لا تيأسوا
أجرت الحديث: كريستين حدّاد
في ظلّ الأجواء التي يعيشها لبنان على الصُعُد كافة، من إنهيارٍ إقتصاديّ وغلاء معيشي وزيادة في معدلات الفقر والعَوَز، ومن الهجرة أيضًا لمن أتيحت له، إضافة إلى عدم الإستقرار السياسيّ، وجائحة “الكورونا” التي زَرَعتْ الذعر في قلوب اللبنانيّين… أمام كلّ هذا الجوّ المطبق، كان لا بدّ من أن يسود التشاؤم وتتغلّب النظرة السوداويّة على ما عداهما…
في ظلّ هذه الأجواء القاتمة، لجأنا إلى الخبير المالي والإقتصادي البروفسور د. جاسم عجاقة لعلّ بريقًا من نور يسطع وسط الظلام، بالاطّلاع منه على آخر مستجدات (مفرحة) للوضع الاقتصاديّ الحاليّ. ذلك أنّ في داخلنا إشتياقًا إلى سماع أي كلمةٍ تُعيد الثقة المفقودة الى النفوس، والأمل إلى اللبناني الذي فَقَدَ أدنى حقوق العيش الهنيء.
تفاجأنا في حوارنا مع البروفسور عجاقة أنّه لا يزال متمسّكًا بتفاؤله على رغم الوضع الذي آل إليه لبنان. وفي هذا الصدد قال: إنّ الإستسلام مرفوض، والهلع لن يفيد، بل قد يزيد الطين بلّة، ألا يكفي ما حدث بعد ثورة 17 تشرين، عندما هرع اللبنانيون الى سحب ودائعهم بطريقة جنونية لوضعها في المنازل، وربما في حُفَر عميقة “تحت سابع أرض خوفاً من سرقتها”، كما قال. طبعًا فهذا التصرّف طبيعي. وإذا اعتبر البعض أنّ المتهافتين على المصارف أخطأوا، فخطاياهم، يقول عجاقة، مغفورة، لأنّ الثقة إذا فُقِدت، تجلب المشاكل وآخر الدواء الكيّ. لذلك أصُرّ، تابع عجاقة، على شرح الوضع الحالي الذي يمرّ بلبنان “بطريقة موضوعيّة لبقة، لا تخيف المواطن، بل تجيب عن جميع التساؤلات، ولا سيما الأكثر شيوعاً، أي التي باتت حديث الجميع وأهمّها: ما مصير الودائع والليرة وهل على أصحاب الودائع أن يأملوا باسترجاع مالهم المسلوب من قِبَل المصارف أم لا، بعدما أغْرَتهم بالفوائدِ والتسهيلات، فوضعوا ثقتهم بقطاعٍ مصرفيّ، سوِّقَ لهم بالحصول على البحبوحة بطريقة ذكية، فتهافت المغتربون قبل المقيمين، الى فتح حسابات بالعملة الأجنبيّة في المصارف اللبنانية العديدة المنوّعة غير مدركين ما يخبّئ لهم المستقبل”.
في سياق حديثنا الهاتفي، أوضح لنا د. عجاقة الصورة على النّحو التالي: “لقد بات اللبناني يسأل ويتساءل عن مصير أمواله المودعة في الوقت الذي تضيع فيه المسؤوليّات وتُرمى الاتّهامات جزافًا”.فالجميع يعلمون أنّ البنوك أمدّت الدولة بالسيولة ولكنّ الأخيرة تعثّرت في سداد الدين، ما أفرغ المصارف من سيولتها المطلوبة بالعملات الأجنبيّة لإعادتها إلى أصحابها. لذا فما نراه ونسمعه اليوم من تقاذف للتهم وإلقاء كلّ جهةٍ اللوم على الأخرى، لا يجدي نفعًا، إذ المطلوب حالياً تشكيل حكومة جديدة تعيد الثقة الدولية الى لبنان وتضع الخطط والاستراتيجيات المدروسة، انطلاقًا من محاربة الفساد، وصولاَ الى وقف الهدر في القطاعات الاساسية، مرورًا بترميم ما تبقّى من دولة مسلوبة منهارة، تفادياً لما سيصل إليه لبنان في الأشهر أو الأسابيع القليلة المقبلة، إذ من المتوقّع، مع تفاقم نسبة معدلات الفقر والبطالة والعَوَز، إلى جانب حالة الخوف الدائم مما يخبّئه الغد، حصول حالة من الفوضى والاضطرابات التي تتطلّب تدخّلاً أمنيًا قد يضاعف الأزمة. ومن المعروف أنّه لا يمرّ يوم من دون تسجيل عدد وافر من السرقاتِ والقتلِ، وكلّ ذلك تحت عنوان الجوع وتأمين لقمة العيش اللذَيْن قد يتخطّيان المعقول عندما يتمّ رفع الدعم عن المواد الاساسية والدواء”.
تابع البروفسور عجاقة كلامه قائلاّ: “تُوصف المرحلة الحالية بالحسّاسّة، والدليل على ذلك إستشعار البنك الدولي للحالة الاقتصاديّة التي وصل إليها لبنان، وموافقته على إقرار القرض التمويلي، وقيمته 246 مليون دولار أميركيّ، كمساعدة طارئة للبنانيِّين وخاصةً للعائلات الأكثر فقرًا بينهم. هذا القرض يمكن وصفه بالمنقذ للشعب اللبنانيّ، إذ من الممكن أن يكون سببًّا لتأخير موعد رفع الدعم، وخاصةً أنه بالعملة الصعبة، وهذا ما قد يؤخّر الوصول إلى الكوارث الاقتصادية والإجتماعية المرتقبة”.
سألناه عن رأيهِ بما صَرَحَ بهِ حاكم مصرف لبنان بخصوص تعويم الليرة، وتاليًا إنهيار الاستقرار المالي الذي خَبِرْناه طوال قرابة العشرين عامًا مع تثبيت سعر صرف الليرة مقابل العملة الأجنبية، أجاب: “إنّ تثبيت سعر صرف الليرة بدأ في العام 2000، في عهد الرئيس رفيق الحريري، وبعد موافقة الحكومة، أنذاك. لقد كنت شخصياً من المدافعين الشرسين على موضوع تثبيت سعر الصرف. لكن لا يُخفى علينا جميعًا الصراع السياسيّ والضغوط الخارجيّة التي يتعرّض لها لبنان، وتداعيات هذه الضّغوط التي ساهمت في إنهيار الليرة الى ما دون مستوياتها، لذا إذا أردنا الوصول إلى حالة الثبات في سعر الصرف، ينبغي توافر شرطَيْن أساسيَّيْن: الأوّل بواسطة الرافعة الاقتصاديّة والثّاني بواسطة إعادة تكوين الاحتياط، ولكن مع الأسف، فلبنان في طريقهِ الى فقدان الاثنَيْن، عاجلاً أم أجلاً، إن لم يتمّ التدخل السريع”.
أضاف: “بالنسبة الى تعويم الليرة، فإنّ هذا الإجراء لن يكون حلاً فعّالاَ للوضع الاقتصادي الراهن، بل على العكس من ذلك، سوف يشكِّل مشكلة فعلية إضافيّة، إذ سنشهد إرتفاعاً حاداَ في أسعار قطاعات الخدمات والمواد الغذائية مثل فواتير الهاتف والطعام وأقساط شركات التأمين وغيرها. فمن دون إصلاحات وحكومة متخصِّصة، لن يكون لنا أيّ وسيلة لإستعادة إقتصادنا وإسترجاع قيمة الليرة، ولن يتمّ ذلك أيضاً إلا من خلال الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وهذا ما أكّده بوضوح المجتمع الدولي بإعلانه أنّ المساعدات المالية للبنان لن تمرّ إلا عبر هذا الصندوق الذي وضع شروطه لإتمام هذه المساعدات، وأولها العمل مع حكومة أصيلة، وثانيها تنفيذ الإصلاحات المطلوبة. ومع الأسف نجد أنفسنا حاليًا أمام العديد من العوائق التي تحول دون تشكيل الحكومة العتيدة”.
سألناه عن المهلة التي حدّدها حاكم مصرف لبنان للمصارف لزيادة رأس مالها قبل نهاية شهر شباط الحالي، تنفيذًا للتعميم الرقم 154، وهل ستتجاوب المصارف مع هذا التعميم؟ أجاب: “هناك أكثر من سيناريو، منها اثنان: أن يضع مصرف لبنان يده على المصارف المتعثرة، وبالتالي يعمد الى تصفيتها، وخروجها من السوق المحليّ، أو تُدمج مصارف بعضها مع البعض الآخر، فيما تبدأ الملتزمة بالتعميم إعادة هيكلة القطاع وإعادة الثقة إليه”. تابع: “شخصيًّا، أتوقّع أن يقوم المتضرّرون من هذه الخيارات والقرارات بحركة تمرّديّة على قرار المصرف المركزي، وتحديدًا على حاكم مصرف لبنان وعلى التعميم المذكور”.
سألناه أخيرًا عن ودائع اللبنانيّين في المصارف، فقال: “أوّلاً استنكر الحالة السائدة اليوم في الشارع اللبنانيّ من إستسلام للوضع الراهن، والظّنّ بأنّ الودائع ذهبت أدراج الرياح. إنّ هذه الجملة مرفوضة رفضاً قاطعاً، لأن القانون واضح، ويضمن حق المودع، ولا تستطيع المصارف التنصّل من إعادة الودائع لأصحابها. المطلوب اليوم من المصارف العمل على وضع خطّة واضحة لإعادة الاموال المودعة الى أصحابها ضمن مهل زمنيّة محددة. وهذا ما نأمله في القريب العاجل. لذلك يجب تشكيل الحكومة بأسرع وقت ممكن لأنّها تبقى المخرج الأكيد من نفق الأزمة”.