د. غالب خلايلي
زرتُ في عيدٍ (قبل سبع سنوات) زميلاً لي بعدما طال الفراق، وكنّا قد تواعدنا على اللقاء، فإذا بأربعةَ عشرَ عاماً قد مرّت على آخر زيارة، وإذا ببيت الزميل محافظٌ على رونقه وتفاصيله اللطيفة التي تنمّ عن ذوق رفيع.
الهدوء يغمر المكان في أول الليل كالعادة، ولا مظاهر صاخبةَ لعيد.
هذا مألوفٌ في الغربة، لاسيما بعد أن يكبر الأولاد ويتفرّقوا في الأرض، لكنّ الذي لفت نظري إلى حدّ الدَّهشِ هو كلبٌ صغير أبيضُ ذو شعر طويل، يحسبه الناظر لعبةً تتحرّك نحو الضيوف بودّ، لعبةً ذات روح حيّ، تفهم أوامر صاحبها، وتنفّذ ما يطلبه منها، فتنزوي قرب الشجرة المزدانة، وتقعى (عاقلة).
قال الزميل: بلغ هذا الكلب من الكِبَر عتيّاً، فهو في سنته الثانيةَ عشرةَ. والمؤسف أنه بدأ يمرض كثيراً منذ نحو سنتين، كما كاد يفقد السمع والبصر. لم أترك طبيباً بيطرياً إلا استشرتُه بشأن وهنٍ شديدٍ أصابه، وسائلٍ تجمّع في بطنه. وازداد الأمر وبالاً على كلبنا العزيز (لا سيما على الأولاد)، فراح شعره يتساقط، وبدأ يحكّ جلده بكل شيء أمامه.
ويتابع: وبقيتُ أفكّر في طريقة لحلّ مشكلته، حتى اهتديتُ إلى حقنِ دواءٍ يعالج الأمراض المناعية عند البشر، فقلت في نفسي: لم لا أجرّبه؟ وجرّبت، فإذا بالسائل يختفي من البطن، وإذا بالصحّة العامة تتحسّن بسرعة، وبالشعر ينمو، وبالحِكّة تزول، كأن الدواء هو السحر.
وتساءل صاحبي: ما الذي يمكنني فعله تجاه السمع أو البصر؟ ربما لا يمكنني فعل شيء لوَقْرٍ في السمع، لكنّ عدستيّ العينين اللتين بدأتا تتغيّمان (وهو ما يعرف بالمياه البيضاء أو السادّ) قابلتان للتلطيف بقطرة تخفّف العتمةَ نادرة الوجود، وأنا أبحث عنها بالسراج والفتيل في كل مكان.
قلت لصاحبي: بارك الله بك، فهذا هو أنت الطبيب الإنسان الذي أعرفه، لم تتغير، ولا أظن رجلاً ذا صفة ما يتغير، فالكريم يبقى كريماً، والحنونُ يبقى حنوناً، وكل من يمثّل الدور لا بد أن ينكشفَ أمرُه، فذَنَبُ الكلب الأعوج لا يمكن أن يستقيم، ولو وضعتَه في قالِبٍ صلب، إن هي إلا صفاتٌ يزرعُها الخالق في البشر، ويصعبُ أن تتبدّل.
تأثّر صاحبي بما قلته، فأتبعت:
-أقول الحق، ليت كل البشر في غابة الذئاب ينالون مثل هذه العناية، بل حتى بعضاً منها مع نضوب الإنسانية، وضياع الموارد. تخيّل جراحة تُجرى بلا تخدير، واختناقاً لا يجد صاحبه حتى الهواء النقي. ليت كلّ أهل الطب مثلك في التعامل، لا أقول مع الحيوانات (فهذا قد يكون فوق طاقتهم أو رغباتهم)، ولكن مع المرضى. تخيل أن تكون الخدمة التي يقدّمها أحدُهم المرتاح عند توصيته بشخص ملهوف محتاج هي الأولى والأخيرة، يعني: مثل الحقن وحيدة الاستعمال Disposable، هذا إذا استجاب ولم يُشِحْ بوجهه، ناهيك عن زميل هشّ Fragile ذي مزاج شُباطيّ، (متقلّب ليس على كلامه رباط)، تكلّمه بحبّ وود، فلا تفهم متى سوف يبتسم، أو متى سوف يصرخ في وجهك، أو آخر لا يستجيب دون مقابل مادي عالٍ (على المسوكَر)، تماماً مثل الهاتف ذي الحصّالة لا يفتح فمه إلا بعد التلقيم بالمال. لكن مقابل هؤلاء، هناك أناس كرام، مثلك يا صاحبي، تضعهم على الجرح فيبرأ.
أحسّ صاحبي بالحرج من إطرائي، وتورّدت وجنتاه، مع أنه يدرك في قرارة نفسه جوهرَ قولي، لأنه أكثر خبرةً مني بفئة لم تعدْ تصدّق أن أحداً غيرها أُعطي مِشرطاً، فراحت تشرط به جلود العباد وأكبادهم ومشاعرهم.
وفيما كان الكلبُ يتقلّب بيننا، سرح ذهني….
نبّهني صاحبي من شرودي حين قال: هذه النقائصُ – مع الأسف – سيرةُ كثيرين نخدمهم، هذا إذا نجا المرء من الشتم.
قلت: أجل..
وسرح تفكيري ثانيةً في رضّع صغار أعالجهم، وتذكّرتُ أنهم يفهمون الإيماءةَ والبسمةَ ولغةَ العيون حتى في عمر شهرٍ أو اثنين، فقلتُ: “يا الله، ما للكبار لا يفهمون من صريح الكلام ما تفهمه حتى الكلاب والقطط والرضّع من إشارات”؟
وهنا قفز الكلب نحونا، وراح يحكّ جلده بالأثاث، ليتساقط بعض شعره، فأيقنت وصاحبي أن الكلب العزيز، مثل عالمنا الكريم، ما زال بحاجة إلى جرعات إضافية من الدواء.. والحبّ.