لا شغل للعالم اليوم غير كوفيد 19، ولا همّ له – بعد العلاج والبحث عن لقاح – أكثر من التعقيم والعزل. إنه الموت الذي يقرع الأبواب، والاقتصاد الذي يتهاوى، والعائلات التي تجوع، والنفوس التي ترتعد للآتي، وقد تموت جَزَعاً قبل الموت حقيقةً، لأن الأوركسترا الإعلامية الضخمة لا تنفكّ تضخّ أخبار الوباء الطاغي لحظةً بلحظة، والتي تلقى صدىً مختلفاً بين شخصٍ وآخر.
والنتيجة هي أن سوق التعقيم اضطرمت، ووساوس الناس اشتعلت (40% من البشر لا يتوافر لديهم ماء نظيف ولا صابون)، وضمائر تجّار الأزمات المتردّية أصلاً تضاءلت، وأنياب الليوث برزت، فنشبت بلحوم الطيبين، بعدما ظنوا – بكل طيبة قلب – أنها ضمرت، وصارت نباتية وديعة.
والتعقيم ليس أمراً مستحدثاً ولا سهلاً، ولي به معرفةٌ لا يستهان بها منذ عقود، ففي الشام مثلا، كنا في العام 1984 لا نقوم بعمل طبي من دون التعقيم المناسب من غسل اليدين ورشّهما بمحلول “البيتادين” وفركهما (بعد خلع الخاتم والساعة، لتعقيم ما تحتهما)، إلى لبس القفازيْن بالطريقة الصحيحة، إلى وَضْع الكِمامة، إلى ما هو أعقد عند الدخول إلى غرفة العمليات الجراحية مع أطباء التوليد، أو أطبّاء جراحة الأطفال.
ذلك سبق بوقت طويل إنشاء لجان خاصة بالتعقيم في كل مستشفى، دَعَوْا الواحدة منها “لجنة ضبط الإنتان” Infection Control Committee، وكان الداعي إليها انتشار الإنتانات بجراثيم خطيرة في وحدات الولدان والعناية المشدّدة، على رغم تطبيق الإجراءات المطلوبة، إذ كانت الجراثيم تستعمر حتى الكحول وأنابيب الأكسجين والمنفّسات الصناعية، ما استدعى في النهاية، بعد الإخفاق الذريع، هَدْم المنشآت الطبية وإعادة بنائها. هنا لأذكر أن عمل تلك تلك اللجان في مراقبتهم الكادر الطبي، وكلّ التفاصيل، دقيقٌ وصارم، إلى درجةٍ أشدّ نِكالاً من تعامل الاستخبارات مع المجرمين، بفائدةٍ حيناً، أو بلا فائدةٍ حيناً آخر، لأن أهم ما يجب تعقيمه هو الضمير البشري، فيكون هو الرادع لكل من سوف يدخل إلى مرضى ذوي مناعة ضعيفة، فلا يستهين بشيء. وأعلم علم اليقين أن العدوى تحدث عند إهمال القواعد الطبية، تبعاً لكمية الجراثيم المُعدية (والتي تكثر في الأماكن المزدحمة)، وحالة (الهدف) مناعياً ونفسياً، لترى أن نَفَساً إنتانياً حارّاً قرب الوجه قد يسبّب مرضاً شديداً لمتلقّيه في اليوم نفسه، كما أن اتساخ الأيدي ينقل مختلف الأمراض التنفسية والهضمية والعينية.. لتزداد العدوى عند من تدنّتْ مناعته، أو تعبتْ نفسيّتُه.
تعالوا الآن إلى بعض المشاهدات حول مرض العصر المرعب، ولنعترفْ بشحّ المعلومات الأولية الواردة بشأنِه وتضاربها، مما جعل معظم الناس يستخفّ بالقصة، خاصة عندما قُلّل من شأن المرض “بأنه إنفلونزا، ولا داعي إلى الخوف مما نعرف”. أقول لكم الصدق: بقيتُ متوجّساً جداً من تناقض القول مع الصُوَر، وتساءلتُ: ما هذا المرض الذي يلبس له الأطباء لباساً يشبه لباس روّاد الفضاء؟
ومع تصاعد الخوف الممنهج، وتكاثر المعلومات، بدأت الدول كلُّها تقريباً تنحو منحىً متشدداً، فتوقفت كل مظاهر الحركة على الأرض والسماء (الساحات الفارغة، الالتزام بالبيوت، التعليم والعمل عن بُعد، توقف الطيران)، وتحوّلت النظافة والتعقيم إلى وسواس، الأمر الذي يكاد يكون مستحيلاً، مثلما صوّره رجل مرِح: “بدأت بتنظيف يدي، ثم صنبور الماء لأني لمسته، ثم الحمّام، فالبيت، وهأنذا أشطف الشارع”.
إذاً الأمر لا ينتهي، لأنك سوف تلامس بالتأكيد أشياء كثيرة محيطة بك، وكثيراً ما تلمس وجهك دون انتباه، فتدخل في الحلقة المعيبة (غسلٍ وتعقيم ولمس)، ناهيك عن غياب ما يلزم للوقاية عند الأشخاص العاديين أو حتى في المستشفيات التي تعرّضت لوابلٍ من المرضى، وإذا توافرت الوسائل لا بدّ للعين الخبيرة أن تلحظ أخطاء التعقيم بلا حساب، لا سيما عند أفراد الطبقة الفقيرة أو الجاهلة، فمثلاً حين تدخل إلى مجمّع عمّالي بدائي لا تجد فيه سوى أبسط بسائط الحياة، وكذا حياة أهل البلاد التي جارت عليها الحروب، فكيف تطلب من هؤلاء أن يكونوا حذرين، وهم متكدّسون بعضهم فوق بعض، والغذاء غالٍ، والماء بالكاد يتوافر؟ وبالمثل، عندما تدخل إلى مؤسسة للبيع فترى الناس في زحام، لأنهم يريدون أن يؤمّنوا حاجاتهم، وتجد العمال يلبسون القفازات ذاتها طوال ساعات، فما الفرق بينها وبين يدين لم تغسلا طوال الوقت؟
النظافة (ولا أقول التعقيم) عملية ليست سهلة حتى في أرقى الفنادق والمطاعم تلامس أيدي الحاضرين كل الملاعق المخصّصة للسكب عدا عن (التزاحم) الاجتماعي! إن النظافة أسلوب حياة يُكتسب منذ نعومة الأظفار عند الأهل، وليست كل الأمم ولا العائلات متشابهة في عادات النظافة، ولا في توفّر متطلباتها، ناهيك عن أماكن العدوى التي لا ينتبه لها (أنابيب الأراجيل، شاشة الهاتف، لوحة مفاتيح الحاسوب، ومقعد الحمام أنظف منها بكثير، زوايا المطابخ والحمامات).
ولما كان التعقيم الكلي مستحيلاً، ارتأت السلطات أن أفضل الطرق لتخفيف العدوى هو منع الناس من الحركة ما أمكن، ولو بالقوة والغرامات القاسية، لأن الناس إذا تحركوا فتلك هي المظاهر والمخاطر، ناهيك عن أناسٍ لا يعرفون محظوراً، جهلا أو عمداً، على حد قول إحداهنّ لصاحباتها: “صحيح كورونا منتشر، بس بدي أبوّسكن كلكن”، وهذا سلوك – مع الأسف – مألوف في المجتمعات التي تبتذل التعبير عن عواطفها، وكم شوهدت نسوة في حفلات استقبال لا يتوقفن عن التقبيل، وكم شوهد رجال يقبّلون بـ “أمانة” شديدة كمن يتذوّق الآيس كريم، فإذا لم يكونوا مرضى، فعليك أن تتحمّل أنفاسهم وعرقهم وتبغهم، وبعض لعابهم.
إن التعقيم الجائر للأيدي بالكحول غير مرغوب به أصلاً، إذ يغير طبيعة العوامل الممرضة،
ولا يترك فرصة للمناعة الطبيعية كي تقوم بدورها، مما يزيد الأمراض التحسّسية، وجفاف الجلد وتشقّقه، مما يمكّن العوامل الممرضة من الدخول. كما أن تعقيم الأرض بالكلور يؤدي إلى تبخره بعد قليل، فيخرش الأنف والقصبات الهوائية (عطاس، وسعال جاف) والعيون التي تصبح حمراء جافة حاكة.
كيف استذأب تجار الأزمات؟ أمثال هؤلاء موجودون دائماً، لكني سأبدأ بملاحظتين وصلتاني مبكّرتين، أولاهما: صورة أم تقول لابنتها الشابة في حفل: اذهبي و(اعملي فتلة) أمام تلك السيدة، فابنها العازب تاجر كِمامات!. لم أعطِ الرسالة حقّها في ذلك الوقت المبكر (شباط 2020). والثانية: من أم قالت: إنها لم تجد أي كمامة في السوق. لكن عندما بدأت الاوركسترا تصاعد حركتها (كريشندو، بلغة الموسيقى)، سألت (وأنا الجالس في “سوق” الطب لعقود عن شيئين: المعقّمات، والكمّامات، وكم أدهشني الجواب: إنها غير متوفرة، والكميات التي تأتي قليلة، (تطير بسرعة)، وقد ارتفعت أسعارها أضعافاً، هذا مع أننا نعيش في بلد مرتاح، والرقابة فيه قوية وصارمة، فكيف هي الحال في بلدان الضيق والعوز والحروب والانفلات؟
فكّرت بالحال ووجدتُ أننا – نحن المستهلكين – السبب، لأن بعضاً منا (يتذابح) على الحاجات من غير داعٍ (كأن يشتري عشرات أو مئات العلب)، ومن هنا بدأت أفهم ذلك السيل الطاغي من الأخبار التي تتحدث عن صنع الكمّامات، منها ما هو جاد، ويدلك على المصادر المنزلية أو تلك التجميلية مثل الخمار الخمري الذي لبستْه مرشّحة رئاسية أوربية، ومنها ما هو مضحك بالفعل، مثل استخدام الملابس النسائية.
ذلك مقلق بالتأكيد، لكن ما أقلقني أكثر هو تصرّف الدول الكبرى بشأن المعلومات، والكِمامات والأجهزة الطبية، بلطجةً وقرصنةً، إذ قامت بـ (نشل) الصفقات وتحويلها إلى بلدانها (ويا روح ما بعدك روح)، فيما رأينا أناساً يشترون الأسلحة وينهبون المتاجر، وكلّ يقول: اللهم أسألك نفسي. صدق من قال: “بالنار امتحان الذهب، وبالأزمات امتحان الرجال”. وفي هذا الامتحان سقطت كل الأقنعة.
والنتيجة هي أن سوق التعقيم اضطرمت، ووساوس الناس اشتعلت (40% من البشر لا يتوافر لديهم ماء نظيف ولا صابون)، وضمائر تجّار الأزمات المتردّية أصلاً تضاءلت، وأنياب الليوث برزت، فنشبت بلحوم الطيبين، بعدما ظنوا – بكل طيبة قلب – أنها ضمرت، وصارت نباتية وديعة.
والتعقيم ليس أمراً مستحدثاً ولا سهلاً، ولي به معرفةٌ لا يستهان بها منذ عقود، ففي الشام مثلا، كنا في العام 1984 لا نقوم بعمل طبي من دون التعقيم المناسب من غسل اليدين ورشّهما بمحلول “البيتادين” وفركهما (بعد خلع الخاتم والساعة، لتعقيم ما تحتهما)، إلى لبس القفازيْن بالطريقة الصحيحة، إلى وَضْع الكِمامة، إلى ما هو أعقد عند الدخول إلى غرفة العمليات الجراحية مع أطباء التوليد، أو أطبّاء جراحة الأطفال.
ذلك سبق بوقت طويل إنشاء لجان خاصة بالتعقيم في كل مستشفى، دَعَوْا الواحدة منها “لجنة ضبط الإنتان” Infection Control Committee، وكان الداعي إليها انتشار الإنتانات بجراثيم خطيرة في وحدات الولدان والعناية المشدّدة، على رغم تطبيق الإجراءات المطلوبة، إذ كانت الجراثيم تستعمر حتى الكحول وأنابيب الأكسجين والمنفّسات الصناعية، ما استدعى في النهاية، بعد الإخفاق الذريع، هَدْم المنشآت الطبية وإعادة بنائها. هنا لأذكر أن عمل تلك تلك اللجان في مراقبتهم الكادر الطبي، وكلّ التفاصيل، دقيقٌ وصارم، إلى درجةٍ أشدّ نِكالاً من تعامل الاستخبارات مع المجرمين، بفائدةٍ حيناً، أو بلا فائدةٍ حيناً آخر، لأن أهم ما يجب تعقيمه هو الضمير البشري، فيكون هو الرادع لكل من سوف يدخل إلى مرضى ذوي مناعة ضعيفة، فلا يستهين بشيء. وأعلم علم اليقين أن العدوى تحدث عند إهمال القواعد الطبية، تبعاً لكمية الجراثيم المُعدية (والتي تكثر في الأماكن المزدحمة)، وحالة (الهدف) مناعياً ونفسياً، لترى أن نَفَساً إنتانياً حارّاً قرب الوجه قد يسبّب مرضاً شديداً لمتلقّيه في اليوم نفسه، كما أن اتساخ الأيدي ينقل مختلف الأمراض التنفسية والهضمية والعينية.. لتزداد العدوى عند من تدنّتْ مناعته، أو تعبتْ نفسيّتُه.
تعالوا الآن إلى بعض المشاهدات حول مرض العصر المرعب، ولنعترفْ بشحّ المعلومات الأولية الواردة بشأنِه وتضاربها، مما جعل معظم الناس يستخفّ بالقصة، خاصة عندما قُلّل من شأن المرض “بأنه إنفلونزا، ولا داعي إلى الخوف مما نعرف”. أقول لكم الصدق: بقيتُ متوجّساً جداً من تناقض القول مع الصُوَر، وتساءلتُ: ما هذا المرض الذي يلبس له الأطباء لباساً يشبه لباس روّاد الفضاء؟
ومع تصاعد الخوف الممنهج، وتكاثر المعلومات، بدأت الدول كلُّها تقريباً تنحو منحىً متشدداً، فتوقفت كل مظاهر الحركة على الأرض والسماء (الساحات الفارغة، الالتزام بالبيوت، التعليم والعمل عن بُعد، توقف الطيران)، وتحوّلت النظافة والتعقيم إلى وسواس، الأمر الذي يكاد يكون مستحيلاً، مثلما صوّره رجل مرِح: “بدأت بتنظيف يدي، ثم صنبور الماء لأني لمسته، ثم الحمّام، فالبيت، وهأنذا أشطف الشارع”.
إذاً الأمر لا ينتهي، لأنك سوف تلامس بالتأكيد أشياء كثيرة محيطة بك، وكثيراً ما تلمس وجهك دون انتباه، فتدخل في الحلقة المعيبة (غسلٍ وتعقيم ولمس)، ناهيك عن غياب ما يلزم للوقاية عند الأشخاص العاديين أو حتى في المستشفيات التي تعرّضت لوابلٍ من المرضى، وإذا توافرت الوسائل لا بدّ للعين الخبيرة أن تلحظ أخطاء التعقيم بلا حساب، لا سيما عند أفراد الطبقة الفقيرة أو الجاهلة، فمثلاً حين تدخل إلى مجمّع عمّالي بدائي لا تجد فيه سوى أبسط بسائط الحياة، وكذا حياة أهل البلاد التي جارت عليها الحروب، فكيف تطلب من هؤلاء أن يكونوا حذرين، وهم متكدّسون بعضهم فوق بعض، والغذاء غالٍ، والماء بالكاد يتوافر؟ وبالمثل، عندما تدخل إلى مؤسسة للبيع فترى الناس في زحام، لأنهم يريدون أن يؤمّنوا حاجاتهم، وتجد العمال يلبسون القفازات ذاتها طوال ساعات، فما الفرق بينها وبين يدين لم تغسلا طوال الوقت؟
النظافة (ولا أقول التعقيم) عملية ليست سهلة حتى في أرقى الفنادق والمطاعم تلامس أيدي الحاضرين كل الملاعق المخصّصة للسكب عدا عن (التزاحم) الاجتماعي! إن النظافة أسلوب حياة يُكتسب منذ نعومة الأظفار عند الأهل، وليست كل الأمم ولا العائلات متشابهة في عادات النظافة، ولا في توفّر متطلباتها، ناهيك عن أماكن العدوى التي لا ينتبه لها (أنابيب الأراجيل، شاشة الهاتف، لوحة مفاتيح الحاسوب، ومقعد الحمام أنظف منها بكثير، زوايا المطابخ والحمامات).
ولما كان التعقيم الكلي مستحيلاً، ارتأت السلطات أن أفضل الطرق لتخفيف العدوى هو منع الناس من الحركة ما أمكن، ولو بالقوة والغرامات القاسية، لأن الناس إذا تحركوا فتلك هي المظاهر والمخاطر، ناهيك عن أناسٍ لا يعرفون محظوراً، جهلا أو عمداً، على حد قول إحداهنّ لصاحباتها: “صحيح كورونا منتشر، بس بدي أبوّسكن كلكن”، وهذا سلوك – مع الأسف – مألوف في المجتمعات التي تبتذل التعبير عن عواطفها، وكم شوهدت نسوة في حفلات استقبال لا يتوقفن عن التقبيل، وكم شوهد رجال يقبّلون بـ “أمانة” شديدة كمن يتذوّق الآيس كريم، فإذا لم يكونوا مرضى، فعليك أن تتحمّل أنفاسهم وعرقهم وتبغهم، وبعض لعابهم.
إن التعقيم الجائر للأيدي بالكحول غير مرغوب به أصلاً، إذ يغير طبيعة العوامل الممرضة،
ولا يترك فرصة للمناعة الطبيعية كي تقوم بدورها، مما يزيد الأمراض التحسّسية، وجفاف الجلد وتشقّقه، مما يمكّن العوامل الممرضة من الدخول. كما أن تعقيم الأرض بالكلور يؤدي إلى تبخره بعد قليل، فيخرش الأنف والقصبات الهوائية (عطاس، وسعال جاف) والعيون التي تصبح حمراء جافة حاكة.
كيف استذأب تجار الأزمات؟ أمثال هؤلاء موجودون دائماً، لكني سأبدأ بملاحظتين وصلتاني مبكّرتين، أولاهما: صورة أم تقول لابنتها الشابة في حفل: اذهبي و(اعملي فتلة) أمام تلك السيدة، فابنها العازب تاجر كِمامات!. لم أعطِ الرسالة حقّها في ذلك الوقت المبكر (شباط 2020). والثانية: من أم قالت: إنها لم تجد أي كمامة في السوق. لكن عندما بدأت الاوركسترا تصاعد حركتها (كريشندو، بلغة الموسيقى)، سألت (وأنا الجالس في “سوق” الطب لعقود عن شيئين: المعقّمات، والكمّامات، وكم أدهشني الجواب: إنها غير متوفرة، والكميات التي تأتي قليلة، (تطير بسرعة)، وقد ارتفعت أسعارها أضعافاً، هذا مع أننا نعيش في بلد مرتاح، والرقابة فيه قوية وصارمة، فكيف هي الحال في بلدان الضيق والعوز والحروب والانفلات؟
فكّرت بالحال ووجدتُ أننا – نحن المستهلكين – السبب، لأن بعضاً منا (يتذابح) على الحاجات من غير داعٍ (كأن يشتري عشرات أو مئات العلب)، ومن هنا بدأت أفهم ذلك السيل الطاغي من الأخبار التي تتحدث عن صنع الكمّامات، منها ما هو جاد، ويدلك على المصادر المنزلية أو تلك التجميلية مثل الخمار الخمري الذي لبستْه مرشّحة رئاسية أوربية، ومنها ما هو مضحك بالفعل، مثل استخدام الملابس النسائية.
ذلك مقلق بالتأكيد، لكن ما أقلقني أكثر هو تصرّف الدول الكبرى بشأن المعلومات، والكِمامات والأجهزة الطبية، بلطجةً وقرصنةً، إذ قامت بـ (نشل) الصفقات وتحويلها إلى بلدانها (ويا روح ما بعدك روح)، فيما رأينا أناساً يشترون الأسلحة وينهبون المتاجر، وكلّ يقول: اللهم أسألك نفسي. صدق من قال: “بالنار امتحان الذهب، وبالأزمات امتحان الرجال”. وفي هذا الامتحان سقطت كل الأقنعة.
سحابةُ صيف
أم غيمةُ خريف؟
أم غيمةُ خريف؟
مفاجآت الزمن متوقعة في كل عمر ووقت،
لا سيما بعد أن يغزو الشيب المفارقَ. هذا ما يعرفه كل من تجاوز الخمسينات أو الستينات، تبعاً لما استهلكه من أعضائه ونفسه وعقله، إذ يدرك في قرارة نفسه أنه ليس كابن العشرين أو الثلاثين، وأن عليه توقّع خللٍ ما في القلب أو الموثة (البروستات) (أو الثدي والرحم.. عند النساء) أو الدرق أو الكُلى أو العيون وسواها…
ففي رمضان الأخير الذي واكبه جوّ حارّ، مضى نحو ثلثه على خير. لكن في عصر الرابع من أيار، فاجأني ألمٌ بسيطٌ ناخزٌ في الخاصرة اليسرى. أحسَسْتُه غريباً، ولكنني قلت: أرتاح، وأنام كالمعتاد في أوج انخفاض الطاقة، فيمضي. غير أن الألم الغريب داهمني بشدّة، فجعلني أتعرّق وأتلوّى وأنحطّ. نظرت حولي، فلم أجد من أولادي الأربعة غير أصغرهم يدرس للثانوية العامة (أونلاين) في غرفة مجاورة، فيما غاب الباقون في أرجاء الأرض. أخبرتُه أن ينادي أمّه لمساعدتي، وعندما رأتني ثار قلقها (وهي التي
لا تجزع عادة) فوق مستوى قلقي، وراحت تبحث عن معين. طلبتُ كأس ماء وحبّتي باراسيتامول، ولما لم يهدأ الوجع شربت كأس نعناع حار، واضطجعتُ إلى أن اشتد الألم ثانية، فراحت زوجتي تستشير زميلاً، وكم كان كريماً في تجاوبه، وخلصنا إلى أنّ الألم كلويّ المنشأ من حصاة نازلة على الأغلب، واتفقنا أن أراجع المستشفى للتأكد، ولنفي ما هو أشد.
لا أخفيكم أن الأمر برمّته أزعجني فوق كل حدّ، فعدا عن طبيعة الوقت الحرج على الناس وعليّ، أنا لم أدخل المستشفى من قبلُ إلا طبيباً، وإن أُصِبتُ ببعض أمراض تتطلب الاستشفاء، تداركتها في البيت. كان أحدها التهاب رئة غير نمطيّ أول عملي في مستشفى مدينة “العين” (أبو ظبي) 1989، وبعض حالات شرسة من التهاب الأمعاء الحاد، معظمها في دمشق، لكن آخرها وأشرسها كان في بيروت صيف 2019. هذه المرّة رأيتها مختلفة، إذ أحسستُ أن دخول المستشفى صار قاب قوسين أو أدنى، وما أنا بالمحبّ لسلوك عدد منها، لأسباب موضوعية، وأنا أدرى بشعابها. كان شعوري أشبه بخروف العيد يُجرّ غصباً إلى القصّاب، أو بمتّهمٍ يزجّ كرهاً وراء القضبان.
على أنّ ارتياحي لزميلي الجراح شجّعني، فهان عليّ الأمر، لكنني – في معرض التهيّؤ للخروج – اشتد عليّ الألم، فاتصلتُ بعد الإفطار بزميل شعاعي، وكم كان لافتاً أنه وصل إلى المستشفى قبلي، وسأل عني، ولكنني كنت وقتها غير قادر على الحراك!
بعد قليل من تناولي الآيبو بروفن، وهو مسكّن ومكافع الالتهابات، هدأ الألم، هدأ ويا للغرابة تماماً، حتى إنني قدتُ سيارتي بنفسي إلى قسم الطوارئ، ترافقني زوجتي، وهناك قابلنا طبيبة متحمّسة، فأرشدتنا إلى ما يجب فعله، وأخبرني زميلي المصوّر أن حصاةً نازلة بقطر 5-6 مم، تسبب ضغطاً راجعاً على الكُلية اليسرى، وأعرب عن تفاؤله بأنها ستطرح خلال يوم أو يومين، ولا يوجد ما يعكّر الأجواء، فالمستحسنُ إذاً هو العودة إلى البيت والإكثار من السوائل، مع المسكنات عند اللزوم.
عدتُ، وعادت شهيّتي إلي، فتناولت الإفطار- العشاء في العاشرة ليلا، وبقيتْ أموري شبه مستقرة ما عدا حس زحير بولي كلما تشكّل سائل في المثانة، إلى أن تجاوز الليل منتصفه بساعات، فإذا بألم شديد لا يُطاق، أشدّ وأدهى من سابقه في البطن، لأتلوى وأتلوى حتى أنام من الإنهاك.
وعندما أتى الصباح، كم كان عجيباً ورائعاً أنني استيقظتُ مرتاحاً جداً في الثامنة والنصف، وكأن شيئاً لم يكن بالليل، فخمّنتُ أن الحصاة نزلت، ومع نزولها عاد كل جمال الحياة إلى ناظري، بل أحسست أن الماء الساخن في الحمّام، بسبب قوة أشعة الشمس (إذ لا تقل عن 45 عندنا في أيار)، هو أجمل هدية من رب العالمين، وهو يغسل مع الشامبو والصابون المعطرين أدران الليل وآلامه.
بقي شيء منغصٌ لم أذكرْه في قصتي، شيء
لا يُذكر الطّب (المُكرِب) اليوم إلا ويذكر معه، بل يلازمه كظلّه البغيض، ألا وهو التأمين. لن تصدقوا أن يوم مرضي صادف يوم انتهاء التأمين الذي حرصت عليه ستة عشر عاماً بأرقام عالية، ولم أحتجه إلا اليوم. والمضحك أنه مع الحظر والعمل عن بعد، نام بعض الموظفين، فما استطعنا تفعيل البطاقة، ولا وجدنا سبيلاً إلى تحويل المبلغ المطلوب، فيما أصر المستشفى على رقم (خرافي) لعشر دقائق من التشاور.
جزى الله الشدائد كل خير وإن كانت تغصّصــــني بريقي وما شـكري لها إلا لأني عرفتُ بها عدوي من صديقي،
طبعاً عدوّي هو المرض، الذي كان برمّته مثل سحابة صيف، انقشعت بحمد الله، وإن كانت تؤذن لرياح الخريف بالهبوب.
لا سيما بعد أن يغزو الشيب المفارقَ. هذا ما يعرفه كل من تجاوز الخمسينات أو الستينات، تبعاً لما استهلكه من أعضائه ونفسه وعقله، إذ يدرك في قرارة نفسه أنه ليس كابن العشرين أو الثلاثين، وأن عليه توقّع خللٍ ما في القلب أو الموثة (البروستات) (أو الثدي والرحم.. عند النساء) أو الدرق أو الكُلى أو العيون وسواها…
ففي رمضان الأخير الذي واكبه جوّ حارّ، مضى نحو ثلثه على خير. لكن في عصر الرابع من أيار، فاجأني ألمٌ بسيطٌ ناخزٌ في الخاصرة اليسرى. أحسَسْتُه غريباً، ولكنني قلت: أرتاح، وأنام كالمعتاد في أوج انخفاض الطاقة، فيمضي. غير أن الألم الغريب داهمني بشدّة، فجعلني أتعرّق وأتلوّى وأنحطّ. نظرت حولي، فلم أجد من أولادي الأربعة غير أصغرهم يدرس للثانوية العامة (أونلاين) في غرفة مجاورة، فيما غاب الباقون في أرجاء الأرض. أخبرتُه أن ينادي أمّه لمساعدتي، وعندما رأتني ثار قلقها (وهي التي
لا تجزع عادة) فوق مستوى قلقي، وراحت تبحث عن معين. طلبتُ كأس ماء وحبّتي باراسيتامول، ولما لم يهدأ الوجع شربت كأس نعناع حار، واضطجعتُ إلى أن اشتد الألم ثانية، فراحت زوجتي تستشير زميلاً، وكم كان كريماً في تجاوبه، وخلصنا إلى أنّ الألم كلويّ المنشأ من حصاة نازلة على الأغلب، واتفقنا أن أراجع المستشفى للتأكد، ولنفي ما هو أشد.
لا أخفيكم أن الأمر برمّته أزعجني فوق كل حدّ، فعدا عن طبيعة الوقت الحرج على الناس وعليّ، أنا لم أدخل المستشفى من قبلُ إلا طبيباً، وإن أُصِبتُ ببعض أمراض تتطلب الاستشفاء، تداركتها في البيت. كان أحدها التهاب رئة غير نمطيّ أول عملي في مستشفى مدينة “العين” (أبو ظبي) 1989، وبعض حالات شرسة من التهاب الأمعاء الحاد، معظمها في دمشق، لكن آخرها وأشرسها كان في بيروت صيف 2019. هذه المرّة رأيتها مختلفة، إذ أحسستُ أن دخول المستشفى صار قاب قوسين أو أدنى، وما أنا بالمحبّ لسلوك عدد منها، لأسباب موضوعية، وأنا أدرى بشعابها. كان شعوري أشبه بخروف العيد يُجرّ غصباً إلى القصّاب، أو بمتّهمٍ يزجّ كرهاً وراء القضبان.
على أنّ ارتياحي لزميلي الجراح شجّعني، فهان عليّ الأمر، لكنني – في معرض التهيّؤ للخروج – اشتد عليّ الألم، فاتصلتُ بعد الإفطار بزميل شعاعي، وكم كان لافتاً أنه وصل إلى المستشفى قبلي، وسأل عني، ولكنني كنت وقتها غير قادر على الحراك!
بعد قليل من تناولي الآيبو بروفن، وهو مسكّن ومكافع الالتهابات، هدأ الألم، هدأ ويا للغرابة تماماً، حتى إنني قدتُ سيارتي بنفسي إلى قسم الطوارئ، ترافقني زوجتي، وهناك قابلنا طبيبة متحمّسة، فأرشدتنا إلى ما يجب فعله، وأخبرني زميلي المصوّر أن حصاةً نازلة بقطر 5-6 مم، تسبب ضغطاً راجعاً على الكُلية اليسرى، وأعرب عن تفاؤله بأنها ستطرح خلال يوم أو يومين، ولا يوجد ما يعكّر الأجواء، فالمستحسنُ إذاً هو العودة إلى البيت والإكثار من السوائل، مع المسكنات عند اللزوم.
عدتُ، وعادت شهيّتي إلي، فتناولت الإفطار- العشاء في العاشرة ليلا، وبقيتْ أموري شبه مستقرة ما عدا حس زحير بولي كلما تشكّل سائل في المثانة، إلى أن تجاوز الليل منتصفه بساعات، فإذا بألم شديد لا يُطاق، أشدّ وأدهى من سابقه في البطن، لأتلوى وأتلوى حتى أنام من الإنهاك.
وعندما أتى الصباح، كم كان عجيباً ورائعاً أنني استيقظتُ مرتاحاً جداً في الثامنة والنصف، وكأن شيئاً لم يكن بالليل، فخمّنتُ أن الحصاة نزلت، ومع نزولها عاد كل جمال الحياة إلى ناظري، بل أحسست أن الماء الساخن في الحمّام، بسبب قوة أشعة الشمس (إذ لا تقل عن 45 عندنا في أيار)، هو أجمل هدية من رب العالمين، وهو يغسل مع الشامبو والصابون المعطرين أدران الليل وآلامه.
بقي شيء منغصٌ لم أذكرْه في قصتي، شيء
لا يُذكر الطّب (المُكرِب) اليوم إلا ويذكر معه، بل يلازمه كظلّه البغيض، ألا وهو التأمين. لن تصدقوا أن يوم مرضي صادف يوم انتهاء التأمين الذي حرصت عليه ستة عشر عاماً بأرقام عالية، ولم أحتجه إلا اليوم. والمضحك أنه مع الحظر والعمل عن بعد، نام بعض الموظفين، فما استطعنا تفعيل البطاقة، ولا وجدنا سبيلاً إلى تحويل المبلغ المطلوب، فيما أصر المستشفى على رقم (خرافي) لعشر دقائق من التشاور.
جزى الله الشدائد كل خير وإن كانت تغصّصــــني بريقي وما شـكري لها إلا لأني عرفتُ بها عدوي من صديقي،
طبعاً عدوّي هو المرض، الذي كان برمّته مثل سحابة صيف، انقشعت بحمد الله، وإن كانت تؤذن لرياح الخريف بالهبوب.