الأستاذ أحمد محمد صبّاغ
الأستاذ أحمد محمد صبّاغ أحد روّاد التأمين الإسلامي في الوطن العربي، كان من المؤسسين لعدد من شركات التأمين الإسلامي في السعودية، كما في عدد من الدول العربية. وعلى الصعيد الأردني، هو يُعدّ من أول المؤسسين للتأمين التكافلي (الإسلامي) في عمّان، وكان ذلك في العام 1996 عندما عندما أعلن، بالتعاون مع عدد من رواد الاقتصاد الإسلامي في العالم، إطلاق شركة التأمين الإسلامي ليتولّى منصب مديرها العام، إلى جانب عضو في مجلس الإدارة.
وعُرف عن الأستاذ صبّاغ شغفه بالعلم والتأليف فرَفَدَ المكتبة التأمينية العربية ومكتبة اتحاد شركات التأمين الأردنية بعدد كبير من المؤلفات في التأمين الإسلامي، وباللغتَيْن العربية والإنكليزية. وإلى ذلك، استضيف محاضرًا في موضوع التأمين الإسلامي في عدد كبير جدًّا من المؤتمرات والندوات التأمينية العالمية والعربية والمحلية.
ونظرًا لخبرته الواسعة في التأمين الإسلامي ومساهماته في نشر فكر التأمين الإسلامي، أردنيًّا وعربيًا، فقد سبق له أن انتخب رئيساً للاتحاد العالمي لشركات التأمين وإعادة التأمين الإسلامي، ومقره في الخرطوم في السودان، حيث كانت له بصمات واضحة في تأسيس هذا الاتحاد وتوسيع عضويته من شركات التأمين الإسلامية العالمية والعربية.
في هذا الحديث الذي أجريناه مع الأستاذ صبّاغ، إحاطة شاملة ومقارنة في آن، بين ثلاثة أنواع من التأمين الإسلامي، هي: التأمين “التجاري” والتأمين “التبادلي” والتأمين “التكافلي”…
بداية سألناه: موضوع التأمين هو من أهم جوانب الأنشطة الإقتصادية المعاصرة. فما علاقته بالشريعة الإسلامية؟ أجاب:
- لابدّ إنكم تعلمون أن العالم الإسلامي في عصرنا الحالي، يعمّه اهتمام غيرُ عادي في التوجّه نحو الدراسات الإسلامية، ذلك لِما لمَسَه الباحثون والمفكِّرون المعاصرون على وجه الخصوص، ما في الشريعة الإسلامية من مَعينٍ لا ينضب من المبادئ الإنسانية، والنظم الكفيلة برعاية المجتمع بجميع فئاته وطبيعة تخصصاته، وِفق أُسسٍ قويمة تتفق وأحكام الشريعة الإسلامية الغراء .
ولم يقف هذا الاهتمام عند الباحثين والمفكرين فحسب، بل تجاوزهم ليصل إلى بعضِ الدول الإسلامية، إذ أصبحنا نرى أن بعضّ الدول في العالم الإسلامي، قد بادرت فعلاً إلى تضمين دساتيرها ومواثيقها أحكاماً تؤكّد أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي لتشريعاتها، والتي في مقدّمها ما يتعلّق بوضع الأسس والضوابط لإقامة نظامٍ اقتصادي يضمن سلامة وشرعية نشاطاته خاصة المالية والمصرفية منها، لما لهما من آثارٍ عميقة في جميع جوانب الحياة المعاصرة.
يقودنا ما تقدّم إلى ضرورة الإشارة إلى المهام الجليلة التي يجب أن تضطلع بها المعاهد والمجامع العلمية المتخصِّصة في الدول الإسلامية، وكذلك إبراز حجم الأمانة المقدسة المستقِرّة في أعناق الفقهاء الأفاضل الذين ما زالوا يَصلون الليل بالنهار، بحثاً ودراسة واجتهاداً وقياساً، في سبيل إقامة صرحٍ اقتصادي متكامل، ليس فقط من خلال الاستفاضة في طرح البحوث المقارنة، بين المنظومة الاقتصادية القائمة، وما يجب أن تكون عليه بما يتفق ومبادئَ وأحكام الشريعة الإسلامية، بل ومن خلال التحوّل الفعلي من مرحلة وضع النظريات، إلى السعي الحثيث، إلى تطبيقها ما أمكننا ذلك.
ولا يساورني أدنى شك في أنكم تشاركونني الرأي، في أن موضوع “التأمين”، وكما ذكرتم في سؤالكم، هو من أهم جوانب الأنشطة الاقتصادية المعاصرة، إن لم يكن أهمها على الإطلاق. ولا أظنني أُبالغ حين أقول إنه يمثِّل الدعامة الرئيسية لجميع هذه الأنشطة، فقد كان حقاًّ كذلك منذ أقدم العصور، إذ إن المتأمِّل الحصيف في شتى مناحي الحياة، سواء أكانت على المستوى الشخصي والأُسروي، أم كانت على المستوى الاجتماعي أو الزراعي أو التجاري أو الصناعي أو المالي، يكتشف أن مدى استقرار بل ونجاح أيٍّ من هذه الجوانب الحياتية، يعتمد أساساً على مدى اعتماده على التأمين، سلباً وإيجاباً. لذا لم يكن غريباً أن يستحوذ موضوع “التأمين” على اهتمام الكثير من الشعوب على مدى التاريخ. ومن هنا فقد اتخذ أشكالاً مختلفة، كثيراً ما كان يحدّدها اختلاف الأزمان، والتباين في طريقة تفكير الإنسان في مواجهته للوفاء باحتياجاته التي ترتّبت على انتقاله عبرَ العصور الاقتصادية المتعددة، حينما انتقل من المجتمع الزراعي إلى اليدوي، ومنه إلى المجتمع الصناعي الآلي، الأمر الذي حَمَل معه حاجاته الملحة إلى توفير الأمان له ولأسرته ولأمواله ولما يترتب على تصرفاته الشخصية والحِرَفية من مسؤوليات تجاه أفراد المجتمع الذي يعيش فيه.
ولما كان التأمين بمفهومه الأساسي والعملي، وسيلة لتشتيت الآثار المادية التي يتركها تحقّق أي خطر يصيبُ البعض، بتوزيعه على الآخرين، أو بعبارة أخرى هي “قيام الكثرة بجبر أضرار القلة” بطريقة منظمة، فقد عرَف التاريخ أشكالاً عديدة يؤدي إلى هذا المفهوم، يرجع تاريخ بعضها إلى المئات من السنين التي سبقت مولد المسيح عليه السلام، لسنا اليوم بصدد الخوض في تفاصيلها، حيث أنني سأكتفي باستعراض ثلاثة من أشكال التأمين وهي الأكثر شيوعا في عصرنا الحاضر، هي: التأمين التبادلي، التأمين التجاري والتأمين التعاوني.
س: أإلى هذا الحدّ، هناك اختلاف بين هذه التأمينات الثلاثة مع أن الجوهر واحد؟
ج: على رغم اشتراك هذه الأشكال الثلاثة في الجوهر، وهو “توزيع الآثار التي تنتج عن تحقّق أو وقوع الخطر”، إلا أنها تختلف في العديد من الجوانب التي من أهمها تلك التي تتّصل بطبيعة تكوينها من حيث ملكيتها وصِفَتِها القانونية، وكذلك الآلية المتبعة في توزيع أو تخفيف آثار الضرر، ثم الجهة أو الجهات المستفيدة إلى جانب من يقع عليهم الضرر، وما يترتب على ذلك من حكم على مدى انسجامها مع مبادئ وأحكام الشريعة الإسلامية .
ولعلّ ما سنورده في ما بعد عن خصائص هذه الأنواع الثلاثة، يساعدنا في الوصول إلى المقارنة المطلوبة، ولكننا قبل أن نتحدث عن هذه الخصائص، أجد أنه قد يكون من المجدي التحدُّث بإيجاز عن بعض العناصر الأساسية للتأمين والتي يجب الوقوف على مدلولاتها الحقيقية. فـَ “الخطر” هو “حدث” محتمل وغير مستحيل الوقوع، ويؤدي وقوعه إلى ما يعرف “بالخسارة المادية” أو إلى ما يعرف بـ “تحت طائلة المسؤولية” ما يستلزم “جبر” هذه الخسارة، أو دفع “تعويض”، فلا يجوز التأمين على خطرٍ يستحيل وقوعه. ويُستثنى من هذا التعريف تحقيق ما يُصطَلح على تسميته “خطر الوفاة”، لأنه، في رأيي، “حدث” مؤكد الوقوع، فالموت حقٌ يقع على الجميع، إلاّ أن عِلْمَ التأمين اعتبره خطراً لعدمِ القدرة المطلقة على تحديد وقت لحدوثه، على عكس الأخطار الأخرى كالعواصف والحرائق وما شابه ذلك.
س: لنبدأ، إذًا، بالتأمين التبادلي، فماذا عنه؟
ج: تقوم بالإشراف على هذا النوع من التأمين جمعية يشترك في تكوينها أعضاء يُسهمون في اشتراكهم فيها بدفع مبلغ معين يتفق عليه مسبقاً. وغالباً ما تكون قيمة هذه الاشتراكات متساوية أو شبه متساوية. بمُوجب ذلك، يكتسب كل عضو صوتاً واحداً يمكنه من رقابة شؤون هذه الجمعية التي تدار بمعرفة مجلس إدارة يتولى مسؤولية إدارتها دون مقابل، باستثناء السكرتير الذي يُعطي جزءًا من وقته لمتابعة شؤون إدارتها.
وتتولّى لجنة منبثقة عن هؤلاء الأعضاء مهمة تقدير قيمة التعويض المستحق دفعه إلى أي عضو يتعرّض إلى خسارة، حيث يتمّ، بعد ذلك، دفع قيمة هذه الخسارة من إجمالي اشتراكات هؤلاء الأعضاء.
س: والآن ماذا عن التأمين التجاري؟
ج: تقوم بالإشراف على تنفيذ هذا النوع من التأمين الإسلامي، شركة خاصة أو مساهمة عامة، بموجب القوانين المعمول بها وفقاً للمتطلبات النظامية الأخرى، ويقوم بتأسيسها مجموعة من رجال المال بالمساهمة في جمع رأسمالٍ لها يمكنها من الوفاء بالمتطلبات القانونية.
ومن خصائصها:
أ- أن لها نظاماً أساسياً.
ب- أن لها رأس مال معلوم مدفوع و/أو مصرح به.
ج- أن من بين أهدافها، مزاولة أعمال التأمين والاستثمار.
د- أن الهدف الأول لها هو تجاري، الغرض منه تحقيق الربحية.
ه- أن جميع ما يتحقق من أرباح يؤول إلى المؤسسين وحملة الأسهم فقط.
و- أن الوسائل التي يتبعونها في استثمار رأس المال والأقساط لا ينسجم ومبادئ الشريعة الإسلامية وأحكامها في غالب الأحيان.
ز- أن اتفاقيات إعادة التأمين قائمة على أساس تقليدي تجاري.
ط- عدم وجود أية علاقة بين جمهور المؤمّن لهم (حَمَلَة الوثائق)، كما لا توجد أية علاقة بين حَمَلَة الأسهم وحَمَلة الوثائق إلاّ في ما يخص الخسائر والتعويضات.
ك- أقساط التأمين التي يدفعها المؤمّن لهم مستهلكة بالكامل.
س: يبقى التأمين التعاوني الأكثر تداولاً…
ج: “التأمــين التعاوني” هو الــذي تعمل بموجبه شركات التأمين الإسلامي، فهو الأقرب إلى “التأمين التبادلي” مع بعض الفوارق الأساسية ومنها:
أ- أن العجز الذي يتحقّق في صندوق التأمين التبادلي يقوم بتسديده الأعضاء المشتركون في الصندوق أنفسُهم في نهاية كل سنةٍ مالية .
ب- أن اللجنة الخاصة بتحديد مقدار خسارة كل عضو مشترك منبثقة عن الأعضاء أنفسهم، وبهذا تنتفي صفة “الحيادية” عنها، ما يدفع بعض الأعضاء الذين يتعرّضون إلى خسارة، إلى عدم الارتياح أحياناً إلى قراراتها.
ج- أن وسائل استثماراتها لا تأخذ في الاعتبار النواحي الشرعية .
إلاّ أن “التأمين التعاوني” يتفرّد بالمميّزات التالية:
أولاً، أن أقساط التأمين التي يشارك بها حَمَلَة الوثائق، غير مستهلكة بل يعود جزءٌ منها إلى أصحابها حَمَلَة الوثائق .
ثانيًا، أن لدى شركة “التأمين التعاوني” حسابان منفصلان أحدهما عن الآخر، الأول يخص رأس المال الذي يؤول في ملكيته وجميع عوائده إلى حَمَلَة الأسهم، والثاني يتمثل بحساب حَمَلَة الوثائق لأنهم أصحابه، لذلك فهم وحدَهم الذين يتمتعون بفائضه وعوائده.
ثالثًا، الهدف الأساسي من تأسيس شركات التأمين التعاوني هو إيجاد جو تعاوني تكافلي وتضامني بين حملة الوثائق أنفسهم من جهة، وبين حملة الوثائق وحملة الأسهم من جهة أخرى.
رابعًا، في حالة تعرض حساب حَمَلَة الوثائق إلى عجزٍ في إحدى السنوات، يقوم حملة الأسهم بسدّ هذا العجز بقرضٍ حَسَن من حسابهم، وهذا يعني أن شركة التأمين التعاوني غير محكومة لرأس مالٍ واحد، بل لديها اثنان، يملك كل طرف من الطرفين المتعاونين واحداً منهما.
خامسًا، الوسائل الاستثمارية التي تلجأ إليها شركات التأمين التعاوني تنسجم مع أحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية.
سادسًا، تتفرد شركات التأمين الإسلامي في إتباعها النظام التعاوني التكافلي في أعمالها، إنما عقدت اتفاقيات إعادة تأمين غير تقليدية بأن ضمنت بُعدها عن الرِبا وتجنّبت شبهة اختلاط الأموال حيث تمكنت من إقناع معيدي التأمين بآلية خاصة بها تضمن ما سبق ذكره .
سابعًا، وثائق التأمين التي تسوِّقها شركات التأمين التعاوني تخضع لدراسة وتمحيص هيئة رقابة شرعية من فقهاء أفاضل كما تشرف هيئة الرقابة الشرعية على استثمارات وحسابات شركات التامين الإسلامي لضمان انسجامها مع مبادئ وأحكام الشريعة الإسلامية.
آمل أن أكون قد وُفقت في إبراز أهم الفوارق بين هذه الأنواع الثلاثة من أساليب التأمين، مع عِلمي اليقين بأن العمل بموجب مبدأ التأمين التعاوني التكافلي ما زال يتميّز بالعديد العديد من المزايا التي كان لها الأثر الكبير في تلبية احتياجات فئات من المجتمع كانت تتحرّج من التعامل في جميع منتجات صناعة التأمين ما أسهمت في تقديم ميزة إضافية في الاقتصاد الوطني لتلك الدول.