مسعفو فرع الجميزة
مادلين طوق
ذكرى ارتدادات انفجار 4 آب لا تزال تخرق هَوْل هذه الفاجعة، باستعادة اللبنانيّن فصولها المؤلمة. وإذا كانت التظاهرة العارمة والراقية التي قام بها أولياء الضحايا والمتضرّرون والمتعاطفون معهم في الذكرى السنويّة الأولى، وقد شهدنا أعدادهم التي بلغت الآلاف المؤلّفة، هي مشهدٌ من المشاهد التي تقول “لم ننسَ ولن ننسى”، فإنّ الصليب الأحمر، تحديدًا فرع الجميزة (102)، وهو الثاني الذي افتُتِح في بيروت بعد مركز “سبيرز”، وقد كان في قلب الانفجار لوجود مبناه في منطقة الجميزة القريبة من مرفأ بيروت وقد أُصيب بأضرارٍ فادحة نجا منها المسعفون بأعجوبة… ونظرًا إلى العمل البطولي الإنساني الذي قام به هؤلاء على رغم الإصابات التي تعرّضوا لها… فقد ارتأى القيّمون على هذا الفرع النَشِط أن يجمعوا المسعفين وأهاليهم ومهتمّين في لقاءٍ في الباحة المواجهة للمركز والتي كانت بمثابة المستشفى الميداني لإسعاف الجرحى، وبوسائل بدائيّة في معظم الأحيان، لكثرة أعداد المحتاجين إلى علاج أو إسعاف.
بداية، كانت كلمة لرئيس المسعفين في هذا المركز وديع ناصيف تحدّث فيها عن دوافع هذا الاجتماع الذي لم يُدعَ إليه لنكء جروح الألم والحزن والأسى، وإنّما لإظهار التضحيات التي هي واجب مسعفي الصليب الأحمر… تضحيات بذلها هؤلاء الشباب لإنقاذ أرواح المئات ومحاولة إنقاذ المئات أيضًا، وإن من دون جدوى نظرًا لإصاباتهم البليغة التي أودَت بحياتهم. ففي هذه الساحة التي كانت في الأساس مرآبًا للسيارات، اختلط فرح الناجين بحزن فاقدي الحياة.
وإحياءً لهذه الذكرى الأليمة بالدرجة الأولى، ولكنّها الإنسانيّة بدرجة موازية، فقد تقرّر تحويل هذا المكان إلى ما يشبه “المزار”، لأنّ للعمل الإنساني قدسيّة لا تقلّ أهميّة عن قدسيّة الأنبياء والرّسل. ولكن كيف يمكن تحويل هذا “المزار” إلى محجٍ للبنانيّين وغير اللبنانيّين ليروا تضحيات مسعفي الصليب الأحمر؟ جاء الجواب من مسعفٍ رسّام هو جورج اكمكجي الذي رسم شعارًا يجسّد التعاضد والتكافل اللذَيْن تأمر بهما الديانات السماويّة: يدُ المُسعف ممدودة لتشدّ أزْر يد المواطن، وفي الوسط ساعة توقّف عقرباها عند الساعة السادسة مساءً وسبع دقائق أي لحظة وقوع الانفجار في 4 آب المشؤوم. وسيبقى هذا الشعار رمزًا من بين رموزٍ كثيرة تجسّد التضحيات الضخمة التي قام ويقوم بها مسعفو الصليب الأحمر، متطوّعين مندفعين لإنقاذ الأرواح وتقديم يد العون إلى من يحتاج إلى هذه اليد، خصوصًا في هذا الظرف العصيب الذي يمرّ بلبنان الجريح.
ولم تنتَهِ استعادة هذه الذكرى الأليمة عند هذا الحدّ بل تقدّم المسعفون، وفي يدِ كلّ منهم شمعة مضاءة تمّ رصف الواحدة بعد الأخرى على جدار هذا المرآب، عن أنفس الضحايا وما أكثرهم، وما أكثر الناجين أيضًا. ومع هذه الشمعة المضاءة، أمسك كلّ من المسعفين وردة حمراء عربون محبّة وإخلاص واستمرار في بذل التضحيات خدمة للإنسانيّة المعذّبة.
ولأنّ استعادة الذكرى عند الذين عايشوها عن كثب وقرب، تشكّل استعادة للوجع والألم والحزن العميق، فإنّ رئيس المسعفين وديع ناصيف لم يتمكّن من حبس دموعٍ انهمرت من عينَيْن متعبتَيْن، فهبّ المسعفون وغمروه وبكَوا معه.
كان في المركز في تلك الساعة المشؤومة، ستّة مسعفين بينهم نجل كاتبة هذه السطور مايك طوق الذي غطّاه الردم الناتج عن هذا الانفجار، ومع ذلك سارع مع رفاقه، مشيًا على القدَمَيْن، وقد تعرّض البعض منهم لجروح طفيفة، باتّجاه مستشفى القديس جاورجيوس الأقرب إلى المركز، ليقينهم أن من هناك ستبدأ عمليّة إنقاذ الأرواح. وعندما سألناه عن تجربة ذلك الليل الطويل، اكتفى بذرف دمعات عرفنا أنّه بقي يذرفها ليليًا طوال ثلاثة أشهر أعقبت الانفجار.
مسعفو الصليب الأحمر أحيوا هذه الذكرى بصمتٍ وبلا ضجيج، تمامًا كما يُسعفون بصمتٍ وبلا ضجيج.
هؤلاء ملائكة الأرض!