مهاتير محمد.. رائد التجربة الاقتصاديّة التنمويّة المتميّزة
د. الياس ميشال الشويري
نحن في زمن رديء للغاية … في زمن سقط فيه عالمنا في فخّ ديموقراطية كاذبة وأحزاب تمّ تشكيلها للدمار والتفرقة.
نحن في زمن العجائب: الفاسد والقاتل أصبحا بطلَيْن يَعتدّ بهما البعض.
نحن في زمن خَسِر فيه من يتعاطى الشأن السياسي هالته وهيبته ومقامه.
نحن في زمن نرى فيه الوطن يضمحلّ، يتحلّل، ولا نملك لإنقاذه سوى الحسرة والضياع.
بكلمة واحدة، كلنا فاسدون! نرتدي ثوب الاصلاح ونعوم في الفساد، لأن من ارتضى الظلم فهو ظالم، ومن ارتضى الفساد هو فاسد. ضربوا بأحلامنا وأمالنا عرض الدنيا وارتضينا، فإذًا نحن الفاسدون، نتحدث عن الديانات قولاً لا فعلاً، في الصباح نتمسّح بالكتب المقدّسة، وفي النهار والمساء نرتكب كل ما طاب لنا من المعاصي. إذاً، كلنا فاسدون. نتحدث عن الامانة، وقلوبنا اقرب الى الخيانة! نتحدث عن الفضيلة والقيم والمثل والاخلاق، ونحن منها براء! السرقة (سرقة المال العام والرشوة) اصبحت شَرَفاً نتغنى به. نتحدث عن الكفايات، وها هي إدارات الدولة قد أُتخِمت بموظفين يستمدّون “كفاءاتهم” من نفوذ الزعيم أو من الانتماء الحزبي. وينسحب الأمر على أولئك المتربعين على عرش المناصب والمؤسسات، يسرقون الشعب وينهبونه ويفقرونه. وما أكثر حالات الفساد المستشري التي نسمع عنها كل يوم تقريباً: من مأكولات وأدوية وحليب أطفال، ودجاج منتهي الصلاحية، ولحوم واسماك فاسدة، وصفقات كهرباء بواسطة البواخر أو ببناء المعامل، ومياه وهواء ملوثَيْن، وأمن مفتوح لحساب قطّاع الطرق …
ما وصلنا إليه اليوم من أزمات، هي أساسًا من صنع أيدينا، ونتيجة عقود من سوء الإدارة والفساد من قبل قلة مفترسة، مرتزقة جُنّدت لتدمير البلد. وبشكل عام، لا يمكن لشعوب جاهلة أن تختار حكاماً حضاريين إنسانيين وطنيين. الحاكم، كما علمتنا الأدبيات الدينية والسياسية، نتاج المجتمعات وصانعها أيضاً. حتى أن مقولة “كما تكونون يولّى عليكم”، تجافي الواقع والحقيقة لأن المجتمعات والشعوب لا تصنع نفسها بنفسها، بل إن النخبة الحاكمة والمسيطرة في المجالات كافة هي من تصنع، كما يصنّع الخبّاز من العجينة كل أنواع الخبز والمعجنات.
إنّ الشعوب عبارة عن عجينة ليّنة تستطيع أن تصنع منها ما تشاء. وإذا فسدت الشعوب فلإن حكامها أرادوا سلوك هذا الاتجاه أو ذاك. ولا ننسى أن الناس في نهاية المطاف هم نتاج الأنظمة السياسية والاقتصادية والثقافية والتربوية والتعليمية والدينية والإعلامية للحكومات، وعلى مبدأ الكومبيوتر: “أدخل زبالة تأخذ زبالة”.
ففي الوقت الذي أمعنت المنظومة الفاسدة في لبنان فساداً وتدميراً ممنهجاً لمقوّمات البلد، لاحظوا ماذا صنع الزعيم الماليزي مهاتير محمد (الملقّب بالمبجّل، ورائد التجربة الاقتصادية التنموية المتميّزة في بلده والعالم)، خصوصاً وأنه كان الوجه الأبرز في عملية الانتقال الاقتصادي الماليزي الى ما هو عليه اليوم، وصاحب مقولة: “يجب أن تتم إدارة شؤون الدولة بسيادة القانون وخضوع الجميع له بغض النظر عن الصفة والمنصب!”
إن تجربة النهضة في ماليزيا كانت صعبة نظراً لتعدّد الأعراق داخل المجتمع الماليزي. ولكن، بالرغم من ذلك، قرّر الجميع أن يضع خلافاته جانباً ويهتم بنهضة ماليزيا، رغم وجود العديد من الديانات المختلفة بها، مبتعدين عن الخلافات السياسية لينشئوا تحالفات كانت من العوامل الأساسية التي أدّت إلى نهضتها.
خلال العقود الاربعة الماﺿية، حققّت ماليزيا قفزات هائلة في التنمية البشرية والاقتصادية حيث اصبحت الدولة الصناعية الاولى في العالم الإسلامي وﻛذلك في مجال الصادرات والواردات في جنوب شرقي آسيا. وتمكّنت من تأسيس بنية تحتية متطورة ومن تنويع مصادر دخلها القومي من الصناعة والزراعة والمعادن والنفط والسياحة، كما حقّقت تقدماً ملحوظاً في ميادين معالجة الفقر والبحث عن عمل ومحاربة الفساد وتخفيض نسب المديونية.
لقد استفادت ماليزيا من الانفتاح الكبير على الخارج عبر اندماجها في اقتصاديات العولمة مع الحفاظ على رﻛائز تنمية اقتصادها الوطني؛ مظاهر التقدّم واﺿحة من خلال تحولها من بلد يعتمد بشكل اساس على الزراعة الى بلد مصدّر للسلع الصناعية والتقنية، خاصة في مجال الصناعات الكهربائية والالكترونية. كما إلتزمت بتنفيذ خطة عمل وطنية فرضت من خلالها قيوداً مشددة على سياستها النقدية وأعطﺖ البنك المرﻛزي صلاحيات واسعة لتنفيذ خطة طوارئ لمواجهة هروب رأس المال الأجنبي وجلب النقد الاجنبي للداخل.
لقد إستطاعت الخروج من ازمتها المالية خلال سنتين، لوجود قادة، كمهاتير محمد، من أصحاب الفكر التنموي. فقد مكّنها الأخير من الوصول الى المستوى التنموي المرموق الذي تمتاز به اليوم. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ رئيس الوزراء السابق مهاتير محمد حذّر من خطورة اتباع شروط ونصائح صندوق النقد الدولي، بقوله: “اكتشفنا أن نصائح صندوق النقد الدولي ليست كلها حقيقية خالصة وبعضها مضللة. ومن هنا، قررت ماليزيا التعامل مع مشاكلها ذاتياً دون الرجوع لنصائح صندوق النقد الدولي الذي كان يضغط على ماليزيا، وهو الأمر الذي رفضناه”. فكيف أنقذ ماليزيا من فخ صندوق النقد الدولي؟
كان رأيه معروفًا. لم يقبل مساعدات الصندوق حينما مرت ماليزيا بأزمة النمور الآسيوية. ومع أن الدول الاسيوية المتضررة من الازمة قد استجابت لتوصيات الصندوق، إلا أن مهاتير رفض هذه التوصيات، وطبق سياسة مالية معاكسة لها. وقد استطاعت ماليزيا تخطي أزمتها المالية وتعزيز عملتها (الرينجت)، بل إنها خرجت بأقل الخسائر مقارنة بدول أخرى مثل الفلبين وكوريا الجنوبية واندونيسيا.
رأي مهاتير محمد معروف من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. فهاتان المؤسستان، يقول، خاضعتان لسيطرة وهيمنة دول معيّنة، وتوجّههما يصبّ في خدمة مصالح تلك الدول. وفي مقابلة أجرتها “بلومبرغ” معه في العام 2017، قال مهاتير محمد وهو يسترجع ذكرياته: “عندما نقترض المال منهم، فإن الشرط الذي غالبًا ما يفرضونه هو أن يكون لهم يد في إدارة اقتصاد البلاد، ومواردها المالية.”
لقد نجح مهاتير في إدارة أزمة الاقتصاد الماليزي بعيداً عن صندوق النقد، كما نجح بتحويل ماليزيا إلى عملاق اقتصادي بعدما كانت دولة ذات اقتصاد بسيط يعتمد على الزراعة وحقول المطاط، وكل ذلك من دون الحاجة إلى سماع توصيات صندوق النقد المدمّرة وبفضل محاربة العديد من مظاهر الفساد في بلاده. وخلال فترة قصيرة (10 أيّام)، فتح خلالها واحدًا من أكثر الملفات فساداً، وهو الصندوق السيادي الماليزي المنهوب بأكثر من 4.5 مليار دولار، كما بدأ التحقيق مباشرة مع نجيب عبد الرزاق، رئيس الوزراء السابق وزوجته وبعض أقاربه، بتهم الفساد والتربّح وتلقّي رشى خارجية.
وعقب تسلمه مهام منصبه، وكان ذلك في العام 2018، تحرّك سريعاً لاسترداد أموال منهوبة جرى تحويلها إلى الخارج عبر عمليات غير مشروعة من الولايات المتحدة وسويسرا ودول أخرى.
وفي الوقت الذي حوّل مهاتير محمد بلده الى مصاف الدول المتقدمة، حوّلت المنظومة الفاسدة في لبنان نسبة لا بأس بها من الشعب اللبناني إلى ثلة من الساقطين والسافلين والفاسدين! ولا غرابة، لأن حكّام لبنان نُزعت الكرامة والحياء والخجل منهم، ناهيك ان أصولهم جعلتهم بعيدين عن بوصلة الوطن الذي يمثّل لهم فقط: التجارة والسرقة والمال والنهب. إن ما يشهده لبنان، راهناً، هو الترجمة العملية لقول تيودور هرتزل: ” … سنولّي عليهم سفلة قومهم حتى يأتي اليوم الذي تستقبل فيه الشعوب العربية جيش الدفاع الاسرائيلي بالورود والرياحين”! والأدلة على ذلك ساطعة، قاطعة في لبنان. اننا في مرحلة حكم الجهل، وسياسة الغاء الآخر المختلف، ومعس الحريات، ووأد القيم الانسانية، وطمس التراث الحضاري، وتسييد التطرّف، وتعميم الانغلاق الديني والفكري، والعودة بلبنان الى ما قبل الجاهلية، حياةً وفكراً وعيشاً وسلوكاً ومجتمعاً، الخ …
أنتم، يا حكّام لبنان، قبل أي أحد غيركم، مسؤولون عما نحن عليه اليوم، وما القيتم بهذا الشعب في أتونه. في اعناقكم كل نقطة دم، وعلى ضمائركم صرخة كل أم، وانكسار كل طفل، ولوعة كل أب. حكمتم فما عدلتم لأنكم فاسدون ومفسدون. أعمتكم السلطة فضربتم ضرباً عشوائياً. أفقرتم الناس وشبعتم من فقرهم. علمتم أبناءكم وعممتم الجهل على غيرهم. طلبتم رعايا اغناماً تطيع ولا تعترض، ونبذتم (لا بل إغتلتم) المواطنين الذين يعقلون ويفكرون. الحقيقة أنكم أنتم من يحقّق ما وعد به هرتزل الشعوب التعيسة والمنكوبة بحكامها المعاقين فكراً، وثقافة، ورؤى، وخيالاً … ووطنية.
بناء عليه، وبكل فخر واعتزاز، وكما سبق لغيري أن سلك الطريق نفسه، أعلن كُفري بهذا الوطن، وكُفري بكل سياسي ورجل (أو تاجر) دين كتب على نفسه القتل والذبح والتشريد والهتك للعباد والتنكيل بهم، وكُفري بلا مواربة بكل من سخّر قدراته وسلطانه لبناء القصور للقتلة والذبّاحين والمُفرّقين للعباد ومدمري الوطن وهاتكي الأعراض، وكُفري بكل من شتّت العباد فرقاً وقطّعهم مذاهب وطوائف وحرّضهم على التنابذ والتشاتم والتقاتل، وكُفري بكل من حصر نِعَمه ورضاه ببعض الأقوياء وحرّم على الضُعفاء حتى الستر والعفاف، وكُفري المُدوي بكل طبقة رجال الدين (وتجار الدين) الذين يعرضون الدنيا والآخرة في أسواق نخاستهم، وكُفري بكل من ادعى علماً ورأى الطائفة والمذهب ولم يرَ الإنسان، وكُفري بكل من تزعّم وقاد وحرّض حتى سادَ، وكُفري بكل زعيم (وكم أضحى رخيصاً هذا اللقب) أخذ طائفته يميناً ويساراً وباعها ليلاً وإشتراها نهاراً، وكُفري بكل سياسي جهد سنوات عمره ليبني أسوار طائفته أو مذهبه ولم يضع حجراً لبناء وطن، وكُفري بالمحاكم وقُضاتها التي ترى سارق الرغيف ولا ترى سارق البحر والنهر والأرض والشجر، وكُفري بكل دين ومذهب وقانون دعا إلى عصبية، وكفري وقرفي واشمئزازي من كل جماعة صلّت وصامت لأرباب ظلمة وأطاعت رجال دينٍ (أو تجار دين) فرّقوا بين الأديان ومزّقوا أتباعها قٍدداً وصفّقت لرجال سياسة بنوا القصور وعاشوا الفجور وأودعوا أتباعهم القبور.
نعم، وبكل فخرٍ واعتزاز وبكل إيمان، أعلن كُفري بمن سبق ذكرهم، من أرباب سياسة كذبة ورجال دين فجرة وزعماء خونة، وقُضاة ظلمة، وأتباعهم في هذا الوطن، من الأغنام البلهاء الصمّاء الخرساء … حقَّ عليها أن يرعاها ذئب ويقودها كلب ويعظها ثعلب.