صوامع القمح تتساقط الواحدة بعد الأخرى… ولا من يهتمّ
بقلم د. الياس ميشال الشويري
“بَيْتِي بَيْت الصَّلاَةِ يُدْعَى، وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ“، عبارة لفظها السيّد المسيح بعدما طرد التجّار من الهيكل. وفي إناجيل متى ومرقس ولوقا نقرأ: ودخل يسوع الى هيكل الله وأخرج جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون في الهيكل وقَلَب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام وقال لهم: “مكتوب أن بيتي بيتاً للصلاة يدعى، أما أنتم فقد جعلتموه مغارة لصوص”!
ومن يقرأ ما أوردته هذه الأناجيل الثلاثة، يلاحظ الغضب المقدّس الذي تأجج في ردّة فعل السيّد المسيح؛ ولربما قد اعتبر البعض غريبًا لاستعماله القوة. ولكن الغرابة تنتفي عندما نعلم أن المقصود هي الخطيئة والتي عرّفها السيّد المسيح بــ “اللصوصية”، إذ بدلاً من ان يكون الهيكل بيت صلاة، تحوّل الى “مغارة لصوص”! وفي مكان آخر (إنجيل يوحنا)، يُقال ان السيّد المسيح “صنع سوطاً من حبال وطرد الجميع من الهيكل”.
السؤال المهمّ بمكان في الظرف الصعب الذي نعيشه في لبنان: ترى كيف تحوّلت عبادة الله، التي ندّعي ممارستها، بمناجاتنا الله مرّات ومرّات في بحر اليوم الواحد، والألبسة التي نلتحف بها من أعلى الرأس حتى أخمص القدمَيْن … الى تجارة في عقر دار الحضور الالهي، والتي عرّفها السيّد المسيح بــ “اللصوصية”، او “التجّار في مال الرب؟” أوليس هذا هو حالنا مع اللصوص والتجّار والسياسيين الذين نهبوا لبنان بإسم الأديان والطوائف والمذاهب، وتاجروا بدمائنا ومستقبلنا ومستقبل أولادنا؟ قادة دول يتلاقون تأمينًا لمصالح أوطانهم، وفي لبنان (للأسف) مرتزقة يعملون في خدمة الأجانب! صحارى دول الخليج العربي باتت جنّات على مدّ النظر، وموطن الأرز حولوه مرتعاً للعصابات والمافيات على مختلف أنواعها! شعوب تتباهى وتفتخر برؤسائها وحكّامها ممن جلبوا الفخر لبلادهم، مثل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في الإمارات العربية المتحدة، لي كوان يو في سنغافورة، مهاتير محمد في ماليزيا، لويس إيناسيو لولا دا سيلفا في البرازيل، وغيرهم ممن حوّلوا بلادهم من العدم الى النِعم (يجب ألاّ ننسى هنا التطوّر الإقتصادي في مصر منذ إنتخاب الرئيس عبد الفتاح السيسي في العام 2014، بدءاً من مشاريع البناء العملاقة وتبنّي سياسات مالية ونقدية ساهمت في تدفّق الاستثمار الأجنبي وأعادت البلاد إلى الساحة الإقليمية) … كلّ ذلك في وقت بات شعب لبنان يخجل من:
- حكّامه الحاليّين الذين استولوا على الحكم (منذ السبعينيات ولغاية تاريخه) وأمعنوا فيه خراباً ودماراً، بفسادهم وجشعهم في الصفقات والنهب!
بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى، وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ! حقاً، بئس هذا الزمن، زمن حوّل فيه اللصوص، لصوص الهيكل، وطن الرسالة – لبنان، الى مغارة تفل وقمل وصيبان!
إنّ السياسة، ما سُميِّت بهذا الاسم، إلاّ لأنها حملت معاني التدبير والتصرُّف في إدارة شؤون الدول والشُّعوب. وهي تحملُ أيضاً معاني التعقُّل والحكمة والتبصُّر في هذه الغايات العظيمة. فالطيشُ والتَّهور والبطش والظلم و … ليست من معانيها، لأنها تخالف أهدافها وتعارض غاياتها.
ولقد أنبأنا التاريخ قديماً وحديثاً عن عواقب هذه الأدوات البغيضة التي تسحقُ حرية الإنسان، وتذلُّ كرامته، وتقضي على آمالهِ، وتعيق نموَّه في الحياة … عواقب أظهرت بكل جلاء ما وصل إليه الطُغاة من نهايات وخيمة بعدما دمَّروا مصائر دولهم، وقضوا على الأرواح، وشتتوا مواطنيهم في كافة ربوع الأرض أذلاَّء، يتكفَّفون الناس بحثاً عن لقمة يأكلونها، وعن ظلَّة يتفيئونها.
السياسةُ قرينةُ الحكمة، وتصلُ إلى مبتغاها بقيادةٍ حكيمة ورؤية سديدة، وتدير شؤون رعيتها بالعدلِ (الذي هو أساسُ الملك)، والمساواةِ (التي هي وليدةُ العدل)، والكرامة (التي هي هِبةُ الله)، والحرية (التي هي فضاءُ الطموح البشري). إذن، «السياسة» هي القيادة بحكمة، أي القيادة بكياسة، أو بفطنة وتعقّل. مما لا شك فيه أن القيادة من دون كياسة وفطنة لا تعتبر سياسة، بل تعني تهوّرًا وعنادًا وعنفًا، ونهاية كلّ ذلك هو الهلاك أو التعاسة، كما هو حالنا في هذا البلد الذي دخلته السياسة من باب العنف والدم والكذب والخداع والنهب والسرقة وتأجيج التعصّب الديني!
نتيجة ما سبق ذكره، طار البلد! نعم طار، وللأسف! المؤسف حقاً أنه بعد مرور مئة عام أضحى لبنان الكبير (اذا ما استثنينا الخمسين سنة الأولى حتى بداية السبعينات التي عرفت بالزمن الجميل، زمن العهد الذهبي والازدهار الاقتصادي، حيث تحقّق حلم تحويل لبنان إلى سويسرا الشرق إلى حدّ بعيد):
- أصغر من صغير وأحقر من حقير؛
- بوضع إقتصادي-مالي خطير؛
- محكوماً من “بوطة” فاقدة للوجدان والضمير؛
- حكراً على حرامية أعادت شعبه الى زمن الكرارة والحمير!
للأسف، وفي ظل الظروف الصعبة التي نمّر بها:
- أضحى طريق لبنان الى جهنّم يسير، ومستقبله ومستقبل أولاده مجهول المصير؛
- أضحى لبنان:
- فاقد المحبّة والتعاضد والرجاء والأمل … بلد شحّار وتعتير؛
- بلد المخدرات والتعاطي والممنوعات والدعارة والإكتئاب والإنتحار … بلد مجهول المصير؛
- بلد الإعاقة الإجتماعية والنفسية والعقلية والصحية … بلد محتاج وفقير!
ملخّص القول: للجليل والكبير (أيام ذاك الزمن الجميل، زمن الكبار من الرجال) مكانه، وللصغير والحقير (أيام هذا الزمن القبيح، زمن السفلة من أشباه الرجال) مكانه. في هذا الزمن القبيح، خسر اللبناني (الحر) جنى عمره، وأضحى رهينة مرتزقة من السياسيين، المعاقين فكراً، وثقافة، ورؤى، وخيالاً … ووطنية، ممن نهبوا وأوصلوا البلد الى ما هو عليه اليوم … من تألمٍ ووجع!
للأسف، “وطن الرسالة”، كما أطلق عليه القدّيس البابا يوحنا بولس الثاني، أضحى اليوم “وطن قراصنة ومرتزقة وحثالة”، كما وعدنا الكاتب النمساوي-المجري تيودور هرتزل، مؤسس “الحركة الصهيونية العالمية” والأب الروحي غير المنازع لدولة اسرائيل، عندما قال: “سنولّي عليهم سفلة قومهم حتى يأتي اليوم الذي تستقبل فيه الشعوب العربية جيش الدفاع الاسرائيلي بالورود والرياحين”! هؤلاء المرتزقة الأرقاء، هؤلاء القراصنة والحثالة الذين استولوا على مقاعد الحُكم والقرار، كرّسوا حكم الفساد بكل أشكاله، وإعلاء شأن الفاسدين والمُفسدين في الإدارات والمؤسسات العامة والأجهزة الأمنية والقضائية … (خدمةً لمصالحهم فقط)، وانتهاج سياسة الإرتماء في أحضان الخارج، وإلغاء اللبناني الحر، ومعس الحريات، ووأد القيم الانسانية، وطمس التراث الحضاري، وتسييد التطرّف، وتعميم الانغلاق الديني والفكري، والعودة بلبنان الى ما قبل الجاهلية، حياةً وفكراً وعيشاً وسلوكاً ومجتمعاً …
إن أزمة لبنان ليست قضاءً وقدراً، بل إفلاس فردي وجماعي وتعطيل للمؤسسات واهتراء نموذج للحكم، أشاح بوجهه عن خدمة الشأن العام. معظم الطبقة السياسية (الفاسدة بامتياز حسب كل المعايير) أسهم في تعميق الأزمة من خلال تقديم مصالحها الخاصة والحزبية على مصالح الشعب اللبناني. فساد هذه السلطة الساقطة طغى على جريمة العصر في الرابع من أغسطس (آب) 2020: أكبر انفجار غير نووي دمّر مرفأ بيروت ونصف العاصمة، وأوقع آلاف القتلى والجرحى وشرّد آلاف العائلات؛ والسبب، هو انفجار أطنان من نيترات الأمونيوم الخطيرة المخزونة منذ سنوات في أحد عنابر المرفأ. وما بدا واضحاً هو إكمال جريمة الانفجار بجريمة تفجير الحقيقة والعدالة: ممنوع أن نكشف من جاء بالنيترات، ومن كان يأخذ منها، ولمن؟
وبحسب ما قاله البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي: “نحن اليوم أمام جريمتَيْن، جريمة تفجير المرفأ، وجريمة تجميد التحقيق. فالتجميد لا يقلّ فداحة عن التفجير، لأنّه فعل متعمَّد وإرادي بلغ حد زرع الفتنة بين أهالي الضحايا. لا تستطيع السلطات الحاكمة والمهيمِنة التبرؤ مما حصل. فمنها من تسبّب بالتفجير، ومنها مَن علم بوجود المواد المتفجرة وبخطورتها، وأهمل، ومنها من تلكأَ، ومنها من سكت، ومنها من غطّى، ومنها من جَبُن، ومنها من عطّل التحقيق، ومنها من وجد في تجميد عمل القاضي المسؤول الحلّ المريح لكي يتهرّب من مسؤولية حسم مرجعية التحقيق. إنها لعبة توزيع الأدوار بين عدد من المسؤولين على مختلف المستويات الدستورية والسياسية والأمنية والقضائية. هؤلاء إلى دينونة الله يساقون، إذا هربوا من عدالة الأرض أو منعوا سطوعها. والتاريخ لن يُسقط من ذاكرته جميع من سعوا إلى محو حقيقة جريمة العصر وحق الشعب في العدالة. والله يُدين منذ الآن هؤلاء المسؤولين”.
يقول الفيلسوف Abraham Joshua Heschel: “… من الناحية الأخلاقية، لا يوجد حد للقلق الذي يجب أن يشعر به المرء تجاه معاناة البشر، وأن اللامبالاة بالشر أسوأ من الشر نفسه، وأنه في مجتمع حر، البعض مذنب، ولكن الجميع مسؤولون.”
“… morally speaking, there is no limit to the concern one must feel for the suffering of human beings, that indifference to evil is worse than evil itself, that in a free society, some are guilty, but all are responsible.”
يستشّف مما تقدّم، أن لبنان، نظرياً، مجتمع حرّ في نظام ديمقراطي، لكن المافيا الحاكمة، المتحكمة، مصرّة على أنه في جريمة المرفأ وجريمة لبنان الكبرى لا مذنب ولا مسؤول.
حقاً، لقد ضقنا ذرعاً:
- من المرتزقة الذين تاجروا بدماء اللبنانيين (الشرفاء والأحرار منهم) على مدى سنوات طوال وجعلوا من البلد حِكراً على سارقي إيداعات وجنى عمر الناس وناهبي المال العام والأملاك الخاصة والعامة ومشاعات الأراضي والسيارات والكهرباء والمياه والمازوت والبنزين والدواء و … ومروّجي الدعارة وتجّار المخدرات؛
- من الأرقاء الخونة الذين أوصلوا البلد، نتيجة غيرتهم على مصالحهم الشخصية وفسادهم اللامتناهي وحكمهم بالتراضي وسياساتهم التدميرية، الى (قعر) الهاوية والإنقسام؛
- من الكفّار الذين تاجروا بإسم:
- الدين، وجعلوا من اللبناني يمّد يده للعالم والمحسنين؛
- الطوائف، وجعلوا من اللبناني يعيش الذل في حياته اليومية وأمام المصارف؛
- المذاهب، وجعلوا من اللبناني يواجه في حياته سلسلة لا تحصى من النكبات والمتاعب والمصائب.
من الثابت، أنهم تشاركوا في نهب الدولة ولم يتركوا على متن السفينة اللبنانية ما يقتات به اللبنانيون الشرفاء والأحرار. بعدما سرقوا حمولتها، اختطفوا سكان لبنان وتوزّعوهم في ما بينهم، بحيث أَسَرَ كلّ حزب طائفي من يؤيده من طائفته، واحتجزوهم في مآوى للعجزة والأيتام والعاطلين عن العمل، وراحت جوقة كل طائفة تستجدي المساعدات والتبرعات تحت يافطات إنسانية تستدّر بهم عطف دول العالم وشفقتها.
ما فعله القراصنة والمرتزقة والخونة والعملاء، بلبنان واللبنانيين (الأحرار) هو الخيانة بعينها! ومن يخن أثناء الأوقات الصعبة يجب ألا يخضع للقوانين العادية، بل أن تطبّق بحقه قوانين استثنائية بعقوبات مغلظة تجعله يفكّر كثيراً بما اقترفت يداه من إثمٍ بحق الوطن والمواطن (الحر)، أو بعقوبة الإعدام اذا أمكن! فمن نهب أموال الشعب في الأيام الصعبة، لا يمكن أن ينعم بالرفاهية! كما لا يمكن للقراصنة الذين طوقوا وحاصروا الملايين في هذا الوطن، مانعين عنهم المأكل السليم والملبس والدواء والمستشفيات والمازوت والكهرباء والمياه … وكل ذلك بهدف قتل اكبر عدد منهم بالجوع والمرض، أن يتنعموا بجنى عمر الناس وبخيرات الوطن (التي نهبوها على مرّ السنين) ويعيشوا هم وعائلاتهم وكلابهم، التي هي أشرف منهم، بأمان وسلام!
رحم الله سياسيي الأمس من الكبار الذين رفعوا إسم لبنان عالياً بسياساتهم البنّاءة مع دول العالم بشكل عام، والخليج العربي بشكل خاص، ولعنة الله على القراصنة والمرتزقة من سياسيي اليوم، المتعطشين للسلطة فقط والدم والنهب والسرقة، الذين أضروا بسمعة لبنان ومستقبله وأعادوه الى ما قبل الجاهلية، بممارساتهم الإنتهازية والجهنمية والميليشيوية والقمعية والدموية وذلك على مدار اكثر من ثلاثين سنة، ولا زالوا! اليست هذه اكبر قرصنة في التاريخ، ولا تزال بحق شعب (حر) ووطن بأكمله؟ حقاً، لقد طال الزمان وآن الآوان أن نحرّر لبنان من فاقدي الضمير والوجدان، من الأرقاء والمرتزقة، من الخونة والقراصنة والحثالة، من اللصوص والقتلة المأجورين … وإلّا فالسلام على اللبنانيين (الشرفاء والأحرار منهم) ولبنان!
في الختام، لنتذكّر هذا القول: “الشعب الذي ينتخب الفاسدين والانتهازيين والمحتالين والناهبين والخونة، لا يُعتبر ضحية، بل شريكاً في الجريمة!” – جورج أورويل
كذلك، يجب ألاّ ننسى ما كتبه Étienne de La Boétie في مقالته الشهيرة: العبودية الطوعية
Discours de la servitude volontaire التي يستغرب فيها علّة الإذلال التي يقدّمها الناس لملوكهم ورؤسائهم، ويندهش من السرّ الذي يدفع الجماعة إلى أن تخضع – بإرادتها – للفرد الذي لا يتميّز بشيء سوى أن نطفته كانت في صلب أب – أم منتمٍ الى عائلة ملكية أو إقطاعية أو سياسية. يتحدث فيها أيضا دولا بويسي عن الأنظمة المستبدة والملكيات الطاغية، وينتقد “عملية صناعة الطغاة”، داعياً الشعوب إلى التمرّد والعصيان، ورفض الانصياع للحكّام، حتى ولو كلّف ذلك حياتهم.
وبحسب دولا بويسي: “لا يكفي أن نولد وحريتنا معنا، بل يجب علينا أيضا أن نحميها”!