبناء والصناعة. ومن البديهي أن مثلنا ينتبه لأوراق خضر تشبه القيقب، في كل مكان، ألا وهي أوراق العنب، التي تصنع منها أكلتا اليبرق واليالنجي الشهيتان. أما الغابات فأجمل ما تكون في الصيف الربيعي القصير، حيث تنتشر الخضرة على مدّ البصر، وتتحوّل إلى صُفرة فحُمرةٍ رائعة في الخريف، لتخلعَ لباسها (ما عدا أشجار الصنوبر) في الشتاء الطويل البارد القاسي المليء بالثلوج، ومع كل ذلك يتحمّلها الوافدون، ولو أن كثيراً منهم يكدّ بلا هوادة في رحلة يومية قاسية، كي يبقى على قيد (الإنسانية).
إن غنى كندا بالأشجار يعزّز صناعاتها الخشبية، لاسيما في غرب كندا (كولومبيا البريطانية)، وكندا على أية حال دولة تجارية وصناعية قوية تصنع المعدات والآلات والسيارات، والمواد الكيماوية والغذائية والسمكية والورقية والنفط والغاز.
نمط غالٍ للعيش في كندا: وكندا، الى ذلك، بلد غالٍ جداً، فلا مجال أمام الكثيرين لأي رفاهية اعتادوا عليها من قبل، لا سيما في الخليج، إلا إذا كانوا من المجدّين سعيدي الحظ أو الأغنياء، أو المدعومين من دول غنية، وما عدا ذلك على معظم الناس أن يركضوا من الصباح الباكر، وفي أي طقس، ويكدّوا إلى المساء، حتى يستطيعوا تأمين لقمة العيش والدفء، وسط التكاليف العالية للسكن والوقود والتأمين والغاز والكهرباء والماء والغذاء، وحضانة الأولاد (إن وجدوا)، وإن كانت الدولة تؤمّن التعليم المجاني للمراحل دون الجامعية (إلا من شاء مدارس خاصة حفاظاً على هُويته)، كما تؤمن بعض المصاريف للعاطلين عن العمل والأولاد، وكبار السن ممّن تجاوزوا الخامسة والستين (المُسمَّون شيوخاً Seniors)، وهؤلاء الشيوخ يتمتعون بتأمين صحي كامل وأدوية مجانية تقيهم مذلّة السؤال.
والملاحظ أن كثيراً من الناس يعيشون في بيوت خشبية غالية متفاوتة الحجم، ويغلب أن تكون مشتراة بقروض لثلاثين عاماً أو أكثر، على غرار أوربا، وذلك أهونُ من الإيجارات العالية، لأنه ينتهي بتملّك البيت. إلا أن من مساوئ تلك البيوت، عدا ضيقها، ضعف العزل الصوتي، حيث ينتقل أي صوت بسهولة بين الغرف والطوابق، وغياب البلاليع إلا في أماكن قليلة (ليُعتمدَ التنظيف بالمسح والشفط..)، وكذا غياب الشطّافات في الحمّامات. وقد أُخبرتُ أن بعض المناطق الجنوبية ذات إشعاعات من تحلل اليورانيوم في الصخور والتربة، ينطلق فيها غاز الرادون الضار (السبب الثاني لسرطان الرئة بعد التدخين)، ولهذا ينصح بتهوية البيوت ما أمكن. ومن الأمور الطيبة طريقة التخلّص من النفايات (عُضوية كالخضار تجمع في حاويات خُضر، وقابلة للتدوير كالورق تجمع في حاويات زرق، وغيرها كالمعادن وتُجمع في حاويات رمادية). ومن اللافت للنظر انتشار الرصد الإلكتروني للحركة ومراقبة المنافذ بالكاميرات، فتصدر أصوات التنبيه عند أي حركة، وقد يتم الاتصال تلقائياً بالشرطة إن فتحت الأبواب ولم يتوقف التنبيه بعد دقيقة. هذا في البيوت، لكن العجيب هو العكس في الخارج، فما أندر ما شاهدنا كاميرات المراقبة في الأماكن العامة، أو حتى الرادرات في شبكة الطرق الفسيحة، فيما يلتزم الناس بالأدب المروري.
أما مراكز المدن فتضج بالعمارات الضخمة الغالية حالها حال نيويورك وأبو ظبي ودبي وبيروت، ولهذه المباني تصاميم جميلة، وقد دُعيت إحداها في مسساجا عمارة مارلين مونرو للتشابه الشكلي بينهما.
ومن اللافت للنظر كثرة المياه، وتوفر الماء البارد النظيف الشروب في كل مكان تقريباً (ومن الصنابير مباشرة)، كما أن الحمّاماتِ العامة نظيفة في كل الأماكن التي زرناها.
أما الطعام فوافر في المتاجر، وبعضها عربي صرف (القدس، أدونيس، الأرز ..) حتى لكأنك في بيروت أو القدس أو الشام، وبأسعار قد تكون أدنى مما هي عليه في بلادها!، ولأن الغذاء غالٍ يبحث الناس عن (العروض) كحال دول أخرى، وعن المتاجر الرخيصة (Dolarama, Winners)، فيما تسيطر متاجر أميركية ضخمة على الساحات بعروضها (Costco، Walmart). وما أثار دهشتي انني سمعتُ من مصادر عدة أن الأغذية كالخضار والفواكه والحليب واللحوم (غنية) بالهرمونات، في بلد واسع الأراضي الزراعية غنيّ بالماء، فهل هو الطمع البشري؟
عناية صحية متفاوتة، والدكتور كابي: لا شك أن كندا بلد متقدم، وفيه عناية صحية، يمدحها من كان قريباً من مصادر الطب، ويشكو منها البعيدون. يشكو الناس مثلا بُعدَ المواعيد حتى في الحالات الضرورية، وقد اعترف حتى رئيس الوزراء ترودو بذلك. وعلى رغم حاجة البلد إلى الأطباء، إلا أن إجازة الوافدين الجدد، ولو من أهل الخبرة، صعبة جداً، وكأنّ زملاءنا هناك لا يريدون أن يصعد إلى عليائهم إلا ندرةٌ من (المحظوظين). وقد عبّر فيلم كوميدي حديث (دكتور كابي) عن العنت الذي يلاقيه الأطباء في التراخيص، وفيه طبيب هندي شاب عمل سائق تكسي، ليعالج – بدافع من ضميره المهني- من صادفهم في سيارته، وليقع في مشاكل لا حصر لها تنتهي (بالأسلوب الهندي) بزواجه من الكندية الحسناء التي ولّدها في سيارته أوّل مشاويره، بعدما تركت زوجها، رجل السياسة الفظ. لهذا يغيّر الأطباء المهاجرون دراستهم هناك، وينحَون مناحيَ أخرى، من نقل الركاب (أوبر) إلى أي عمل آخر، أو يجلسون بلا عمل منتظرين المساعدات، أو يتوجهون إلى الولايات المتحدة. وقد علمتُ من زميل عراقيّ مخضرم متقاعد هناك، أن الأطباء لا يتقاضون رواتب من الحكومة، إنما تتابع عملَهم شركاتٌ تحصي ما عملوه، وتعطيهم مستحقاتهم المُجزية من شركات التأمين، كما علمتُ من ولدي أن الأطباء يقودون سياراتهم مسافات طويلة، ذهاباً إلى العمل وعودة منه.
الحشيش والظربان والكلاب: هذا ليس اسم فيلم آخر، بل هو حقيقة، فمن اللافت أن زائر كندا يصطدم أنفه بحدّة برائحة الحشيش (الماريغوانا) الفوّاحة الكريهة، والذي يدخّنه شبّان وشابات وشيب، ذلك أن الحشيش مباحٌ منذ سنوات (في البيوت فقط، لكنّ الجمهور لا يلتزم بذلك)، ناهيك عن التبغ وما على علبه من تحذيرات خطيرة. إن رائحة الحشيش كثيراً ما تختلط برائحة كريهة يطلقها حيوان (الظربان الأميركي Skunk) دفاعاً عن نفسه لدرء الحيوانات المفترسة، وإن كان نفسه قد ينقل داء الكلب أو الأمراض التنفسية. الى ذلك، تصادف في كندا حيوانات أخرى مثل الراكون والسنجاب، لكن الأكثر مصادفة هو الكلاب المنزلية، وبأنواع تكاد لا تحصى بين صغيرة وكبيرة وقصيرة الشعر وطويلة، وأوجه غريبة أو مألوفة، وكلّها تنال عناية فائقة مكلفة، طبية وتغذوية، مما لا يتحقق لكثير من البشر. واللافت أن على مالك الكلب أن يُمسك كلبه برباط يضبطه، كيلا يؤذي الآخرين، كما يتوجب عليه أن يحمل أكياساً يزيل بها مخلفات الكلب من الطرق والحدائق، وإلا نال مخالفة مؤلمة. وفي الوقت الذي تكثر فيه الكلاب، تندر رؤية الأمهات الحوامل أو عربات الأطفال، وترتفع نسبة كبار السن، ما يفسّر الرغبة المحمومة في استقبال المهاجرين الشباب ذوي الكفاءات، فهم كسب خالص مادياً ومهنياً، وقدرةً إنجابية، ولم لا؟
دماء حارة في بلد بارد، واضطراب حاسة الوطن: ما أكثر الشبان في عمر الزهور (والشابات) المتعلمين تعليماً عالياً ممن تركوا بلدانهم المضطربة أو غير المهتمّة بكفاءاتهم، وقد كلفوا أهليهم وبلادهم أرقاماً كبيرة (مئات آلاف الدولارات)، وذهبوا إلى كندا في رحلة غير سهلة، لأن المتطلبات عالية مع الإقبال الشديد، ومنافسة الهنود والصينيين الأغنياء، خلافاً للزمن الماضي، والهجرات العربية الأربع التي بدأت منذ نحو 140 عاما. إنك تصادف هؤلاء بكثرة في مسساجا وغيرها، قِبلة المهاجرين، لأنها أهون حرارياً من باقي المناطق، وأقرب اجتماعياً إلى بيئتنا العربية، ولا عجب أن تجد بائع الفلافل والفول بكل تفاصيله الفلسطينية، ولو أن قرص الفلافل يباع بدولار (مع التلميح بزيادة سعره عقب كرة الثلج الأوكرانية)، وكذا صانع الشاورما واللحم بعجين والمناقيش والحلويات بكل تفاصيله الشامية أو اللبنانية.
ويبدو أن أحباءنا ذوي الدماء الحارة، ينسَون حرّ البلدان التي قدموا منها، ليروا أن حرارة الصيف ما بين 22-32 عالية جدا، وتتطلب تكييفا دائماً. قد يُفسّر ذلك بتغيّر الشعور (ميزان الحرارة الداخلي) في البرد القارس الذي يصل إلى 20-30 مئوية تحت الصفر أحيانا، فإذا ما صارت الحرارة عشرين، فكأنها تعادل الأربعين في بلادنا، ناهيك عن الخمسينات الخليجية، مما لا ينطبق علينا نحن الزائرين، فنقع أمام الخيارالصعب بين صيف حارّ في الوطن أو برد اصطناعي في المهجر، علماً أنك في البرد الطبيعي تشعر بروحك، فيما تشعر في البرد الصناعي بجسدك وعضلاتك، وهذه يصعب تفسيرها للذين لا يعرفون أثر المكيّفات في أجسام تنضح أو تتصبب عرقاً. (ومن المؤلم أن مثل هذا الحديث ينطبق على بلدان الوفرة فحسب، فكثير من بلاد العرب باتت تتحسر على الكهرباء والتكييف والوقود وغيرها).
الملاحظ أيضاً عند بعض الوافدين والمهاجرين اضطراب حاسّة الوطن بشكل أو بآخر، فمنهم من لم يعرفْ من قبلُ وطنه الأم إطلاقاً، وكثيراً ما يكون حنينُه إلى البلد الذي عاش فيه لاجئاً أو عاملاً، وقد يكون ناقماً فيرى أي بلد خيراً من بلده (علماً أن الصانع الأصليّ في البلدين واحد)، وقد دهشتُ عندما رأيت صبيةً في عمر الورد لا تعرف من أية بلدة هي من فلسطين، كما تألّمتُ لعائلات فتية يعود عائلها تاركاً فلذات كبده وزوجته وحدهم في كندا (وكم دُمِّرت عائلات بهذه الصيغة المفكّكة للأواصر)، ولا يندر أن ترى في الطائرة سيدة عربية عادت بمولود مع جواز كندي فوري (بسبب الولادة، دون حاجة للإقامة ثلاث سنوات) وقد (اطمأن قلبها) إلى مستقبله، دون أن تهمّها حالتها هي!.
من اللافت أيضاً وجود جرائد عربية تطبع بأعداد كبيرة، وتوزع مجانا، لكن الجيل (الإلكتروني) الجديد لا يلتفت إليها، علماً أن تلك الجرائد غنية، وإن كان بعضها ينخز بعنف جهةَ الوطن.
ولأذكر نقطة إيجابية وهي أن أولادنا تغيّروا ونضجوا أكثر هناك، وعرفوا حقيقة الحياة أكثر، وأنها بالجدّ والعمل لا بالمظاهر الخادعة التي تعمي قلوب شعوبنا. وقد أخبروني بصرامةٍ أنه لا يجوز أن يُسأل أحدٌ هناك عن أصله، وإن فعلتَ يغلب أن يجيبك المسؤول أياً يكن لونه: أنا كندي I am Canadian ، وإن كنتُ لا أصدّق شخصياً أن أحداً ينسى أصله، إنما يتناساه، سوى أبناء الجيل الثاني، الذين لا يعود معظمهم يشعر بأي انتماء إلى أرض الأجداد، ولو كانت أم الحضارات، فالبيئة تصنع وغالبا ما تغلب.
مونتريال وجبلها الملكي ووجبة بوتين: من مسساجا في أونتاريو، إلى مونتريال في كيبيك، مسيرة ست ساعات بالسيارة، تصل بعدها إلى مدينة جميلة فرنسية الطابع (يقال إنها الثانية التي تتحدث الفرنسية بعد باريس)، لا يعيبها بعض الرّقع في الشوارع، وبذلك تختلف عن تورنتو ذات الطابع الأميركي. وفي الطريق السريع إليها استراحات كثيرة مجهزة تجهيزاً ممتازاً للذهاب إلى الحمام والتزوّد بالوقود وقهوة Tim Hortons الشهيرة (2)، والهمبرغر وغيره.
وفي شوارع مونتريال لا تعدم، وفي أي وقت، أصواتاً عربية لاسيما من المغرب ولبنان، كما لا تعدم فُرناً لبنانياً يقدّم لك أنواع المناقيش والبيتزا. والمعلَم الرئيس في المدينة هو (جبل الملك Mount Royal) الجميل الذي تسترخي المدينة على أطرافه، والذي يقال إنه أعطى للمدينة اسمها، وفي أعلاه مبنى أثري جميل ذو ساحة تشرف على المدينة من علٍ، فيما تجد في سفوحه حدائقَ غنّاء، وبحيرةً كبيرةً تسبح فيها الأسماك البرتقالية وربما طيور الإوز، ويؤمّها الناس للتنزه، كما يصعد إليها الدرّاجون النشطاء في رحلة جبلية صعبة، ويزورها طلبة المدارس. كما تجد في المدينة مُتحفا غنياً للعلوم، فيه أصناف الحيوانات والكائنات البرية والبحرية (وكان المطر غزيراً يوم زرناه)، إلى غير ذلك من معالم مثل إكسبو الذي أقيم في كندا عام 1967. وقريبا من المدينة يوجد منتجع جبلي على درجة من الجمال الخلاب يذكّر بجبال لبنان، وفيه مصاعد التلفريك، ناهيك عن عدد كبير من المطاعم التي تقدم الأصناف الغربية، أو البوظة، أو المخبوزات الشهية الساخنة المدهونة بالشوكولا، فتجتذب بطزاجتها وروائحها الشهية طالبي المتعة والاستجمام أيام شروق الشمس الناعمة.
لكن ما قصة وجبات بوتين؟ أوّل ما يتبادر إلى الذهن مالئ الدنيا وشاغل العالم الرئيس بوتين، لكن الوجبة الموريالية التقليدية هذه (المعروفة أيضاً في الولايات الأميركية الشمالية) لا تشبه السيد بوتين إلا بقوة مفعولها، إذ إنها تتألف من أصابع البطاطا المقلية الساخنة، وجبنة التشيدر، وصلصة فيها قطع الدجاج أو لحم البقر أو المنتجات البحرية، وهي عالية الحريرات، غير محبذة صحياً. تعود الأكلة في أصلها إلى كيبيك 1950، وتأتي من الكلمة الفرنسيةPoutine أي الجميلة، وهي بالفعل أكلة شهية جميلة لمن كان جائعاً أو أكولاً، وتمدّه بالطاقة في الجو البارد.
ظواهر كندية إيجابية: يستغل الكنديون الطبيعة في الصيف للاحتفال بها، فتنظم رحلات إلى مزارع الخضار والفواكه، (ويمكن للمرء أن يجني ما يريد شراءً من بائعات في منتهى الكياسة والجمال أحياناً) وإلى الأماكن الطبيعية الخلابة، والشواطئ والمتاحف، فيتعرف الناس إلى ما يغيب عن الأذهان. واللافت أن للدخول أسعاراً غير قليلة (للشيوخ فيه خصمٌ حتى دون مستندات)، كما أن للاصطفاف (الباركنج) أسعاراً عالية (من 10- 35 دولار)، حتى في أماكن قصية. وتمكن قيادة الدراجات الهوائية في الطبيعة الساحرة، فلها أماكنُها المخصصة، واحترامها الصارم من قبل سائقي السيارات.
ومن الظواهر الإيجابية اجتذاب الكفاءات، وتشجيع العمل الحرّ، وتسهيله بدلاً من وضع العصيّ في الدواليب، وما على المرء سوى أن يعمل بحرية، وهو يشعر بالمساواة الكاملة والتشجيع.
شلالات نياغرا (رعد المياه) وعبقري الكهرباء نيكولا تسلا: لا تتمّ متعة الزائر دون زيارة مدينة نياغرا الحدودية مع أميركا، وشلالاتها البديعة الهادرة، التي تُسمع عن بعد، فيما يصل رذاذ المياه إلى مسافات بعيدة. تقع نياغرا على مسيرة ساعة بالسيارة من تورنتو. ونهر نياغرا مضيق مشترك بين أميركا وكندا ينبع من بحيرة إري جنوبا، ويصب في بحيرة أونتاريو شمالا، في ثلاثة شلالات (أشهرها حدوة الحصان على الجانب الكندي، بعرض 830 مترا، ثم الشلال المستقيم على الجانب الأميركي). عمق النهر 20-190 قدماً، وهو غزير جدا ينقل 204 ألف قدم مكعب من المياه العذبة في الثانية.
ونياغرا في لغة الهنود الحمر تعني (رعد المياه). وقريباً من الشلالات محطة كهربائية قديمة، وأخرى ضخمة حديثة أبعد، مع تمثال للعالم الكهربائي الأشهر في العالم نيكولا تسلا، الذي أفاد علمه في نقل الطاقة الكهربائية الهائلة المتولدة من الشلالات.
شذرات مجتمعية ودينية وبابوية: في كندا تنوّع عرقي وديني كبير له احترامه الحكومي والعام. فعدا عن الكاثوليك والبروتستانت والمسلمين والهنود والصينيين بأنواعهم، صادفنا طوائفَ لم نألف مثلها من قبل، مثل طائفة اليهود المحافظة في مونتريال، وطائفة الآميش المسيحية المهاجرة منذ ثلاثة قرون من أوربا هاربةً من السلطة البابوية. وهذه الأخيرة لا تعترف بالحضارة الحديثة، وتعدّها سبباً للفساد، فلا تستخدم الكهرباء ولا الهاتف ولا وسائل النقل عدا الأحصنة والعربات، ولديها صفات أخلاقية حميدة (البشاشة والطيبة والملكية الجماعية، وغياب الجشع والطمع والجريمة… وحشمة النساء وعذرية البنات)، وكم هي نادرة هذه الصفات اليوم في مجتمع يروج للمثلية الجنسية مثلاً، ويدرّسها لأطفال المدراس.
أما الوحيدون الذين لم نصادفهم فهم أهل البلاد الأصليون Aboriginal Canadian ( شعب الإنويت Inwit، وهو مسمّىً أميركي يعني الشعب الذي يأكل الطعام نيئاً، ومن تلاهم الميتي Metis ، من زواج الإنويت مع الأوربيين لاسيما الفرنسيين)، فيما اختفت التسميات القديمة لهم (الإسكيمو والهنود الحمر). وقد صادف وجودنا هناك زيارة البابا فرنسيس لمقاطعة (ألبرتا) يوم 23 تموز (يوليو) 2022، طالباً الصفح عن دور الكنيسة الكاثوليكية في اضطهاد أطفال الإنويت (وعددهم 150 ألفاً) الذين فصلوا عن أسرهم بغرض دمجهم ثقافياً، وتعرّضوا في 130 مدرسة لأعمال عنف وجنس بشعة، وتوفي نحو 6000 منهم.
هذا، وفي كندا مقابر هي حدائق في قمة الجمال، تضم رفات كل الفئات، وتتوزع الأوراد والأزاهير على كل قبر، وتتوفر صنابير للمياه كثيرة مع أوانٍ يستخدمها ذوو الموتى لري الزهور.
العودة من تورنتو إلى العين في 20 ساعة، ورؤية ضبابية: ها قد آذنت الرحلة الحلم على الانتهاء، وآن أوان (ضبضبة) الحقائب. بعد إفطار غنيّ صنعه محمد، انطلقت بنا ابنتي ريم ومعها صغيرتاها سيرين وجوليا في الساعة الحاديةَ عشرةَ صباحَ السبت 13 آب (أغسطس) 2022 (السابعة مساءً في دبي). الشمس مشرقةٌ، والغيوم متراكمةٌ في الأفق البعيد، كأنها تنتظر سفرنا كي تأتي. مواقفُ الوداع خانقةٌ وصعبة، وابنتي ورثتْ مني ذلك. ناولتني سيرين لُصاقتين لمّاعتين، ألصقتُهما على قميصي، وللأسف سقطت واحدةٌ منهما دون أن أدري في (عجقة) نقل الحقائب، وإجراءات السفر التي كانت أسهل من رحلة القدوم. وعندما سألتْ زوجتي الهندي الأشيب الدمث عن إمكانية استرداد الضرائب (وقدرها 13%)، أخبرها بلطف أن ذلك توقف – للأسف – منذ ثلاثة عشر عاماً.
طائرة الإمارات رابضةٌ فوق المدرّج، وحركةٌ دائبةٌ إليها بدأت قبل ساعات، إلى أن حان وقت الصعود. في الصف 61، جلست على يساري “أم العيال” قرب النافذة، فيما جلس على يميني شاب هندي ضئيل الجسم صموتٌ، وعدتُه ألا أزعجه كثيراً بالقيام في الرحلة الطويلة. معظم الركاب في الطائرة هنود صامتون، وقلّةٌ بيض (رمز لأوربيي الأصل)، وكذا العرب ممن يذكّروننا بصورنا ويشعروننا بالحميميّة في الطيران المحلي. بريق رحلة العودة ليس كما في الذهاب، وإن تشابهت المعطيات. الإياب المألوف غير الذهاب الاستكشافي، و(الألفة) تُفقد الدهشة كما يقال. أناقة المضيفات واضحة، وانهماكهنّ أوضح، منهنّ عربيات لا ينقصهن الحُسن، فيما روسيّة هيفاء تولّت خدمة جهتنا بودّ ودأب.
أذكر هنا أن بعض قرائي في رحلة الذهاب (المنشورة في مجلة “تأمين”) استوضح مدحيَ مطار دبي وطيران الإمارات، وهل تقاضيتُ خصماً مقابل ذلك؟ والواقع أنني قلتُ الحقّ، ولم أنلْ سوى الاهتمام المعنوي وقطعتي شوكولا، عندما عرّفتُ بنفسي طبيباً، يمكن أن يُحتاجَ إليه على متن الطائرة.
الطريق طويلٌ طويل فوق الأطلسي ثم أوربا وتركيا، يمضي ببطء تتخلّله وجباتٌ شهية، وغفوات مسروقة، ومشيٌ، ومحادثةٌ لبعض الركاب الحائرين في عروبتهم ومصير أولادهم في كندا، وهل يمكن أن يتآلفوا مع أوطانهم إن عادوا إليها؟ الشاشة الموجودة أمام كلّ راكب تسلّيه وتنبّهه بأدب كلما أنزل القناع، لكن القراءة تبقى عندي بيت القصيد، وهذه المرة اخترت كتابَيْن يحتاجان إلى تمعّن شديد: الأول: “المغالطات المنطقية وأثرها في الشعر العربي”، قيد الطباعة للأديب الفلسطيني يوسف حطيني، ويرصد فيه علاقة البلاغة بالمنطق (وإن كان أكذبُ الشعر أجملَه). والثاني: “كلمات الجمال” فائق العذوبة والصعوبة، للأديب السوري سعد الدين كليب، علماً أن كلا الأديبين دكتور وأستاذ جامعي للأدب العربي.
بعد 13 ساعة طيران، وفي الحاديةَ عشرةَ من صباح الأحد 14 آب (أغسطس) 2022، كانت الطائرة تحوم فوق دبي، لتحطّ بسلام فوق مدرج المطار، لكن دون أن تتقدّم لإنزال الركاب. وعندما نظرنا من النافذة عرفنا السبب، فالجو سديمي، ومجال الرؤية محدود، إذ تتعرّض البلاد لمثل هذا الجو بين وقت وآخر. بعد نصف ساعة كنا نتقدم في ردهات مطار دبي العملاق، لنغدو أمام موظفين في غاية التهذيب، متجهين بعدهم إلى الحقائب، ثم مخرج المطار بحثاً عن (سامي) صغيرنا الذي كبر بتسلّمه مسؤوليات كبيرة في غيابنا، تتعلق بالحفاظ على البيت، والتجهيز الإلكتروني للعيادة، الذي ما عاد ممكناً العمل بدونه.
كنت أفكّر بالوهج الذي سيستقبلنا في تتمّة آب، وبالملابس التي لا تجف، وبالمكيفات الهادرة (وتلك أمور ألفناها خلال عقود)، وبمكابدة التعب نتيجة اختلاف التوقيت وانقلاب نظام النوم (Jet Lag) الذي قد يزعج أياماً إلى أسابيع، وبالالتزامات المِهْنية وغير المِهْنية المتراكم منها واللاحق، كمضاعفة التأمين مثلاً، مما يضغط بغير هوادة، وبالأسئلة المحمومة والشدّ والجذب بين الجذور والفروع، وأن لماذا لم تبقَوا لتصبحوا كنديين، وقد فتح المجال أمامكم، ورأيتم كم هي العناية بـ (Seniors) رائعة.
هنا انفتح باب مرآب المطار بعدما استعصى أمام سيارتنا دون سبب واضح، رغم تجديد الدفع لعشرة دولارات أخرى، انفتح بحضور مراقب المرآب الآسيوي، فانطلق بنا سامي إلى الطريق الدولي الفسيح المؤدي إلى العين، لكن بمجال رؤية محدود نكاد لا نرى ما بعده.
____________________