الطعام المُشبع بلا سكاكين وشوك وأقداح برّاقة
د.غالب خلايلي
لم تعدِ اليومَ من وسطيةٍ في الحياة، فهي في صفّ الكبار والمُترفين، فيما تكاد تجافي كلّ من هم دونهم.
وهؤلاء (الدّون) ليسوا شيئاً قليلاً، فهم نسيج المجتمع، وهم الطبقة المسحوقة فيه، إذ يقومون بكل الأعمال (الدّونيّة) التي تَوَسَّعَ طيفُها بالتدريج، من أعمال الحمل والنقل والحرث وغيرها، إلى أن شملت معظم الموظّفين والمعلّمين، وعدداً غير قليل من المهندسين والصيادلة والأطباء… (ولو بصورة أخفّ مما سيأتي ذكره).
نعم، امّحتِ الطبقة الوسطى، وهَوَتْ في تصنيفها نحو الطبقة المسحوقة التي تكابد مرّ العيش منذ الصباح الباكر وحتى ساعة متقدمة من الليل، وكأن كل همّها في الحياة هو أن تعمل من أجل أن تعيش، وتعيش من أجل أن تعمل (إذا وجدت عملاً، أو لم تطرد منه فجأة)، تستيقظ مبكّرةً في الصباح، وليس مهمّاً كيف تغتسل ناهيك عن أن تتأنق، ولا أن تفطر، فيكفي أي فطور في الطريق أو في العمل.
وهناك، في العمل، تقضي جلّ يومها، تتغدى فيه ما تيسّر، وحينما يأتي الليل تعود خائرة القوى إلى مقارّ نومها، تلك التي قد تكون مقارّ جماعية، ينحشر عدة أشخاص (قد يتجاوزون العشرة أو العشرين) في غرفة، ويتشاركون المنافع البائسة ذاتها.
لم يعد اليوم مهمّاً أن يرتاح العامل أو الموظف، فالمطلوب منه أن ينجزَ أكثر، بأقل أجرٍ ممكن. لم يعد مهمّاً أن يكفيه الأجر من أجل استئجار بيت مثلاً، أو إيواء أسرة، ناهيك عن تعليمها ومداواتها، فأجرة البيت العالية تنهاه عن التفكير بتكوين أسرة، أو استقدامها إلى بلد الاغتراب إن كان مغترباً، ليبقى بعيداً من أهله سنين، يعيش شَظَف العيش، ويُرسل فُتات المال إلى أسرته الصغيرة، فيما يكبر أولاده بعيدين من (مَثَلهم الأعلى!) والحضن الدافئ، الذي لم يشعر بالدفء إلا لماماً.
إنه عصر الخصخصة والشركات الكبيرة التي تهتم بالربح فحسب، ولا تهتم بالبشر، فالمهم هو العمل والإنجاز، ولهذا ترى “معسكرات عمل” شبه خالية من متطلبات الحياة الكريمة، فيما العمال هم الفئات الفقيرة المحرومة في العالم، ممن ذبحها الفقر والفساد، وأنهكتها الحروب، ولهذا يَقبل أفرادها بأي شروط غير إنسانية، والمصيبة أن مثلهم يُعدّ محظياً أمام أقرانه الذين لم يحصلوا حتى على كسرة خبز.
وكلما تعقدت شروط الحياة، وساءت الأحوال الاقتصادية (ومن ثم الاجتماعية) نزل عدد من الذين كانوا ميسورين إلى الطبقة الأدنى، وتدنّى سقف شروطهم، فمن كان لا يَقبل إلا بمبلغ ما، صار يقبل بنصفه أو ربعه أو حتى عُشره أو حتى بأكله وشربه، لأن هناك من ينافسه على المكان من الناس الأشد فقراً.
وطبيعي أنه – مع تدنّي الدخل – تتدنى شروط الحياة ذاتها. إنك تجد طبقة مهمومة لا تعرف لماذا هي موجودة على سطح هذه البسيطة، فأفرادها يعملون طوال الوقت، مقابل أجور زهيدة. ترى عشرة خياطين أو نجارين… في غرفة صغيرة يعملون حتى آخر الليل، نِحافاً ناشفين يدخّنون ذاهلين، حتى تشبّعت كل خلاياهم بالدخان و.. القهر. يمشي المرء منهم ساهماً لا يلوي على شيء، كأنه آلةٌ محطٌمة تمشي غصباً عنها. وكثيراً ما تسمع أن واحداً من هؤلاء تدلّى مشنوقاً بحبلٍ أو بسلك كهرباء، بعدما فقد أي بصيصٍ أمل في الدنيا، وأن الهموم تكالبت عليه فوق ما تحتمله نفسٌ بشرية فائقة العذاب. والمخزي أن هذا المنظر المؤلم يمرّ مرور الكرام بأناس لا يريدون أن يستفيقوا على واقع مرّ كهذا، بل المخزي أكثر أن هناك ما هو أعظم إيلاماً بكثير لا يكترث به أحد، وإن اكترث يبقى مشلول الإرادة.
حدّثني رجل يعمل في الترويج الدوائي أنه يعاني الأمرّين من ارتفاع أجرة بيته، وهو المتزوّج حديثاً، وأنه يعاني كثيراً وهو يحاول إيجاد مكان يركن سيارته المتواضعة فيه، وكثيراً ما يعود ليرى ورقة المخالفة عليها. وهكذا فإنه يعمل دون كلل ليسدّ رمَقَه ورمق العائلة الصغيرة، يعمل والهجرة نصب عينيه، على أمل أن الحياة سوف تكون أكثر عدالةً معه في المستقبل، فيما زميل آخر باع سيارته واستأجر غرفةً قرب مقر عمله، فصار يمشي إلى العمل، تخلّصاً من المشكلة المزمنة، وأرسل عائلته إلى بلده، كي (يضغط) النفقات.
فإذا كانت هذه أحوال صيدلي وطبيب لم تضحك لهما الدنيا كما يجب، فما الذي يمكن أن تكون عليه حال باقي الطبقات؟
وهنا أسأل: ما حال أهل الأدب مثلاً؟
يقول أديب موهوب يعمل أستاذاً: نحن، خارج أوطاننا، نصغر كل يوم، أيا تكُن مغريات الراتب – الذي لا يصدِّق كثيرون (بعد تحويله في مخيلاتهم إلى عملات محلية) أنه يكفينا، ولا نفيق كي نشعر بكياننا، فجدول الأعمال والمتطلبات لا يرحم، وكأن كلّ واجبنا أن تبقى العجلة تدور من أجل إيصال الأولاد إلى شاطئ الهمّ. ويا للبلوى إذا وقع المرء صريع مرضٍ لا يستطيع التكتّم عنه (كي يبقى في عمله).
أخونا العزيز يشعر بما يشعر به مع أن آلافاً مؤلفة تحسده على ما هو فيه، إذ يرى أفراد عائلته كل يوم مثلاً، ويذهب إلى عمله ويعرف أنه عائد إلى بيته بعون الله في وقت معين، لكن الظروف تختلف في إيلامها حسب حساسية الشخص الذي يعانيها، ولعل الآلام الحقيقية هي سرّ أولئك الذين يدخّنون ليل نهار، أو حتى يدمنون الكحول وغيره بلا وعي.
ولكن الآلام هي أيضاً سر إبداع المبدعين الذين يلتقطون اللحظات الإنسانية، فيخلدونها في أدب جميل أو مؤثر، يعيد إليهم بعض توازنهم.
ترى هل تتسع كل صفحات الأدب والتاريخ لالتقاط كل ما حولنا من اللحظات المؤثرة أو المفجعة أحياناً؟