د. سعد عنداري
أجرت الحوار رباح حيدر
الحديث مع الدكتور سعد العنداري غنيّ دائمًا بالمعلومات والتحليلات والتوقّعات، وهذا بديهي، ذلك أنّ شخصيّة مصرفيّة مثل د. عنداري تكتنز هذه المسلمات الثلاث. صحيح أنّ ما يعرفه ويختزنه من معلومات، والبعض منها يرقى إلى مرتبة الأسرار التي لا يمكن البوح بها، إلاّ أنّ ما يمكن التقاطه من التصريح الذي يُدلي به، يمكن البناء عليه.
في هذا اللقاء الذي خصّنا به النائب الثاني السابق لحاكم مصرف لبنان (بين 2009 و2019) والذي تبوّأ مراكز عدّة في بنك بيروت والبلاد العربيّة والجامعة الأميركيّة في بيروت، وترأّس لجانًا متنوّعة الاختصاصات مثل لجنة مكافحة الفساد التابعة لغرفة التجارة الدوليّة ولجنة الموارد البشريّة لجمعية مصارف لبنان، تناول في حديثه إلينا مواضيع الساعة التي تشغل بال اللبنانيّين، كما بعض المسؤولين، ومنها: الدولار، كيفيّة استعادة الثقة بالاقتصاد اللبناني، التعميم الرقم 154 وما إذا كان سيطبّق، وأخيرًا وليس آخرًا ودائع اللبنانيّين وما إذا كانت قد تبخّرت.
فإلى الأسطر التالية…
س: مع توقُّع تشكيل حكومة اختصاصيين، كيف يمكن معالجة الأزمة المالية المستفحلة في لبنان وهل يمكن أن يستقرّ سعر صرف الليرة بعد تحسُّنه مع تسمية سعد الحريري رئيسًا مكلّفًا للحكومة، أم أن هذا التحسُّن هو ظرفي ولا يستند إلى معطيات علمية؟
ج: إن تراجع سعر صرف الدولار يعود إلى سببَيْن اثنَيْن: الأول سياسي والثاني تقني. الشقّ السياسي هو تكليف الرئيس الحريري تشكيل حكومة جديدة. أما الشقّ التقني فيعود إلى أن مصرف لبنان يعمل على تخفيض حجم الكتلة النقديّة في التداول (الكاش) بعد انفلاش هذه الكتلة خلال سنة بحوالي أربعة أضعاف حجمها. وعلى رغم ذلك، فإن هذه الكتلة غير ملموسة في الأسواق كون المواطن يخزِّن كميات كبيرة منها، إلى جانب الدولار الأميركي ويحجبهما عن التدوال مع تراجع ثقته بمصارفه. ولكن ما هي المعالجة المنشودة للأزمة الإقتصادية؟
نتوقّع من الحكومة الجديدة إيقاف الهدر في المالية العامة فورًا، والتوسُّع بالتدقيق الجنائي الذي باشرته حكومة تصريف الأعمال ليغطي أوجه نفقات الدولة كافة. كما نتوقّع، وكما يطالب المجتمع الدولي، الشروع بإصلاحات مالية فورية، وهذا هو السبيل الوحيد لإعادة الثقة بالإقتصاد اللبناني ولطلب الدعم التقني من صندوق النقد الدولي للتفاوض مع دائني الدولة اللبنانية. وما أتوقّعه أن توصلنا هذه المفاوضات إلى اتفاق عادل لإعادة جدولة ديون الدولة الخارجية ، في حال اقتنع الدائنون بجدية الإصلاحات. وسوف ينجم عن ذلك كلّه انفراجات لجهة إعادة ربط المصارف اللبنانية بالأسواق العالمية وبشبكة مراسليهم، وهو ما يُعيد حركة التجارة والمدفوعات الدوليَتيْن، إلى الحياة. وأخيرًا،فإن على الحكومة الجديدة العمل على ترميم علاقاتنا مع المجتمعَيْن الدولي والعربي.
س: ماذا عن التعميم الرقم 154 الذي أصدره حاكم مصرف لبنان، وهل برأيك يعطي النتائج المرجوّة؟
ج: بالنسبة إلى التعميم الرقم 154 الصادر في 7 أيلول المنصرم، فقد أثار انتقادات واسعة من المصارف وكذلك من عملاء المصارف. فهذا التعميم “يحث” العملاء الذين قاموا بتحويل ودائع تفوق قيمتها 500 ألف دولار أميركي أو ما يعادلها بالعملات الأجنبية إلى الخارج منذ تموز 2017، على إعادة 15 بالمئة منها إلى المصرف المركزي وإيداعها في حساب خاص مجمّد لمدة خمس سنوات يستخدمها المركزي لتحفيز القطاعات المنتجة. ومفعول هذا الشق من التعميم بيقى عمليا” حث العملاء، أي أنه ليس لديه مفعول إلزامي.
أما الشق الثاني من التعميم فهو “يطلب” أي أنه يُلزم أعضاء ورؤساء مجالس إدارة المصارف أو كبار المساهمين فيها، أو الأشخاص “المعرّضين سياسيًا“ Peps، أي الذين يتبوؤن مناصب تشريعية أو تنفيذية أو إدارية عليا في الدولة، يطلب منهم إعادة 30 بالمئة من قيمة تحويلاتهم إلى الخارج وإيداعها في حساب خاص مجمّد لخمس سنوات لدى مصرف لبنان.
جديّة هذا التعميم هي في شقّه الثاني، فهو يطلب من أصحاب المصارف إعادة الأموال المحوّلة لغرض إعادة رسملة مصارفهم. كما أنه “نبّه” المعرّضين سياسيًا إلى ضرورة الإسراع بإخراج أموالهم من الأسواق العالمية قبل تطبيق الإجراءات الأميركية على الطبقة السياسية اللبنانية المتهمة بالفساد أو المرتبطة سياسياً “بتيار“ المواجهة المفتوحة مع الإدارة الأميركية. فقد أقدمت الإدارة الأميركية قبل وقت طويل على توجيه هذا التنبيه إلى السياسيين بشكل مباشر أو غير مباشر، تلا ذلك تطبيق عقوبات كان أولها على ثلاثة وزراء لبنانيين سابقين. أغلب الظن أن لا أصحاب المصارف أعادوا مبالغ ملموسة من أموالهم من الخارج، ولا المعرّضين سياسيًا لديهم أموال نقدية مباشرة لإعادتها أو لديهم أموال مجمدة بأصول ثابتة غير مباشرة، وإن وُجدت، فقد يصعب الكشف عنها.
س: ودائع اللبنانيين بالدولار… هل ذهبت أدراج الريح، أم أن هناك املًا باستعادتها؟
ج: إنّ انكشاف المصارف اللبنانية على مخاطر ديون الدولة بلغت ذروتها بإعلان حكومة تصريف الأعمال “تعليق” التزاماتها بتسديد سنداتها الدولية –اليوروبوندز، بتاريخ 9 آذار الماضي. وقد عطّل حجم هذا الإنكشاف الكبير قدرة المصارف على القيام بالتزاماتها تجاه مودعيها. فحكومة تصريف الأعمال نجحت في اشاحة الأنظار عن أزمتها المالية (Fiscal) “الفعلية“ وحوّلتها إلى أزمة نقدية مصرفية “مفتعلة”.