دماغان في الشّكل يتشابهان ولكن المحتوى مختلف
—————————-
الإختصاصيّة في علوم الأحياء السيدة باسكال هبر بجّاني تتابع الردّ على أسئلة القرّاء في إطار التوعية الصحيّة التي تنعكس إيجابًا على قطاع التأمين وعلى شركات هذا القطاع، إذ من خلال هذه التوعية يمكن تجنّب الأمراض، وتاليًا اللجوء إلى الأدوية أو العمليّات الجراحيّة، خصوصًا في هذا الزّمن الذي أصبحت فيه الكلفة الاستشفائيّة عالية جدًّا وليس بمقدور أيّ كان تناول هذه الكأس المرّة.
في المقال التالي، تردّ الكاتبة على سؤال يتعلّق بدماغ المرأة ودماغ الرّجل، وهل من اختلاف بينهما؟
– من الأردن، عامر صعب: قرأت أنّ المرأة أكثر عرضة للالزهايمر من الرّجل.. فهل هذا صحيح وما الأسباب؟
ج: للإجابة عن سؤالك، قارئي العزيز، لا بدّ من سَبْر غَور دماغ كلّ من الرّجل والمرأة. فصحيح أنّ المنطق يقول أنّ الدّماغَيْن لا يختلفان، بدليل الأداء المشابه لكلَيْهما، ولكن إذا عدنا إلى الدراسات والأبحاث التي أُجريت، وهي عديدة، نكتشف أنّ ثمة فروقًا كثيرة، منها ما طلبتَ استفسارًا عنه، وهو: هل مرض الزهايمر يصيب المرأة أكثر من الرّجل. ولنبدأ بشرح الفوارق بين الدماغَيْن…
“الرّجال يأتون من كوكب مارس فيما النّساء ينحدرن من كوكب “الزهرة”، هو عنوان كتاب ممتع للأديب الأميركي John Gray (1951)، وفيه يُخبرنا أنّ الرّجال والنّساء لا يتكلّمون اللغة نفسها.. فمارس هو إله الحرب بينما الزهرة (Vénus) هي إله الحبّ… لذاـ فإنّ هذَيْن الكائنَيْن لا يُشبه أحدهما الآخر، لا في طريقة التعاطي ولا في أسلوب التعبير، سواء عن العواطف أو غير العواطف. وقد توصّل Gray إلى هذا الاستنتاج بعد سنين من الخبرة الزوجيّة التي سمحت له بالتعمّق في هذا التعاطي من أجل تحقيق التوافق بين الجنسَيْن بدلاً من عدم التفاهم وتأجيج الخلاف بينهما. لذا، فإن كنت تعتقد أنّ الرّجل والمرأة يفكّران تمامًا بالطّريقة نفسها، فعليك أن تعيد النّظر قليلاً بهذا الاعتقاد.
إنّ الدليل على اختلاف أسلوب التفكير عند الرّجال، كما عند النّساء، يتجلّى في تباين آرائهما حول كثير من المسائل الحياتيّة، حتّى ولو بلغ عمر زواجهما العشرين عامًا أو فوق ذلك. فالرّجل قد يُعجب من قدرة زوجته على تذكّر أسماء أشخاص، كانا يعرفانهم منذ عشرين سنة مثلاً. كما قد يُعجب الزّوج من قدرة زوجته على القيام بثلاثة أعمال منزليّة في آن معًا، وكيف أنّ الكلمات لا تخونها أثناء الحديث! لكنّ عجب الزوج لا يلبث أن يزول إذا علم أنّ سرّ هذا التفوّق كامن في الدّماغ.
لا خلاف في أنّ هناك أسبابًا ثقافيّة واضحة للتباين في العواطف والسلوك أحيانًا، ولكنّ الدراسات الحديثة كشفت النقاب عن أنّ أساس الكثير من هذه الفروق المحيّرة بين جنسَيْ الذكر والأنثى، قائم في رأسيْهما. ففي دماغ الرّجل، كما في دماغ المرأة، كثير من الصّفات المشتركة، ولكنّهما، مع ذلك، مختلفان من حيث الحجم والتركيب والحساسية.
ومن الملاحظ بوجه عام، أنّ دماغ المرأة، كجسمها، أصغر حجمًا من دماغ الرّجل بنسبة تترواح بين 10 إلى 15 بالمئة. ومع هذا الاختلاف بالحجم، فإنّ مناطق الدماغ المخصّصة للأمور الإدراكيّة الكبيرة عند المرأة، مثل الملكة اللغويّة، أكثر شحنًا بالنيرونات (العصبونات الدماغيّة).
وفي رأي الباحثين، فإنّ أهمّ نقاط الاختلاف بين دماغَيْهما يمكن تلخيصها في ما يلي:
1. المرأة أوسع استعمالاً لدماغها. فعندما تؤدّي المرأة أبسط عمل من الأعمال، ولو كان ذلك مجرّد تحريك للإبهامَيْن، فإنّ النشاط العصبي الذي يرافق ذلك العمل، يكون أكثر توزّعًا على سائر أنحاء الدّماغ. وعندما يركّز الرّجل ذهنه في عمل من الأعمال، فإنّ خلاياه الدماغيّة تميل إلى التوزّع على مساحات محدّدة من دماغه تبعًا للموضوع الذي يفكّر فيه. أمّا المرأة، إذا فكّرت، فإنّ خلاياها الدماغيّة تتوهّج في مساحات واسعة من دماغها، ويظهر أثر ذلك عند التقاط صورة بواسطة مفارس التصوير الأكثر تطوّرًا، تبدو الخلايا الدماغيّة شبيهة بأنوار المدينة الساطعة ليلاً.
هناك تفسير محتمل لهذا الفرق بين الذكر والأنثى، ولو أنّه تفسير يُجابَه بالأخذ والردّ: إن الجسم التفني (corpus callosum) وهو الجسر من الألياف المارة في مركز الدماغ، أكثر سمكًا عند المرأة، منه عند الرّجل، ممّا قد يسمح بالمزيد من التبادل الخطابي بين القسم الأيمن من الدماغ، وهو القسم العاطفي الإدراكي، وبين القسم الأيسر الذي هو القسم العملي الراشدي. وبنتيجة ذلك، فإنّ دماغ المرأة قد يكون أقدر على تلمّس الإرتباطات، من دماغ الرّجل.
بعضهم يُطلق على هذه المهارة الأنثويّة اسم “الذكاء العاطفي” (emotional intelligence) وآخرون يسمّونه “الإدراك النسائي” (Women’s intuition). ومع ذلك، فإنّ الرّجال في بعض الأحيان قد يكونون أقدر من النّساء على التركيز الشديد. وهذه القدرة قد يفسّرها غوص الرّجل في قراءته كتابًا أو صحيفة على رغم رنين جرس الهاتف!
2. دماغ المرأة أشدّ تجاوبًا مع العاطفة. أجرى أحد الخبراء رصدًا لأدمغة عدد من الرّجال والنّساء، أثناء تذكّرهم لبعض الأحداث العاطفيّة التي عرضت لهم في حياتهم، مستخدمًا في رصده هذا مفراسًا متطوّرًا، فتبيّن له من مراقبة صُوَر المفراس، وجود اختلاف في كيفيّة تجاوب كلّ من الجنسَيْن، مع العواطف، وبخاصة عاطفة الحزن. ومع أنّ مشاعر الحزن تنبع من نفس التجارب والأحداث عند الرّجال والنّساء، إلاّ أنّ المشاعر السوداويّة تثير في المركز الخاصّ بالعاطفة السوداويّة في دماغ المرأة من الخلايا العصبيّة (العصبونات)، ثمانية أضعاف حجم ما يثيره ذلك الحزن في دماغ الرّجل. إنّ الطريقة التي تنفعل بها أدمغتنا مع الحزن، قد تكون من الناحية النظريّة على الأقلّ، أكثر تهيئة لمشاعر الكآبة بمقدار المثلَيْن في أدمغة النّساء، منها في أدمغة الرّجال.
إنّ الجنسَيْن كليهما يتساويان في العرّف على مظاهر العادة المرتسمة على الوجوه، لكنّ الرّجل يجد صعوبة في التماس التعاسة عند المرأة، إلاّ إذا كانت تقاطيع وجهها تنمّ فعلاً عن تعاستها بصورة أوضح.
3. للمرأة طريقتها في التعامل مع الكلمات. الفتيات بشكل عام أسرع تكلّمًا وأسرع قراءة، وربّما كان ذلك أنّ الإناث يستخدمنَ عند التكلّم والقراءة مناطق عصبيّة في كلا قسمَي الدماغ. أمّا الذكور فإنّهم على النقيض من ذلك، لا يستخدمون عند القراءة من المناطق العصبيّة، إلاّ ما كان منها في القسم الأيسر من الدماغ.
كذلك فإنّ النّساء، عندما يكبرْنَ، يصبحنَ أقدر على التصرّف بالمفردات الشفهيّة. وبنتيجة اختبارات أُجريت في هذا المضمار، تبيّن أن المرأة أوسع استحضارًا للمفردات التي تبدأ بنفس الحرف، وأقدر على تذكّر المترادفات وأسرع في تسمية الألوان أو الظّلال، ممّا يستطيعه الرّجل.
الأهمّ من ذلك أنّ طريقة “تصنيع” المفردات اللغويّة، وهي الطريقة التي يشترك فيها نِصفا دماغ المرأة معًا، والتي تمتاز عن طريقة “التصنيع” عند الرّجل التي لا يستخدم فيها إلاّ أحد نصفَي الدماغ عنده، هذه الطريقة مفيدة للمرأة من ناحية أخرى، إذ أنّ المرأة التي تُصاب بضربة دماغيّة ، تكون أسرع شفاء من الرّجل المُصاب بها. وبعبارة أخرى أكثر توضيحًا لهذه الميزة، فإنّه بالنَظر إلى أنّ المرأة تقوم عند الكلام أو القراءة بتفعيل شبكة أوسع من الخلايا الدماغيّة، فإنّها لا تُصاب بنفس العجز الكلامي والقرائي الرجولي وذلك نظرًا إلى أنّ قدرة تفعيل الرجل محدّدة بنصف واحد فقط من دماغه!
4. المرأة أقدر على حفظ معالم الأشياء. لدى سَيْر المرأة في أحد الشوارع، فإنّها تكون أكثر تنبّهًا إلى ما تبصره عيناها، وبخاصة العلامات الموضحة لأنحاء الشارع مثل المقهى أو مكان شرب العصير أو بَيْع الأحذية والملابس. وعندما تعود المرأة إلى أحد المسارات أو تحديد الوجهات، فإنّها تعتمد على مواقع تلك العلامات، في حين أنّ اهتمام الرّجل ينصرف في تفكيره إلى وجهة السّيْر والمسافة (أي نصف كيلومتر غربًا، ثمّ كيلومتران شمالاً!).
يحاول أحد الخبراء العصبيّين تفسير ذلك بقوله: “يخيّل إليّ أنّ الرّجال ولدوا وفيهم مكوّن بيولوجي يجعلهم أحدّ قدرة في مجال الواجبات الفراغيّة. ويتجلّى ذلك في مقدرة الرّجال دائمًا على أداء بعض التمارين وكذلك في ركن سيّارته مثلاً في مكان ضيّق، وهو الأمر الذي تفشل به المرأة، عادة.
5. ذاكرة المرأة أحدّ من ذاكرة الرّجل. في أيّ عمر بلغَتْه المرأة، يُلاحظ أنّ النساء متفوّقات على الرّجال في استعادة الذّكريات. فبعد اختبارات أجراها عالم النفس الأميركي توماس كروك، رئيس منظّمة “سايكولوجيكس”، على أكثر من خمسين الف رجل وامرأة، تبيّن له أنّ المرأة أقدر من الرّجل على الرّبط بين الأسماء والوجوه، وأنّها تفوقه في القدرة على تعداد الأسماء من الذاكرة.
يفسّر كروك، وذلك بقوله أنّ الأحداث التي ترسخ في ذاكرة الإنسان، هي ما كانت مرتبطة بالعواطف. وبالنّظر إلى أنّ النّساء أكثر من الرّجال استعمالاً للنصف الأيمن من أدمغتهنّ (وهي المنطقة التي تصنّع فيها العواطف)، فإنّ المرأة تؤدّي هذه الوظيفة بصورة أوتوماتيكيّة.
6. دماغ المرأة أبطأ شيخوخة. في إحدى الدراسات المدوّنة في “أرشيف علم الأعصاب” (Archives & Neurology) أنّ دماغ الرّجل أسرع ضمورًا من دماغ المرأة. ونتيجة لهذه السرعة في الضمور، تكون الذاكرة اضعف عند الرّجل، وتكون مقدرته أقلّ في الانتباه، ويكون أكثر سوداويّة في المزاج، وبنتيجة ذلك يكون أسرع انزعاجًا.
إنّ سبب هذا التغيّر الكبير في حجم دماغ الرّجل ربما كانت له علاقة بالكفاءة في صرف الوقود. والظاهر أنّ دماغ المرأة أقدر على الاقتصاد في السرعة الاستقلابيّة، أي قدرة الدماغ على استعمال وقوده الرئيسي وهو الغلوكوز، بمرور الوقت. فكبار السنّ أكثر حرقًا للغلوكوز (سكّر الدم) بالقياس إلى ما كانوا يحرقونه في شبابهم.
ولكن في حين أنّ أدمغة النساء لأكثر احتمالاً من أدمغة الرّجال، إلاّ أنّها ليست بمخبأة من آثار الشيخوخة. والملاحظ أنّ حوالي ثلاثة ارباع حالات الخرف (داء الزهايمر)، توجد بين النساء.
وفي حين أنّ العلماء ما زالوا يجهلون حتى الآن الأمور المترتّبة على جميع هذه النتائج، إلاّ أنّ هناك نتيجة واضحة منها: إنّ أدمغة الرّجال وأدمغة النّساء تؤدّي نفس الأشياء ولكنّها تؤدّيها بطرق مختلفة.