كريستين حداد تزور اهرامات مصر
بقلم كريستين حداد
زميلتنا مديرة موقع “تأمين ومصارف” استقرّت في القاهرة مع شريك حياتها لتتابع منها نشاطها التأميني والإعلامي. صحيح أنّها انتقلت بكامل إرادتها إلى مصر التي أصبحت اليوم مقصد رجال الأعمال والمستثمرين والمصارف وشركات التأمين بعدما استمرّت في تسجيل نمو اقتصادي لافت حتّى في عزّ انتشار الجائحة في العامَيْن 2019 و2020، إلاّ أنّ هذا الانتقال في خضمّ ما يشهده لبنان من مآسٍ وويلات ومن تصاعد في وتيرة الهجرة، حوّلها طَوْعًا لا إراديًا إلى مهاجِرة هي أيضًا، مع أنّ الأمر ليس كذلك، لكنّ منظر طوابير اللبنانيّين أمام دوائر الأمن العام للحصول على جوازات سفر، لم يُدمِ قلبها فقط بل جعلها تشعر أنّها واحدة من المنتظرين في هذه الطوابير..
وإلى أن تستأنف نشاطها التأميني – الإعلامي بعد الانتهاء من ترتيب أوضاعها المنزليّة، كتبت هذه الخاطرة التي تعبّر عن آراء الكثير من اللبنانيّين، إن لم نقل جميعهم، جرّاء المعاناة والقهر وشظف العَيْش في ظلّ السقوط المريع للعملة اللبنانيّة واشتداد أزمة الطاقة التي لن تعرف الحلّ المنشود إلاّ بعد أن يتدفّق الغاز المصري سالكًا طريق الأردن فسوريا وصولاً إلى لبنان.
فإلى خاطرة كريستين حداد..
ها هي الهجرة الثالثة تطرق أبواب لبنان من جديد، وبقوة، ولا يجد الأباء والأمهات ما يصمّ أذان أبنائهم عن سماع أخبار الهجرة،وما يُخفي عن أعينهم طوابير العائلات والأفراد أمام مقرّات الأمن العام طلبًا لجوازات سفر تسمح لهم بالهروب من جهنم لبنان، لكن محاولة الأهل محكومة دائمًا بالفشل إذ لا بدّ من الاستسلام أمام هذا السيل الجارف من المهاجرين…
ها هي الأمّ ترتمي أمام عتبة البيت تَنصُب حاجزًا جسديًا لمنع ابنها الشّاب من اللحاق برِكِب من سبقوه. ها هي تستجدي الوقت كي يمرّ ببطء، عسى الأيام الآتية تحمل انفراجًا يجنّبها لوعة الفراق والاشتياق. لكن الجواب يأتي من عين وحيدها وفيه ما يكفي لترمي الأمّ سلاحها وتزيل حاجزها الجسدي وتقرّ بواقع لبنان المأساوي وطموح ابنها الذي لا يقاوَم. وكم من أمّ مثلها استسلمت للأمر الواقع وارتضت بما أراده الله لها ولولدها.
وداعاً لبنان.. وداعاً بلد الأعياد.. فكأس الهجرة لا بدّ أن يُشرب، هروبًا من كأس أمرّ: الموت المحتّم في بلد شاء سياسيوه أن يكون مرتعًا لتصفية حسابات خارجية، وداخلية أيضًا، فدمّر اقتصاده، وهجّر ابناؤه، وجعلوا أولاده طعمًا سهلا لكل من سوّلتْ نفسه أن يقترف المآسي ويجني المال الحرام عن طريق الشحن المذهبي والطائفي والعقائدي الديني إذا لزِم الأمر، ولو على حساب دماء الضحايا الذين سقطوا في انفجار المرفأ ولم تجفّ تلك الدّماء بعد، أو على حساب الحقيقة التي باتت تُطعن يوميًا بخناجر مسمومة مسعورة أو تُداس بأرجل الباطل والغدر…
المهاجر الشاب وقد اغرورقت عيناه بدموع الحنين إلى الوطن، أبعد أمّه وأباه عن طريقه، تأبّط حقيبة السفر، طَوْق نجاته من الاستمرار في الغرق، وانطلق في رحلة قد تكون مجهولة المصير، ولكنّها تبقى أكثر أمانًا من العيش في وطن أكلته الذئاب ورمته عظامًا على قارعة طريق العالم.
انطلق وهو يبتسم: يا أبي.. يا أمّي افتحا لي باب الرحيل وعلى مصراعيه، ولا تُحكموا إغلاقه من بعدي، فأنا وغيري لا نريد الموت حريقاً بانفجار، ولا برصاصةً طائشةً أو مقصودةً، نريد الرحيل بحثًا عن الأمان، رفضًا للإذلال والقهر.
أمّا أنت يا والدي ووالدتي، فقد عانيتما ما عانيتما: أمام الأفران والصيدليّات.. على أبواب المصارف.. أتريدان لي العذاب نفسه والمصير نفسه والقهر نفسه..
وداعًا لبنان.. أنا لم أستسلم لليأس.. أنا قهرت البؤس والشقاء وخرجت للحياة أتنفّس الحريّة.. أعيش حقوق الإنسان. وإذا كانت الهجرة هزيمة وهروبًا واستسلامًا فإنّها تبقى انتصارًا على العَيْش في جهنّم التي يستحيل الخروج منها.
أقول وداعًا ولكنّني أجزم: إلى اللقاء!